الابتزاز

هلال الهاجري
1446/04/27 - 2024/10/30 06:53AM

الْحَمْدُ للهِ أَهْلِ الْحَمْدِ والثَّنَاءِ، المُتَفَرِّدِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، الْمُسْتَحِقِّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلالِ وَالْعَلاءِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ في الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأشْكُرُه عَلَى السَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ، يَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَأَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصحبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إِلى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:

 فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِوَصِيَّةِ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

فَتَاةٌ فِي عُمُرِ الزُّهُورِ، لَهَا قَلبٌ طَيِّبٌ كَالعُصفُورِ، ظَنَّتْ أَنَّهَا تَعيشُ قِصَّةَ حُبٍّ طَاهِرٍ، ثُمَّ اكتَشَفَتْ أَنَّهَا فِي شِباكِ ثَعلَبٍ مَاكِرٍ، وَبَعدَ أَن كَانَ يَعِدُهَا بِالزَّواجِ والحَياةِ الكَريمَةِ، بَانَ لَهَا بَعدَ الأَوانِ الحَقِيقَةُ الأَليمةُ، فَهِيَ بَينَ التَّهديدِ بالصُّوَرِ والرَّسَائلِ، وبَينَ الابتِزازِ بِأَحقَرِ وأخبَثِ الوَسائلِ، فَكَيفَ لَهَا الخُروجُ مِن هَذهِ المأسَاةِ؟.

شَابٌّ قَد وَقَعَ مِنهُ مَا وَقعَ، ثُمَّ إنَّه عَن طَريقِ الخَطيئةِ رَجَعَ، وَلَكِن لا زَالتْ لَهُ عِندَ بَعضِ الشَيَاطينِ ذِكرَياتٌ، ولا يُحِبُّونَ أَن يَروهُ سَابِقَاً لَهُم إلى الخَيرَاتِ، فَهُو بَينَ بَقَايا وَثَائقَ قَابِلَةٌ للتَّشهِيرِ فِي جَمِيعِ الأَقطَارِ، وبَينَ الابتِزازِ بِالمَالِ والفَضِيحَةِ والعَارِ، فَكَيفَ لَهُ الخَلاصُ مِن هَذهِ المُصيبَةِ؟.

هَذهِ بَعضُ صُوَرِ الابِتِزَازِ القَبيحَةِ، وهَؤلاءِ هُم بَعضُ الضَّحَايَا الجَريحَةِ، ومَا خَفِيَ كَانَ أَعظَمُ وأَثقَلُ عَلى اللِّسَانِ، فَكَم في قَصَصِ الابتِزَازِ مِن مَآسي وأَحزَانٍ، فَتَعَالوا لِنَفتَحَ هَذَا المَلَفَّ واللهُ المُستَعانُ.

أَولاً: إنَّ انتِشَارَ الابتِزَازِ فِي مُجتَمعٍ مِنَ المُجتَمَعاتِ، دَليلٌ عَلى وُجودِ بَعضِ الأَخطَاءِ والمُخَالفَاتِ، والدَّليلُ أَنَّ الابتِزَازَ لا يَكونُ إلا بِشيءٍ يَقدَحُ فِي الشَّرَفِ والأَمَانَاتِ، فَهِيَ آثارٌ وبَقَايا لِمَا كَانَ يَحدثُ في الخَفَاءِ مِن مَعَاصي ومُنكَراتٍ، فَالحَذَرَ مِن التَّسَاهلِ فِي العَلاقاتِ المُحَرَّمَةِ، والانتِبَاهَ مِن الوُقُوعِ في المُعَاملاتِ المُجَرَّمَةِ، فَقَد يَكونُ التَّساهلُ في نَظَرِ اللهِ تَعالى والتَّمَادي، هُو سَببُ تَسَلُّطِ هَذا الظَّالمِ المُجرِمِ العَاديِّ، (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).

ثَانياً: أَنَا لَستُ أَلومُ أَو أُثَرِّبُ بَعَدَ أَن وَقعَ الفَأسُ فِي الرَّأسِ، وَلَكنْ أَقُولُ: انتَبِهوا مِنَ المَعصِيَةِ فَإنَّها شَدِيدَةُ البَّأسِ، يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (أنَّ المَعصِيةَ تُورِثُ الذُّلَّ وَلا بُدَّ؛ فَإنَّ العِزَّ كُلَّ العِزِّ في طَاعَةِ اللهِ تَعَالى، قَالَ تَعَالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، أَيْ: فَليَطْلِبهَا بِطَاعَةِ اللهِ، فَإنَّهُ لا يَجِدُهَا إلا في طَاعَتِهِ، وَكَانَ مِن دُعَاءِ بَعضِ السَّلَفِ: اللهمَّ أَعِزَّني بِطَاعَتِكَ، ولا تُذِلَّني بِمَعصيتِكَ)، فَغَالبُ حَالاتِ الابتِزازِ: مَعصيَةٌ سَبَقَتْ فَأَذَلَّتْ.

ثَالِثاً: إليكَ يَا مَنْ تَعَرَّضتَ لِلابتِزَازِ: إيَّاكَ أَن تَستَسلَمَ لِطَلَباتِ ذَلِكَ المُجرمِ الذي لا خَلاقَ لَهُ، فإنَّكَ سَتَدخُلُ فِي بَحَرٍ مُظلِمٍ لا سَاحَلَ لَهُ، وَلَكِن اتَّصِلْ مُباشَرةً عَلى الرَّقمِ المُوحَّدِ لِمُكَافحَةِ الابتِزَازِ، فَإنَّكَ سَتَجِدُ السِّريَّةَ في التَعَاملِ والدَّعمَ المُنَاسبَ المُمتَازَ، وَمَن صَدَقَ وأَصلَحَ فَإنَّ اللهَ تَعالى (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)، واسمَعُوا لِمَن كَادَ أَن يُقتَلَ بِسَببِ الابتِزَازِ ونَجَّاهُ (وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)، كَانَ مَرْثَدُ بنُ أبي مَرْثَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِن مَكَةَ حَتَى يَأتيَ بهِمُ المدينةَ، وَكَانَتِ امرأةٌ بَغِيٌّ بمكةَ يُقالُ لها عَنَاقٌ، وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ فِي الجَاهِليَّةِ، وَكَانَ قَد وَعَدَ رَجُلًا مِن أُسَارَى مَكَةَ يَحْمِلُهُ، قَالَ: فجِئْتُ حتى انْتَهَيْتُ إلى ظِلِّ حَائِطٍ من حَوَائِطِ مَكَةَ في لَيلَةٍ مُقْمِرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَتْ عَنَاقٌ فأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظِلِّي بجَنْبِ الحَائطِ، فلما انْتَهَتْ إلَيَّ عَرَفَتْ، فَقَالَتْ: مَرْثَدٌ، فَقُلتُ: مَرْثَدٌ، قَالَتْ مُبتَزَّةً: مَرْحَبًا وأَهْلًا، هَلُمَّ فَبِتْ عِنْدَنا الليلةَ، قُلتُ: يَا عَنَاقُ، حَرَّمَ اللهُ الزِّنَا، قَالَتْ: يَا أَهْلَ الخِيَامِ، هَذَا الرَّجلُ يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ، قَالَ: فتَبِعَنِي ثَمَانِيَةٌ، وَسَلَكْتُ الخَنْدَمَةَ، فانْتَهَيْتُ إلى كَهْفٍ أو غَارٍ فَدَخَلْتُ، فَجَاءوا حَتَى قَامُوا عَلَى رَأْسِي فبَالُوا فظَلَّ بَوْلُهُم على رَأْسِي، وأَعْماهُمُ اللهُ عَنِّي، قَالَ: ثُمَّ رَجَعُوا ورَجَعْتُ إلى صَاحِبِي فحَمَلْتُهُ، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا حَتى انْتَهَيْتُ إلى الإذْخِرِ ففَكَكْتُ عنه كَبْلَهُ، فجَعَلْتُ أَحْمِلُهُ ويُعْيِينِي حَتَى قَدِمْتُ المدينةَ، وَهَكَذَا كُلُّ مَن تَابَ واعتَصَمَ باللهِ تَعالى مِنَ الابتِزَازِ والتَّهديدِ، واستَعَانَ بِالجِهَاتِ المُختَصَّةِ فَإنَّهُ يَجدُ العَونَ والمُسَانَدَةَ والتَّأييدَ.

أَقولُ مَا تَسمَعونَ وَأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ لي وَلَكم مِنْ كُلِّ ذَنبٍ فَاستغفِروه؛ إنَّهُ هُو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ المَحمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ حَالِ أَهلِ الضَّلالِ، وَأَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ الكَبيرُ المُتَعالُ، وَأَشهدُ أنَّ نَبيَّنَا مُحمداً عَبدُهُ وَرَسولُهُ، المَجبُولُ عَلَى جَميلِ الفِعَالِ، وَكَريمِ الخِصَالِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلَّمْ تَسليماً كَثيراً، أَمَا بَعدُ:

رَابعَاً: إليكَ يَا مَنْ يَبتزُّ المُسلِمينَ والمُسلِمَاتِ: أَتعلَمُ مَن خَصمُكَ في تَتَبُّعِ العَوراتِ؟، إنَّه اللهُ رَبُ الأرضِ والسَّمَواتِ، يَقولُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسلمِ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، يَفْضَحْهُ وَلو في جَوفِ بَيتِهِ)، فَأَبشرِ بِالفَضيحةِ والخِزيِّ والعَارِ، إذا كَشَفَ عَورَتَكَ عَالِمُ الأَسرارِ، وإذا كَانَ مَن يُحبُّ إشَاعَةَ الفَاحشَةِ لَهُ عَذابٌ أليمٌ كَمَا قَالَ اللهُ سُبحَانَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، فَكيفَ بِالذي يُشيعُهَا ويُحبُّ بَقَاءَها بِالابتِزَازِ؟.

وهَل تَعلَمُ أَنَكَ تُنَاقِضُ إرَادَةَ اللهِ تَعالى الشَّرعيَّةَ؟، فَاللهُ عَزَّ وَجلَّ يُريدُ مِن عِبَادِهِ التَّوبَةَ والرُّجوعَ، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)، وأَنتَ مِن أُولئكَ الذينَ قَالَ فِيهِم: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا).

خَامِساً: يَنبَغي لِلمُجتَمعِ أَن يَكونَ ضِدَّ هَذِه الجَريمَةِ المَخذُولةِ، التي لا يُقِرُّها دِينٌ ولا مُروءةٌ ولا رُجولةٌ، بِتَحذِيرِ الظَّالمِ مِن هَذا الفِعلِ الخَبيثِ المَشينِ، ومَن مُسَاعدةِ المَظلُومِ عَلى الخُروجِ مِن أَسرِ المُبتَزِّينَ، فَكَم أَفسَدَتْ هَذِهِ الجَريمةُ مِن أَخلاقٍ، وكَم هَتَكَتْ مِن أَعراضٍ، وكَم سَلَبَتْ مِن أَموالٍ، بَل وَكَم انتَحَرَ بِسَبَبِها مِن أَرواحٍ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ فَإنَّ آثَارَ خَطِيئَةِ اليَومَ قَد تَكونُ سَبَباً لابتِزَازِ المُستَقبَلِ، وكَمَا قِيلَ: العَاقِلُ خَصيمُ نَفسِهِ.

اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْبَلَاءَ وَالْوَبَاءَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَ أَمرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُمَا الصَّالِحَةَ فِي رِضَاكَ، وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المرفقات

1730260425_الابتزاز.docx

1730260434_الابتزاز.pdf

المشاهدات 935 | التعليقات 0