الابتلاء وغزوة الأحزاب

عبدالله التميمي
1439/10/13 - 2018/06/27 17:18PM

الحمد لله ؛ ابتلى عبادهُ المؤمنين ، وأجزلَ المثوبةَ للصابرين ، أحمدهُ على ما قدرَ من السراءِ والضراء ، وأشكرهُ على جزيلِ المنحِ والعطاء ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أن محمدا عبدهُ ورسوله ؛ مستهُ البأساءُ والضراء ، وأحاطت به المصائبُ واللأواء ، فصبر َعلى عظيمٍ الأذى ، واحتملَ في سبيلِ اللهِ تعالى شدةَ الابتلاء ، صلى الله وسلم َوبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان واهتدى  أما بعد:

 فاتقوا الله تعالى عبادَ الله ِوأطيعوه ؛ فلنعم زادُ المؤمنِ تقوى اللهِ تعالى وطاعتِه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.

أيها الناس: الإيمانُ والتقوى سببانِ للمحنةِ والابتلاء ، وثمنُ الثباتِ عليهما جنةٌ عرضها الأرضُ والسماء ، وقد حُفتِ الجنةُ بالمكارهِ كما حُفتِ النارُ بالشهوات ، وأفاضلُ الخلقِ من الرسلِ والأنبياءِ عليهمُ السلام ُكانوا أعظمَ الناسِ بلاء ، وأشدَهم امتحانا ، وما أصابهم من البلاءِ لا يطيقهُ سواهم ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ﴾.

ولما سُئل َالنبيُ صلى الله عليه وسلم: (أيُ الناسِ أشدُ بلاء؟ قال: الأنبياء ، ثم الأمثلُ فالأمثل،  فيبتلى الرجلُ على حسبِ دِينه ، فإن كان دينهُ صَلبا اشتدَ بلاؤه ، وإن كان في دينهِ رِقة ًابتلي على حسبِ دينه ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يتركَهُ يمشي على الأرضِ ما عليهِ خطيئة) رواه الترمذي.

وفي شوال ، من السنةِ الخامسةِ من الهجرةِ النبويةِ المباركة ، وقع َابتلاءٌ شديدٌ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصحابتهِ الكرامُ رضي الله عنهم وأرضاهم ؛ إذ رمتهمُ العربُ عن قوسٍ واحدة ، واجتمعت عليهم جموعُ المشركينَ مع غدرِ اليهودِ وتخذيلِ المنافقين ، في واقعةٍ سمُيت بغزوةِ الأحزاب ، ونزلَ في وصفِ شِدتها ومِحنتها آياتٌ بيناتٌ تتلى إلى آخرِ الزمان.

كانت قريشٌ تريدُ الثأرَ لأسيادها الذين قُتلوا في بدر ، وشجعهم على حشدِ الحشودِ وتحزيبِ الأحزابِ جماعة ٌمن يهودِ بني النضير ، ثم اجتمعَ جمع ٌعظيمٌ سماهُ اللهُ تعالى الأحزاب ، قاصدينَ المدينةَ النبوية ، فلما علمَ النبيُ صلى الله عليه وسلم بقدومهم شاورَ أصحابه ، فأشارَ سلمانُ الفارسيُ رضي الله عنه بحفرِ الخندقِ لمنعِ المشركينَ من الوصولِ إلى المدينةِ فحفرهُ المسلمون.

واجتمعَ عليهم مع خوفِ عدوهم وتكالبِ المشركينِ عليهم ، ما يجدونهُ من المخمصةِ الشديدةِ والجوعِ المؤذي ، وهم يحفرونَ الخندق ، وكان ذلكَ في زمنِ الشتاء ، قال جابرٌ رضي الله عنه: (لما حُفرَ الخندق ، رأيتُ بالنبيِ صلى الله عليه وسلم خَمَصا شديدا فانكفأتُ إلى امرأتي ، فقلت هل عندكِ شيء ٌفإني رأيتُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا) رواه الشيخان.

 

وتتواصلُ المحنُ عليهم ، ويعظمُ البلاءُ بهم ، وهم على ما هم فيه من الأمرِ العصيب ؛ إذ سرت في الناسِ شائعةٌ أن اليهودَ داخلَ المدينةِ قد نقضوا عهدَ النبيِ صلى الله عليه وسلم ، وأنهم سيحالفونَ المشركينَ على المسلمين ، وأن الخطرَ قد أحاطَ بنساءِ المسلمينِ وذراريهم داخلَ حصونِ المدينة ، واشتدَ الأمرُ على المسلمينَ فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبرِ القومِ يعني بني قريظة ، قال الزبيرُ أنا، ثم قال: من ياتيني بخبر القوم؟ قال الزبير أنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكلِ نبيٍ حوارياً وحواريِ الزبير)رواه الشيخان.

فأخبر الزبيرُ رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ببوادرِ نقضِ قريظةَ للعهد ، فلما تيقنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نقضهم قال: الله أكبر ، أبشروا يا معشرَ المسلمين) ، إنها بشارةٌ في شدةِ المحنة ، وتفاؤلٌ بقربِ موعودِ اللهِ تعالى مع عِظمِ الكرب واستحكامِ الأمر ، فيا لهُ من يقينٍ باللهِ تعالى لا يتزحزحُ من قلبِ النبيِ صلى الله عليه وسلم مهما عظمت المحنةُ واشتدَ الكربُ واستحكمَ البلاء.

انضم إلى هذه المحنِ والشدائد ِالتي تتابعت على المسلمينَ شدةٌ في إثرِ شدة ، ومحنة ٌتنُسي الأخيرةَ منها ما قبلَها ، انضمَ إليها ظهورُ النفاقِ وتخذيلُ المنافقينَ ببثِ الشائعاتِ والأراجيف ، حتى قالَ قائلُ المنافقين: (كان محمدٌ يعدنا أن نأكلَ كنوز َكسرى وقيصر ، وأحدُنا لا يَقدرُ أن يذهبَ إلى الغائط).

إنها مِحنةٌ عظيمة ، وكَربٌ شديد ، لا يَصمدُ أمامَهُ إلا من كان قويَ الإيمانِ واليقين ، مع تثبيتِ اللهِ تعالى وربطهِ على القلوب ، وإلا فما ظنكم باجتماعِ الخوفِ والجوعِ على النفسِ البشريةِ الضعيفة ، عدوٌ شرسٌ قد حاصرَ المدينةَ يرومَ استئصالَ المسلمين ، في أعدادٍ كثيفةٍ لا يبلغُ المسلمونَ الثلثَ منها ، وعدوٌ في الداخلِ قد عزمَ على نقض ِالعهدِ وخيانةِ المسلمين ، ومنافقونَ مرجفونَ قد فرحوا بمصابِ المسلمين ، وصاروا يُظهرون ما يُخفون ، فمن ذا الذي يثبتُ أمامَ هذا البلاءِ العظيم ، ويواجهُ تلكَ المحن ِالمتلاحقة ِبثباتٍ ويقين؟!

لقد وصفَ القرآنُ العظيمُ هذا البلاءَ بأدقِ وصفٍ وأبلغِه ، وأفصحَ عما أصابَ المؤمنينَ من عظيمِ الشدةِ والكربِ ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ .

 لقد ظنَ المنافقونَ أن المسلمينَ يُستأصلون ، وأيقنَ المؤمنونَ أن ما وعدهم اللهُ تعالى حقٌ وأنه سيظهرُه على الدين كلِّه ولو كره المشركون.

وعندَ استحكامِ البلاء ، وشدةِ الكرب ،  يأتي الفرجُ من الله تعالى ؛ إذ أرسلَ جندهُ على الكافرين ، وخالف بينهم وبين اليهودِ فوقعَ الشرُ بينهم ، بخدعةِ نُعيمِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه ، الذي أسلم َحينئذ ٍوسعى بالوقيعةِ بين المشركينَ واليهود ، وهم لا يعلمونَ إسلامه ، ورأى المنافقونَ ما يسوؤهم من بقاء ِالإسلامِ وأهله ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾.   بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما ....

الخطبة الثانية

الحمد الله حمدا يليق بجلال ربِنا وعظيم سلطانه ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.

عباد الله:  كانت غزوةُ الأحزابِ موطناً عصيبا من مواطنِ الامتحانِ والابتلاء ، اجتازهُ المؤمنونَ الصادقونَ باقتدار، وأخفقَ فيهِ المنافقون ، وهؤلاءِ المؤمنونَ الثابتونَ على دينهم في غزوةِ الأحزابِ ، رُغم ما مر َبهم من ابتلاءاتٍ قد جعلهمُ اللهُ تعالى لنا أسوة ، وأمرنا بالاقتداءِ بهم ، في إيمانهم ويقينهم ، وثباتهِم على دينهم ، وثِقتهم بربهم ، وتصديقهم بموعوده .

 فما أحوجنا إلى التأسي بهم ، والثباتِ على الحقِ كما ثبتوا ، إلى أن نلقى الله َعز وجل غيرَ مبدلينَ ولا مغيرين ، ويتأكدُ ذلكَ في زمنٍ اشتدت فيه المحنةُ على عبادِ اللهِ الصادقين ، ولا ثباتَ على الحق ِإلا بتثبيتِ اللهِ تعالى، فاسألوهُ سبحانهُ الثباتَ على الحقِ إلى الممات.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم كتابه (إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)




المشاهدات 1242 | التعليقات 0