الإنصاف.. ذلك الخلق المفقود (1)

محمد مرسى
1436/02/28 - 2014/12/20 05:06AM
كتب: د.هشام توفيق

الإنصاف هو: أن تنصف غيرك منك ولا تبخسه حقه وإن كان علي خلاف رأيك أو معتقدك حتى ولو كان على غير دين الاسلام. الإنصاف أن تعطي غيرك من الحق مثل الذي تحب أن تأخذ منه ، الإنصاف فى الأقوال و الأفعال، في الرضا والغضب، فى الفقر والغنى فى الأخذ والعطاء مع من نحب و من نكره، الإنصاف هو ديننا هو قرآن ربنا هو سنة نبينا هو سيرة الصحب الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فوالله ثم والله لو وجد هذا الخلق بيننا لحلت مشاكل كثيرة على مستوى الدول وعلى مستوى الجماعات والمؤسسات الافراد. قال ابن القيم -رحمه الله- عن إنصاف الناس: أن تؤدي حقوقهم، وألا تطالبهم بما ليس لك، وألا تحملهم فوق وسعهم، وأن تعاملهم بما تحب أن يعاملوك به، وأن تعفيهم مما تحب أن يعفوك منه، وأن تحكم لهم أو عليهم بما تحكم به لنفسك أو عليها. وقال الإمام مالك - رحمه الله - : "ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف " .. قال القرطبي - رحمه الله - معلقا على كلام مالك : " هذا في زمن مالك.. فكيف في زماننا اليوم الذي عم فيه الفساد وكثر فيه الطغام ؟! " ؛ أي أوغاد الناس. هذا فى زمان القرطبى رحمه الله فكيف لو رأى ما يحدث فى زماننا ، فإننا لله وإنا إليه راجعون.

يقول أحدهم: ألا إن من لم ينصف لم يفهم ولن يتفهم ، ومن أجل أن ندرك صحة كلام مالك والقرطبي فلننظر إلى زماننا حينما يضع أقوامٌ أوصافًا للحق لا تنطبق إلا على ما يفعلونه أو يقولونه ليكون ما يفعله غيرهم ويقوله هو الخطأ والباطل .. مع أن الحق أوسع منهم والصواب يتعداهم إلى غيرهم لكنهم يرون أنهم ناطقون حصرياً باسمه ، وقد يقارفون غداً ما كانوا يرونه خطأً عند الآخرين وهم مع ذلك يرون الكلمة الأخيرة لهم .. أمثال هؤلاء يصنعون لأفكارهم هالةً من أجل تسويقها ويُجيِّشون لها من الأقلام والألسن ما يعقرون به من خالفهم ، ويجعلون الناس بناءً على منهاجهم إلى فسطاطين : فسطاطٍ معهم وفسطاطٍ ضدهم ، وهم يدركون أن عموم الناس لا ذاكرة لهم ليستعيدوا الماضي القريب فضلا عن الماضي البعيد ليدركوا هذا التضاد أو ذلك التناقض.. وإن كان بعض الناس لا ينسون لكنهم يجاملون رغبةً أو رهبةً أو أنانيةً على حد قول القائل أنا "ومن ورائي الطوفان" ، ومن شاء أن يمتحن أحدًا في الإنصاف فليخالفه في أشد ما يقوم عليه هواه وتدعو إليه شبهته وشهوته لينظر كيف يكفهر ويزمجر فيجلب أصوات الناعقين معه ، ويجلب بخيله ورجله ليجعل منها قضيةً تفسد كل المعايير وتقضي على مبدأ الإنصاف قضاءً مبرما.ورحم الله الإمام الشعبي إذ يقول : "لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين". ويقول ابن تيمية رحمه الله: "إنما يغلط من يغلط أن ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض.

- فمن نماذج الإنصاف فى القرآن : قال تعالى: "ولاتبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين" (هود 58) وقال تعالى "ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" (المائدة 8) والمعنى لاتمنعكم عداوة قوم على ترك العدل والإنصاف اذا عاملتوهم، ومن عظمة الاسلام إنصاف غير المسلمين وذلك كثير في الوحيين قال تعالى: "ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما" (آل عمران57) وقال تعالى "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" (آل عمران 113) وقال تعالى "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لايستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق." (المائدة 28 – 48). انظر هدانا الله وإياك للحق كيف أنصف الله أهل الكتاب فذكر ما لهم وما عليهم.

- ومن نماذج الإنصاف فى القرآن أيضا، قوله تعالى حكاية عن فرعون (قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين . [ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ] ) [ أي : أما أنت الذي ربيناه فينا ] ، وفي بيتنا وعلى فراشنا [ وغذيناه ] ، وأنعمنا عليه مدة من السنين ، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة ، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك، ولهذا قال : ( وأنت من الكافرين ) أي : الجاحدين . قاله ابن عباس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير. ( قال فعلتها إذا ) أي : في تلك الحال ، ( وأنا من الضالين ) أي : قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي بالرسالة والنبوة. وقال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم: ( وأنا من الضالين ) أي : الجاهلين . هذه الآيات من أروع نماذج الإنصاف فى القرآن حيث أن سيدنا موسى عليه السلام علق على الثانية ولم يعلق ويرد على الاولى ، لماذا لأنها حق، فقد تربى وتغذى فى بيت فرعون حقاً. هذه الايات تعلمنا : أن الحق إذا خرج من فرعون نقبله.

- ومن نماذج الإنصاف فى القرآن كذلك ، قوله تعالى حكاية عن المشركين ((وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ? قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ? أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)), انظروا رحمكم الله كيف رد الله الثانية ونفاها وسكت عن الأولى لأنها وقعت من المشركين، فهم فعلاً وجدوا آباءهم يفعلون هذه الفاحشة وهي على ما ذكر أهل التفسير طوافهم بالبيت عراة، والسكوت هنا أتى من باب الذم لهذا الاحتجاج بالآباء وتحقيره والرد إلى ما أمر الله به.

هذه النماذج تعلمنا ان نقبل الحق ولو كان من غير المسلمين ولو كان من المشركين حتى لو كان من فرعون. فاتقوا الله عباد الله، وكونوا قوامين بالقسط شهداء لله.نسأل الله أن يهدينا إلى سواء السبيل وأن يجعلنا من المنصفين.
المشاهدات 1335 | التعليقات 0