الإنكار بالقلب

هلال الهاجري
1444/05/26 - 2022/12/20 20:38PM

الحمدُ للهِ الذي قَالَ في كِتَابِهِ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ)، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأَشهدُ أن مُحمداً عَبدُهُ ورَسولُهُ الذي كَانَ قُدوةَ للمؤمنينَ في الأَمرِ بِكل ِخَيرٍ، والنَّهي عَن كُلِّ شَرٍّ، صَلى اللهُ عَليهِ وَسلمَ تَسليماً كَثيراً إلى يَومِ مَبعثِهِ، أَما بَعدُ:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً)

وأنتَ في مَجلسٍ من المجالسِ الخاصَّةِ، أو في مَكانٍ من الأماكنِ العَامةِ، وإذا بِكَ تَرى أو تَسمعُ مَنكَراً من المُنكراتِ، يُغضِبُ رَبَّ الأرضِ والسَّماواتِ، فَما هو مَوقِفُ المُسلمِ الذي يُحبُّ رَبَّهُ، وَيَخشى غَضبَهُ؟.

في مِثلِ هَذهِ المَواقفِ، لَيسَ للمُسلمِ إلا وَاحدةً مِن ثلاثٍ لا رَابعَ لَهم:

الأولى: الإنكارُ باليدِ لِمن كَان لَهُ وِلايةٌ على الحاضرينَ، أو سُلطةٌ على المَوجودينَ، والثَّانيةُ: الإنكارُ باللسانِ لَمن لا يَخشى الضَّرَرَ، ولا يُؤدي إنكَارُه إلى مَنكرٍ أكبرَ، والثَّالثةُ: الإنكارُ بالقَلبِ وهو كَراهيةُ المُنكرِ وبُغضُه بالقَلبِ، وهَذه الدَّرجةُ لا عُذرَ لأحدٍ بتَركِها، ولا ضَررَ يَقعُ عَلى صَاحبِها، يَقولُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ).

خِطابي اليَومَ للقُلوبِ عِندَما تَكونُ آخرَ مَعَاقلِ الإيمانِ، في شَعيرةٍ مِن شَعائرِ الإسلامِ بَل رُكنٍ مِن الأركانِ، وخَاصةً ونَحنُ في زَمانٍ قد لا يُستَطاعُ فِيهِ الإنكارُ باليَدِ واللسانِ، فإذا لم يُغَيَّرْ المَنكرَ بِالقَلبِ فَيوشكُ المَنكرُ أن يُغَيِّرَ الإنسانَ، فَوا عَجَباً لِزمانٍ أصبَحَنَا نَحتَاجُ فِيهِ التَّثبيتَ على أضعفِ الإيمانِ.

فزَمنُ الفِتنِ وكَثرةٌ المُنكَراتِ لَه أثرٌ عجيبٌ في إماتةِ القُلوبِ، حتى تُصبحَ مُتَبَلِدَةً لا تُبالي بالذُّنوبِ، كما جاء في الحديثِ: ( تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ)، عِندها لا تَسلْ عَن الآثارِ المُدَمرةِ، عِندَما تَكونُ القُلوبُ مُتَحَجِّرةً.

أيها الأحبةُ .. مِن لوازمِ الإنكارِ بالقلبِ هو مُغَادرةُ المَكانِ في الحَالِ، وكَيفَ يَجلسُ في مَكانٍ يُعصى فيهِ الكَبيرُ المَتَعالُ، وإلا يَكونُ شَريكاً في مُنكراتِ الأقوالِ والأفعالِ، كَما قَالَ سُبحانَه: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).

أتَعلمونَ ما الذي بَدَّلَ حَالَ بَني إسرائيلَ مَن العِزِ والتَّفضيلِ، إلى اللعنةِ والمَقامِ الذَّليلِ؟، اسمعْ إلى قَولِ اللهِ تَعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ)، فَما هو نَوعُ العِصيانِ والاعتداءِ الذي فَعَلوه؟، (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

فتَركُ النَّهيِّ حتى لو بالقلبِ عن المنكراتِ، سَبَباً لِنُزولِ العَذابِ والعُقوباتِ، يَقولُ صَلى اللهُ عَليهِ وَسلمَ: (والَّذي نفسِي بيدِه، لتَأمُرنَّ بالمعروفِ، ولتَنهونَّ عَنِ المنكرِ، أو ليوشِكنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عِقابًا منه، ثمَّ تدعونَه فلا يُستجابُ لكم(، فإذا نزلَ العِقابُ من السَّماءِ، ولَم يَستَجبْ اللهُ الدَّعاءَ، فَأينَ النَّجاءُ؟.

باركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أَقولُ هذا القَولَ وأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، وليِّ المؤمنينَ، أَحمدُ ربي وأَشكرُه وأَتوبُ إليه وأَستغفرُه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لَهُ يُحبُ المتقينَ، وأَشهدُ أن نبيَّنا وسَيدَنا مُحمداً عَبدُه ورَسولُه بَعثَه اللهُ بالهَدى واليقينِ؛ اللهمَّ صَلِّ وَسلمْ وبَاركْ على عَبدِكَ ورَسولِكَ مُحمدٍ وعَلى آلِهِ وصَحبِهِ أَجمعينَ، أَما بَعدُ:

هَذهِ القُلوبِ هِيَ مَحلُ نَظرِ اللهِ تَعالى، فَماذا يَنظرُ اللهُ سُبحانَه فِيهِا عِندما تَرى مُنكراً ولا تَستطيعَ تَغييرَهُ باليَدِ أو اللسانِ، اسمعْ إلى وَصيةِ ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ في زَمنِ الفِتنِ، قَالَ: (إِنَّهَا سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَبِحَسْبِ امْرِئٍ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ لَهُ تَغْيِيرًا، يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ).

فوجودُ الإنكارِ بالقلبِ يَعني بَقاءَ الحقِّ حتى لو كانَ الباطلُ هو الظاهرَ للنَّاسِ، فَفي زَمنِ الإمامِ أحمدَ رَحِمَهُ الله وقد انتشرَ القولُ بِخَلقِ القُرآنِ، وأَصبحَ هو القَولَ السَّائدَ في البلادِ بِقُوةِ السَّلطانِ، قِيلَ للإمام أَحمدَ رَحِمَهُ اللهُ: يَا أبا عَبدِ اللهِ أَوَلا تَرى الحقَّ كَيفَ ظَهرَ عَليهِ البَاطلُ؟، قَالَ: كَلَّا، إنَّ ظُهورَ البَاطلِ عَلى الحقِّ، أنْ تَنتقلَ القُلوبُ من الهُدى إلى الضَّلالةِ، وقُلوبُنا بَعْدُ لازِمَةً لِلحَقِّ، وَصَدقَ رَحِمَهُ اللهُ.

إنَّ مِما يُخافُ مِنهُ في هذا الزَّمانِ، أن يُصيبَ القَلبَ اليأسُ والإحباطُ بِسَببِ كَثرةِ المُنكراتِ الظَّاهرةِ، وَشِدَّةِ الأحوالِ القَاهرةِ، فَيَقولُ: لا فَائدةَ مِن الإنكارِ، فَيسقُطُ آخرُ الثُّغورِ، وَقدْ جَاءَ في الحديثِ: (وليسَ وراءَ ذلكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)، فَمَاذا بَعَدَ هَزيمةِ القَلبِ في مَعركةِ الإنكارِ، إلا انتظارَ عِقابِ العَزيزِ الجبَّارِ.  

اللهمَّ انصرْ من نَصرَ دِينَكَ وكِتابَكَ وسُنةَ نَبيِّكَ، اللهمَّ انصرْ عِبادَكَ المستضعفينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ كُنْ لهم نَاصرًا ومُعيناً وحَافظًا ومُؤيداً، اللهمَّ آمِنَّا في أَوطانِنا، وأَصلحْ أئمتَنا وولاةَ أُمورِنا، واجعلْ ولايتَنا فيمن خَافَكَ واتَّقاكَ واتبعَ رِضاكَ يَا ربَّ العَالمينَ، اللهمَّ وفِّقْ وليَ أَمرِنا لما تُحبُهُ وتَرضاهُ من سَديدِ الأقوالِ وصَالحِ الأعمالِ، اللهمَّ سَددهُ في أَقوالِهِ وأَعمالِهِ وارزقهُ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ربَّ العَالمينَ، اللهمَّ ولِّ على المسلمينَ أَينما كَانوا خِيارَهم، واصرفْ عَنهم شِرارَهم، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تَقواها، زكها أنتَ خَيرُ من زَكاها، أَنتَ وليُها ومَولاها، اللهمَّ إنا نَسألُكَ الهُدى والتُّقى والعِفةَ والغِنى، اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وقِنا عَذابَ النارِ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ.

المرفقات

1671557894_الإنكار بالقلب.docx

1671557908_الإنكار بالقلب.pdf

المشاهدات 1019 | التعليقات 0