الإيمان باليوم الآخر
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الظاهرِ الباطنِ الأولِ الآخِر، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا آخَر، شهادةً أرجو بها النجاة في اليوم الآخِر، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله النبيُّ الآخِر، صلى الله عليه وعلى آلِه الطاهر، وصحبه الزاهر، وتابعيهم ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى اليوم الآخِر، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستعدوا ليوم لقاه، بإخلاص العمل لله، والسعي في رضاه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
عباد الله.. فإن هذه الحياة دنيا ومُنْقضيَة الزمان، فالموت نازلٌ بكل إنسان، والشأن كلُّ الشأن، فيما بعد الموت من الأحوال، التي تكون بحسب الأعمال، فنؤمن بالبرزخ وما يكون بعد الموت من عذاب القبر ونعيمِه، وتوسيعِ القبر وتضييقه، وضَمَّةِ القبر وضغطَتِه، وفتحِ بابٍ إلى الجنة أو إلى النار، وسؤالِ الملكين الفتانين منكرٍ ونكير، وتمثّلِ العملِ بالرجلِ الحسن المنظر أو الرجل القبيح المنظر.
والقبرُ أولُ منازلِ الآخرة، فالإيمان بما يكون فيه من الإيمان باليوم الآخر الذي لا يصح إيمانُ عبدٍ إلا به، كما يشمل الإيمانُ باليوم الآخر: الإيمانَ بما أخبر الله به أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون في آخر الزمان، من أشراط الساعة الكبرى التي آخرها النارُ التي تسوق الناس إلى المحشر، والريحُ التي تَقبضُ أرواحَ المؤمنين والمؤمنات، ثم تقومُ الساعةُ على الكفرة وذلك إذا أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور النفخة الأولى وهي نفخة الصعق والموت، ثم بعدها النفخة الثانية وهي نفخة البعث.
كما يشمل الإيمانَ ببعثِ الأجسادِ ودخولِ الأرواحِ فيها، فتدخلُ كلُّ روحٍ في جسدِها بعد أنْ يَأْمُرَ اللهُ إسرافيلَ بالنفخِ في الصورِ النفخةَ الثانيةَ نفخةَ البعث، وقبلَها النفخةُ الأولى وهي نفخة الصعقِ والموت، قال الله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾.
أيها المؤمنون.. ويشمل الإيمانُ باليوم الآخر: الإيمانَ بالحشر والنشر، فاللهُ تعالى يَبعثُ الخلائقَ ويَحشرُهم ويَجمعُهم في صعيدٍ واحد للحساب حينما يخرجون من قبورهم حفاةً لا نعالَ لهم، عراةً لا ثيابَ عليهم، غُرْلًا غيرَ مختونين، فيُحاسِبُهم على أعمالِهم في وقتٍ واحد، لا يُلْهِيْهِ شأنٌ عن شأن سبحانه وتعالى، ويَفْرُغُ من حسابهم قِدْرَ منتصفِ النهار، ويَقِيْلُ أهلُ الجنة في الجنة كما قال الله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾.
ويجازي اللهُ العبادَ على أعمالهم، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌ، كما قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، ويُعطَونَ الصُّحُفَ بالأَيمان أو بالشمائل، فالمؤمنون يُعطَون صحفهم بأيمانهم والكفار يعطون صحفهم بشمائلهم مِن وراء ظهورهم.
عباد الله المؤمنين.. ويشمل الإيمانُ باليوم الآخر: الإيمانَ بالشفاعة، وهي أنواع، فمنها: الشفاعة التي تكون في موقف القيامة وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي يغبطه فيها الأولون والآخرون، وهي التي يتأخر عنها أولوا العزم، وهي لإراحة الناس من الموقف بالحساب.
ومنها: الشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب، وهي خاص بنبينا صلى الله عليه وسلم وبعمّه أبي طالب.
ومنها: الشفاعة لأهل الجنة للإذن لهم في دخولها وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: الشفاعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة، وزيادة ثوابهم، وهذه مشتركة، فليست خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: الشفاعة في قوم مؤمنين استحقوا دخول النار بكبائر ألا يدخلوها.
ومنها: الشفاعة في قوم من المؤمنين من أهل الكبائر دخلوا أن يخرجوا منها.
والشفاعة الـمُثْبَتَةُ تكون لأهل التوحيد بشرطين:
- إذن الله للشافع كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾.
- ورضاه عن المشفوع له، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾.
وقال تعالى في الشرطين: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾.
يشمل الإيمانُ باليوم الآخر أيضا: الإيمانَ بالميزان، فنؤمن بأنه ميزانٌ حِسِّيٌّ له كِفَّتَان، الكِّفَّةُ أعظمُ من أطباق السماوات والأرض، تُوزَنُ فيهما الأعمالُ والأشخاصُ، كما قال الله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾، وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة».
فمن ثَقُلَت موازينُه نجا وفاز، ومن خَفَّتْ موازينُه خَسِرَ وهَلَك، قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.
ويشمل أيضًا: الإيمانَ بالحوض في موقف القيامة، وهو حوضُ نبيِّنَا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، طولُه مسافةُ شهر، وعرضُه مسافةُ شهر، وأَوَانِيْهِ عددُ نجومِ السماء، يَصُبُّ فيه ميزابانِ مِن نهرِ الكَوثرِ في الجنة، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأبردُ من الثلج، وأطيبُ ريحًا من المسك، مَن شَرِبَ منه شَربةً لم يَظْمَأْ بعدها أبدًا حتى يدخل الجنة.
كما يشمل أيضًا: الإيمانَ بالصراط، فنؤمنُ بأنه صراطٌ حِسِّيٌّ منصوبٌ على مَتْنِ جهنم، يَـمُرُّ الناسُ عليه على قدرِ أعمالهم، فأوَّلُهم كالبرق، ثم كالريح، ثم كأجاودِ الخيل والركاب، ثم الرُجل يَعْدُو عَدْوًا، ثم الرجلُ يمشي مَشْيًا، فناجٍ مُسَلَّم، ومُكَرْدَسٌ على وجهه في النار، وعلى الصراطِ كلاليبُ تَخْطَفُ من أُمِرَتْ بِخَطْفِه، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم قائمٌ على الصراط يقول: «اللهم سلِّم سلِّم»، بهذا جاءت الأحاديث، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، وتوفانا على التوحيد والسُّنَّة، وأجارنا من النارِ وأدخلنا الجنة، إنه سبحانه ذو الفضلِ والمِنَّة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين، فاستغفروه إنه سبحانه غفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على إنعامه، وأسأله بلوغ رِضوانِه، أشهد ألا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه -إخوانِه الذين أتوا بعده فآمنوا به وصدَّقوه ولم يَروه، جعلنا الله منهم بتوفيقِه وامتنانِه-، أما بعد:
فإنَّ الجنةَ دارُ كرامةِ الله ورحمتِه، أَعدَّها لأهل التوحيد والإيمان، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، وأعظمُ نعيمٍ في الجنةِ يَلْقاه أهلُ الجنة هو رؤيةُ اللهِ تبارك وتعالى، وحلولُ رضوانِ الله عليهم فلا يسخط عليهم أبدا.
والجنةُ -عبادَ الله- درجات، كلُّ درجةٍ عُلْيا أعظمُ نعيمًا من الدرجةِ التي تحتَها، والفِردوسُ أعلى الجنةِ وأوسطُها وفوقَه عرشُ الرحمن -جعلنا الله من أهلها بمنِّه وكرمه-.
والنارُ دارُ عدلِ الله وحكمتِه، أعدَّها اللهُ لأهلِ الشركِ والكفرِ والجحودِ والنفاق، فيها العذابُ السَّرْمَدِيّ، وفيها الأغلالُ والسلاسلُ والحميمُ والغَسَّاق، وكلُّ دَرَكَةٍ سُفْلَى أشدُّ عذابًا من الدَرَكَةِ التي فوقها؛ والمنافقون في الدَرْكِ الأسفلِ من النار.
والجنةُ والنارُ مخلوقتان الآن، لا تفنيان ولا تبيدان، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار ليلة المعراج، وفي صلاة الكسوف.
المرفقات
1699562453_خطبة عن الإيمان باليوم الآخر.docx
1699562453_خطبة عن الإيمان باليوم الآخر.pdf