الإنكار بالقلب

سامي بن محمد العمر
1440/04/06 - 2018/12/13 18:18PM

الإنكار بالقلب - التألي على الله

أما بعد:
فإن بداخل كلٍ منا شيئا يجب أن يبقى حياً وإن زادت الأدواء، ثابتاً وإن عظم البلاء، متزناً وإن طفح الغثاء.
يجب أن تبقى جذوتُه، وتدوم شعلتُه، وتظل أنواره في القلوب الحية وإلا.. لُعِنّا.
يجب أن يشفى إن مرِض، ويَذكُرَ إن غَفَل، ويستيقظ إن نام وإلا.. عُذّبنا. 
الضمير الحي والوازع الإيماني في القلب.. آخر قلاع الدفاع وحصونِ الممانعة ضد طغيان المنكر وأهله.
الضمير الحي والوازع الإيماني في القلب... آخر درجات الإنكار التي لا يعذر أحد بتركه.
الوازع الإيماني القلبي الذي يتمنى صاحبه بصدق زوال ذاك المنكر الذي لم تُستطَع إزالته.
الوازع الإيماني القلبي الذي يدل على كراهية المنكر والنفور منه.
الوازع الإيماني القلبي الذي يدل على مقاومة المرء لضغط الواقع، ومجاهدته لما تشاهده العين من كثرة المنكرات حتى لا يألفها وتذهب حساسية قلبه تجاهها.
عباد الله:
أفيعجز المؤمن أن يتمعر وجهه إذا رأى منكراً؟
أفيعجز المؤمن أن يكره انتشار الغثاء؟
أفيعجز المؤمن أن يفارق أماكن البلاء؟
أفيعجز أن يُري الله في قلبه حرقةً على حدوده التي انتهكت، وألماً على أوامره التي عطلت؟
أفيعجز بعمل يسير أن ينقذ نفسه من مغبة المنكر وآثره وعقوبته؟
يقول الله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها – وفي رواية – فأنكرها – كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)).
أيها المؤمنون:
إننا نتحدث عن مرتبة الإنكار بالقلب التي بدت تندثر في قلوب البعض، حتى ظهرت منهم علامات الرضا والقبول والاستسلام.
مرتبة الإنكار بالقلب هي المرتبة التي لا يعذر أحد بتركها، ولا تسقط عن المؤمن بأية حال.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم.
ومرتبة الإنكار بالقلب هي آخر ضمانات الأمن من العقوبة، وهي علامة صفاء القلب وحيويتِه وإيمانِه، وهي علامة ممانعته لكل ما يغضب الله تعالى وعدم استسلامه له، ولذا عدها النبي صلى الله عليه وسلم إنكاراً مع أن المرء لم يفعل ولم يتكلم!
فقال صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وإذا كره المسلمون المنكر بقلوبهم لم يستطع بنفسه أن يغير واقعهم ما لم ينقادوا إليه ويتفاعلوا معه،، وحين يحدث ذلك تقع الطامة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة: 78، 79].

عباد الله:
اعلموا أن الإنكار بالقلب: إنما يعني بغض المعصية وكراهيتها وكراهية العمل بها، وهذا لا يعارض التعامل مع صاحبها بالحسنى، أو التبسم في وجهه، في غير وقت فعله للمنكر، مع حفظ حقه، ورد الغيبة عنه:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ .. إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) . رواه البخاري (6780).
وكل هذا من المداراة التي هي من أقوى أسباب الألفة والمحبة بين المؤمنين؛ والتي تعني: خفضَ الجناح للناس، ولينَ الكلمة، وتركَ الإغلاظ لهم في القول، والرفقَ بالجاهل والإنكارَ عليه بلطف . فتح الباري (10/ 528)
والمداراة في الإسلام أمر مندوب إليه؛ بخلاف المداهنة المحرمة: التي تعني معاشرةَ الفاسق، وإظهارَ الرضا بما هو فيه، من غير إنكار عليه.
وفي الأثر: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَصَابَ ذَنْبًا، فَكَانُوا يَسُبُّونَهُ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَجَدْتُمُوهُ فِي قَلِيبٍ أَلَمْ تَكُونُوا مُسْتخْرِجِيهِ؟ ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَلَا تَسُبُّوا أَخَاكُمْ وَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي عَافَاكُمْ ، قَالُوا: أَفَلَا تَبْغَضُهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَبْغَضُ عَمَلَهُ، فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة:
استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير .
واستحق من المعاداة والعقاب : بحسب ما فيه من الشر .
فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة .
\بارك الله لي ولكم ...

الخطبة الثانية:

أما بعد:
فإن الحمية والغيرة تجاه المنكر وأهله قد تدفع بعض الصالحين إلى أمر لا يقل خطورة عن المنكر نفسه بل هو عند الله أعظم ..
ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث أنَّ رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان ، وإن الله تعالى قال : من ذا الذي يتألّى عليّ - أي: يحلف - أن لا أغفر لفلان ؟ فإني قد غفرت لفلان ، وأحبطت عملك.
ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ ...فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ ... فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ : أَقْصِرْ ... فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ ...فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا ؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ : اذْهَبْ فَادْخُل الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ : اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ... قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. ا.ه كلامه رضي الله عنه. 
نعم.. اوبقت دنياه وآخرته لأنه يسد على الناس باباً قد فتحه الله، ويظلم على الناس درباً قد أناره ؛ فأين هو من قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربنا عز وجل ، قال : (يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي ... يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ... يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً )... / رواه الترمذي من حديث أنس بن مالك ؛ وصححه الألباني .
فحي على إنكار المنكر، وحي على تأليف الناس للخير، وحي على الألفة والبشاشة..
ولا وألف لا…  للرضا بالمنكر والاستسلام له
ولا وألف لا…  لتقنيط الناس من رحمة الله ..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين… 

المشاهدات 1793 | التعليقات 0