الابتلاء بالعقم

عدنان الدريويش
1446/10/16 - 2025/04/14 07:52AM

 

إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، وقال تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} سورة الكهف .

 

أما بعدُ: إن الولد نعمة جليلة من أعظم النعم التي يمنُّ الله بها على الإنسان، وهو زينة الحياة الدنيا؛ قال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46]، وللأولاد مصالح وفوائد كثيرة في الدارين لا يحصيها إلا الله من الصلة والبر والدعاء للوالدين والإحسان إليهما، واتصال النسب، وإحياء الذكر، والقيام بشؤونهما أحياءً وأمواتًا، وغير ذلك من المنافع العظيمة.

 

 يا عباد الله : قد يمنع الله الولد عن بعض الناس ويجعله عقيمًا؛ كما قال تعالى: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50]. لحكمة لا يعلمها إلا الله  ، وقد يلحق العقيمَ سواء كان رجلًا أو امرأة هَمٌّ وحزنٌ من جراء فَقْد الولد، وهذا أمر طبيعي من الفطرة، لا يؤاخذ عليه المرء شرعًا ولا يُلام على ذلك، فإن صبر واحتسب الأجر على الله وأحسن الظن بربه جُوزي أجرًا عظيمًا، وإن جزع وتسخط وأساء الظن بربه، فاته خير عظيم، وباء بالإثم الكبير.

 

أيها المسلمون : إن سعيُ العقيمِ في تحصيل الولد وبذل الأسباب لا يُنافي التوكل على الله ولا ينقص الإيمان، والإنسان مفطور على حب الولد، ويشترط في ذلك أن تكون الأسباب نافعة سواء كانت أسبابًا عادية مباحة مجربٌ نفعُها؛ كالتداوي بالعقاقير الطبية، أو أسبابًا شرعية دلَّ الشرع عليها؛ كالرقية ونحوها، ولا يجوز بحال تعاطي الأسباب المحرمة من السحر والدجل والأوهام وغير ذلك مما تذهب دين العبد، وتُفسد عقله، وتُضيِّع ماله.

 

 يا عباد الله : إن الدعاء من أعظم الأسباب في حصول الولد؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ))، والحديث حسَّنه الألباني في صحيح الترمذي.

 

نفعني الله وإيَّاكم بهدي نبيه وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قُولِي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفور رحيم.

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله، خلَق فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، وَصَلَّى الله وسلم على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.

قال الله تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} سورة ال عمران .

أما بعد يا عباد الله : نصيحتي لكل من ابتُلي بالعقم التفكُّر في هذه الأمور وتأمُّلها:

أولا : أن يوقن أن ما من أمرٍ قضاه اللهُ وقدَّره إلا لحكمة بالغة، فإذا تفكر في فقد ولده أنه أمر قُدِّر عليه لحكمة- ولو خفيت عليه- حصل له التسليم التام والرضا بذلك، وهذه حالة إيمانية عظيمة، من استشعرها هان عليه الأمر.

 

ثانيا : أن ذلك من البلاء الذي يُبتلى فيه المؤمن في الحياة الدنيا ليرى الله صدقه من كذبه، وإيمانه من نفاقه، وتسليمه من تسخُّطه، وكل يُبتلى بنوع من البلاء، وقد ابتُلي بأغلى شيء فليصبر ، قال تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) سورة العنكبوت .

 

ثالثا : ما يترتب على الصبر من عظم الجزاء ودخول الجنة؛ فالجزاء من جنس العمل، فكلما عظم البلاء عظم الجزاء.

 

رابعا : أنه ربما صرف الله عنه الولد لطفًا به، ودفع عنه أعظم الشرَّين لعلم الله السابق أنه لو رزق ولدًا لكان فتنة له في دينه وشغلًا عن طاعته وعذابًا له، كما قص الله سبحانه عن غلام الخضر حينما قتله؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ [الكهف: 80، 81].

 

خامسا : أن هذا الأمر لم يخصه الله به؛ بل كتبه على طائفة كثيرة ممن قبله أو بعده، يشاركونه في فَقْد الولد، وأن الله كما فاوت بين الناس في الرزق؛ فجعل منهم الغني والفقير، فاوت أيضًا بينهم في هذا الباب؛ فجعل منهم عقيمًا ومنهم ولودًا، والتفكُّر في هذا يُهوِّن الأمر عليه ويُسلِّيه.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله، على نبيكم؛ استجابة لأمر ربكم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.

 

اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأعلِ بفضلكَ كلمةَ الحق والدين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، اللهم وَفِّقْه لِمَا تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، وإلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين، اللهم ارزقهما البطانة الصالحة، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واحقن دماءهم، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتها، وقيادتها، وأمنها، ورخاءها واستقرارها، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم اجعلها دائمًا حائزة على الخيرات والبركات، سالمة من الشرور والآفات، اللهم اصرف عَنَّا شر الأشرار وكيد الفجار، وشرَّ طوارق الليل والنهار، رُدَّ عَنَّا كيدَ الكائدين، وعدوانَ المعتدين، ومكرَ الماكرين، وحقدَ الحاقدينَ، وحسدَ الحاسدينَ، حسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ.

اللهم أبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألف ذات بينهم، وأصلح قلوبهم وأعمالهم، واجمعهم يا حي يا قيوم على العطاء والسنة، يا ذا العطاء والفضل والمنة.

اللهم انصر جنودنا، ورجال أمننا، المرابطين على ثغورنا وحدودنا، اللهم تقبل شهداءهم، اللهم اشف مرضاهم، وعاف جرحاهم، وردهم سالمين غانمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 128]، واغفر لنا ولوالدينا ووالديهم، والمسلمين والمسلمات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

المشاهدات 72 | التعليقات 0