الإيمان يصنع المعجزات
عبدالله حمود الحبيشي
الخطبة الأولى
إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ..
أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. هل تصدقون بأن الإنسان قد يتغيير من حال إلى حال في دقائق .. لو قلنا أن أحدنا دخل إلى هذا المسجد بقلب وخرج منه بقلب آخر فتغيير من حال الغفلة والبعد عن الله إلى حال اليقظة والقرب من الله .. من حال التقصير والتكاسل والتفريط إلى حال الجد والاجتهاد والحرص على كل ما يرضي الله والبعد عن كل ما يستخطه سبحانه .. هل يصعب تصديق هذا .. لا والله لا يصعب ذلك فقد حصل أعظم من ذلك .. يتحول الإنسان من حال الكفر والحرب لله ولرسله إلى حال الإسلام والدفاع عنه والثبات عليه والقوة في الحق . من حال القسوة والعناد إلى حال اللين والأنقياد .
ألم نسمع بما حصل مع سحرة فرعون ..
إنهم علماء السحر وكبار السحرة أتى بهم فرعون وجمعهم ليحارب بهم موسى وما جاء به من الآيات البينات .. فماذا كانت غايتهم وما هي مطالبهم (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) إنهم يطلبون مالا ، فوعدهم به ، بل زادهم إغراءا ومكافأة (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) .
فتعلقت قلوبهم بفرعون وعظموه في أنفسهم بل أقسموا به قبل أن تبدأ المنازلة (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) .
وجاء دور موسى عليه السلام (فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) .
فماذا بعد .. ماذا تغيير ..
هذا حالهم الأول .. فكيف حالهم بعد ذلك .. كيف حالهم حين تبين لهم الحق ورأوا الآيات البينات وهم أعرف الناس بحقيقتها وأنها ليست بسحر ..
في دقائق معدوده ولحظات محسوبه تبدل كل هذا .
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ) .
أين طمعهم بالمال .. أين الجاه والمنصب .. كل ذلك تلاشى في لحظه .. هل تأملتم ليس في أيام ولا ساعات بل في لحظات .
وأعظم من ذلك فقد يكون الإنسان حال الأمن يقوى على كل شيء ولكن حال الخوف والتهديد تختلف الأمور .
فهددهم فرعون وتوعدهم لتغيير حالهم (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ) إنه تهديد شديد وعقاب مرعب بأن تُقطع الأيدي والأرجل من خلاف ، وفوق هذا يُصلبون على النخل ..
إنهم السحرة الطامعون بالمال والجاه .. فقد يذهب هذا كله
إنهم السحرة لهم آباء وأمهات ولهم زوجات وأبناء يخافون عليهم ويخشون عليهم من هذا المصير القاسي .
فما هو جوابهم .. إنها لحظه حاسمة وموقف عصيب .. الجميع يترقب .. الجميع ينتظر ماذا سيجيب السحرة على هذا التهديد ( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) لقد تحول الطمع في الدنيا إلى طمع آخر (إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) ولا شك أن الإنسان قد يصيبه شيء من الخوف والجزع فبمن يعتصمون وبمن يلجأون (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) .
إنهم لم يتغيروا من حال التقصير إلى الجد والعزيمة ، ولم يكونوا غافلين وتنبهوا ، بل كانوا كفارا فأسلموا .. كانت قلوبهم ميته فدبت فيها الحياة ، فما الذي حصل وما الذي غيرهم ..
(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا) إنه الإيمان ولا شيء غير الإيمان .
الإيمان حينما يتغلغل ويصل إلى سويداء القلوب يفعل الأعاجيب بصاحبه .. الإيمان هو الذي يهيئ النفوس لتَقْبَلَ المبادئ مهما يكن وراءها من تكاليف وواجبات ، وتضحيات ومشاق ، وسب وشتم من الآخرين .
إنه العنصر الوحيد الذي يغير النفوس تماماً بتوفيق الله وهدايته ، فيصبح المؤمن بعد ذلك شيء جديد غير الذي كان عليه .. تتغير أهدافه وافكاره وسلوكياته .
إن الإيمان لم يُحول السحرة المحاربين لله ولرسوله الطامعين بالدنيا وملذاتها ومناصبها .. لم يحولهم إلى مسلمين جامدين .. ولم يحولهم إلى مسلمين منعمين أو خانعين ذليلين .. بل حولهم إلى مسلمين صابرين أقوياء ثابتين لا يردهم تهديد ، ولا يخوفهم وعيد ، وأصبحوا هم الدعاة الناصحين المصلحين .. ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ) قال ابن عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء .
ما أعظم الإيمان حين يسكن القلوب يملأها رضا ويقينا وثباتا وقوة اللهم أعمر قلوبنا بالإيمان .
الإيمان حين يغزوا القلوب تتغير النظرة والأفكار والرغبات والمفاهيم.. ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ دخل المدينة أسيرا يحمل قلبا وعاد إلى أهله بقلبٍ آخر حين أُطلق سراحه وفُك اسره وخرج من المسجد عاد إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فقال : يا محمد. والله ما كان على ظهر الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، ووالله ما كان دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، ووالله ما كان بلد أبغض إليّ من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ .
إنه الإيمان ولا شيء غير الأيمان ..
فيا من تريد سعادة الدنيا عليك بالإيمان .
يا من تريد تغيير حياتك للفلاح والنجاح عليك بالإيمان
يا من تريد الحياة الطيبة والراحة عليك بالإيمان
يا من تريد الفوز بالجنة والنعيم المقيم تأكد من إيمانك
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وأجعلنا من الراشدين .. اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية ..
الحمد لله ..
أما بعد عباد الله .. الإيمان يصنع المعجزات ، ويفجر الطاقات ، ويُعلي الهمم ، ويعز النفوس ، ولا فرق بين الرجال والنساء في ذلك..
فهذا عمر .. ومن عمر قبل الإسلام والإيمان .. رجل جاهلي ، شديد في الباطل ، قوي في البطش ، يُعظّم شجرا ، ويسجد لحجر ، كان حمار الخطاب أقرب للهداية من عمر من قسوة قلبه .. ولكنه في لحظه قذف الله الإيمان في قلبه فبدل حاله .. أمر بقطع شجرة الرضوان التي بايع الصحابه تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تُعظم ولا تتعلق القلوب بها .. يقف أمام الحجر الأسود فيقول: أيها الحجر إني أقبلك وأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك .
عمر رضي الله عنه يبلغ من سمو عاطفته ، ورقة قلبه ، وخشيته لله ما ملأ صفحات التاريخ بصور الرحمة الشاملة للمسلم وغير المسلم .. كان رقيق القلب سريع الدمعة .. يقول عبدالله بن شداد سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ قوله تعالى في سورة يوسف (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) ..
إنه الإيمان يعيد صياغة الإنسان وكأنه يولد من جديد .
وأما النساء فلهن مع الإيمان شأن .. فهذه الخنساء تماضر بنت عمرو رضي الله عنها التي فقدت في الجاهلية أخاها (صخراً) فملأت الآفاق عليه بكاءً وعويلاً وشعراً حزيناً، ومن شعرها قولها :
يذكرني طلوع الشمس صخراً ** وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حــولي ** على إخوانهم لقتلت نفسـي
حين لم يكن إيمان في القلب ففقدت فردا واحدا من أسرتها كان هذا حالها .. فكيف حالها حين سكن الإيمان قلبها .. لقد أصبحت شيء آخرا أعظم وأكرم .. نراها أُماً تقدم فلذات كبدها إلى الميدان، إلى الجهاد والقتال والموت وحين جاءها خبر استشهادهم جميعا .. ليس واحدا ولا اثنان ولا ثلاثه بالأربعة كلهم قُتلوا في سبيل الله فحين بلغها الخبر لم تلطم خداً ، ولم تشق جيباً، ولكنها استقبلت الخبر بإيمان الصابرين، وصبر المؤمنين وقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته .
ما الذي تغير في الخنساء الحزينة الباكية النائحة ، إلى خنساء الصبر والفداء والتضحية؟ إنه الإيمان الصادق بالله عز وجل إذا سكن القلوب غيرها من حال إلى حال .
قال عليه الصلاة والسلام (إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلبِ واحِدٍ يصرِفُهُ حيثُ يشاءُ) ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ (اللَّهمَّ مُصرِّفَ القلوبِ صرِّف قلوبَنا على طاعتِكَ) .
وفي كل زمان ومكان نجد رجالاً ونساءً كانوا يعيشون في الشر والفساد فأراد الله لهم الهداية والتوفيق فعاشوا بقية حياتهم حياة إسلامية إيمانية غيرت تلك الحياة الأولى .
فلنحرص على زيادة الإيمان .. فالإيمان يزيد وينقص .. يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وللإيمان حلاوه لا يتذوقه إلا من رضيَ باللَّهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا ، وبمحمَّدٍ رسولًا .
نسأل الله أن يعمر قلوبنا بالإيمان