الإنابة والتضرع 28-4-1443
محمد آل مداوي
الحمدُ لله، الحمدُ للهِ القويِّ القهَّار، العظيمِ الجبَّار، خَضَعَ لِعزَّتهِ كلُّ عزيز، وذلَّ لعظَمَتِه كلُّ مستكبِر، (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) ، يفعلُ ما يشَاءُ ويَحْكُمُ ما يريد، له الحمدُ كلُّه، وله الشكرُ كلُّه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوثُ بالحُجَجِ الباهرة، والآياتِ الظاهرة، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، في الدنيا والآخرة.
أما بعدُ عبادَ الله: فسُبْحانَ ربِّنا ما أعظمَهُ، له الملكُ كلُّه، وبِيَدِه الخيرُ كلُّه، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كلُّه، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ، يَتَحبَّبُ إليهِمْ بالنِّعَمِ وهو الغنيُّ عنهم، ويتبغَّضُونَ إليهِ بالمعاصي، وهمُ الفقراءُ إليه، لا يَنالُهم خيرٌ إلا برحمتِه وفضله، ولا يمسُّهُم سوءٌ إلا بحكمَتِه وعَدْلِه؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) .
أيها المسلمون: رَهْبَةُ العَبدِ مِنْ ربِّه؛ على قَدْرِ عِلْمِه به، وأَصْلُ الخُشُوعِ الحاصِلِ في القلبِ؛ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ الرَّب، ولو عَلِمَ العَبْدُ قَدْرَ ربِّهِ ما بَارَزَهُ بالمعَاصي: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)
يَطْوي السَّماواتِ يومَ القيامَةِ ثم يأخُذُهُنَّ بيَمينِه، فيقول: أنا الملك، أين الجبَّارون؟ أين المُتَكبِّرون؟.
الإنابةُ إلى اللهِ في حَالِ النَّعْمَاءِ؛ مِنْ سُنَنِ الأنبياء؛ (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ)، )وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) ، وقال شُعَيبُ عليه السلام: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
ونبيُّنا محمدٌ r قال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، وأثنى اللهُ على إبراهيمَ عليه السلام بقَولِه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) وأَمَرَنا اللهُ أنْ نتَّبِعَ سَبِيلَهُمْ فهُمْ قُدوَتُنا -عليهمُ الصلاةُ والسلام- فقال سبحانه: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)
الإنابةُ إلى اللهِ في حَالِ النِّعَم، وتَذَكُّرُ المُنْعِمِ وشُكْرُه؛ سعادَةٌ وهِدَايَةٌ وزيادَة؛ (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) ، (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) ، (وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ).
وإنَّ الإنَابَةَ إلى اللهِ مِنْ مَوَانِعِ العَذاب؛ فلو أنَابَ الناسُ إلى اللهِ قبلَ حُلولِ البَلاءِ، وشَكَروا النِّعَمَ، وتركوا الإسْرَافَ والمُباهَاة، والظُّلمَ والعِصيان، وأَكْلَ حُقوقِ النَّاس؛ لمَا نَزَلَ بهم بلاءٌ وعَذاب؛ (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ).
واللهُ يَبْتَلي العِبادَ لِتَتَجرَّدَ قلوبُهم مِنْ حَوْلِها وقُوَّتِها؛ إلى حَوْلِ الله وقُوَّتِه، (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أيها المسلمون: فإنَّ مِنْ أعظَمِ المصَائب؛ أنْ يَطُولَ زَمَنُ البَلاء؛ ثم لا يَتُوبَ مُذْنِبٌ، ولا يعودَ مُقصِّر، ولا يَرُدَّ آكِلُ حَقٍّ ما أكل، ولا يَصِلَ قاطِعُ رَحِمٍ ما قَطَعَ، ولا يُصَالحَ مُخَاصِمٌ مَنْ خاصَم، يقول النُّعمانُ بنُ بشيرٍ t: "الهَلَكةُ كلُّ الهلَكةِ أنْ تَعْمَلَ السِّيئاتِ في زَمَنِ البَلاء".
يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، قالَ ابنُ كثيرٍ رحمه الله: "أَخَذَهُمْ بالضِّيقِ في العَيش، والفَقْرِ والأمراض، والأسقَامِ والآلام؛ لعلَّهُمْ يَدْعُونَ اللهَ ويتضرَّعُونَ ويَخْشَوْن؛ فيَكْشِفُ اللهُ ما بهم، ولكنْ قَسَتْ قلوبُهم وزيَّنَ لهمُ الشيطانُ ما كانوا يعملون".
(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمّ إِذَا مَسّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ* ثُمّ إِذَا كَشَفَ الضُّرّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ* لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ* حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتوبوا إليه واستغفِروه، وأنيِبُوا إليه، فرحمةُ الله قريب من المحسنين، وربكم كريم جَواد، يُقِيل العثراتِ، ويغفر الزلَّاتِ، ويُغِيث المستغيثينَ، ويُجِيب المضطرينَ، ويكشفُ كربَ المكروبينَ.
يا أرحمَ الراحِمين؛ إلى مَنْ تَكِلُنِا؟ إلى بعيدٍ يَتَجَهَّمُنِا؟ أَمْ إلى عَدوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِنا؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَينَا غَضَبٌ فلا نُبَالِي، غيرَ أنَّ عافِيَتَكَ هي أوسعُ لنا، نعوذُ بنُورِ وجهِكَ الذي أَشْرَقَتْ له الظلماتُ، وصَلَحَ عليه أَمْرُ الدنيا والآخرةِ مِن أنْ يَنْزِلَ بنا غَضَبُكَ، أو يَحِلَّ بنا سَخَطُكَ، لكَ العُتْبَى حتى تَرْضَى، ولا حَوْلَ لنا ولا قوةَ إلا بك.
اللهم فرِّج عنا وعن أوطانِنا وأوطانِ المسلمين والعالَمين أجمعين، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفِّسْ كروبنا، وعافِ مبتلانا، واشفِ مرضانا، وارحم موتانا، اللهم ارزقنا طِيبَ المُقام، وحُسنَ الختام، اللهم إنَّا نسألكَ اللطفَ فيما قضيتَ، والعون على ما أمضيتَ، فأنتَ الثقةُ لمن توكَّل عليكَ، والعصمةُ لمن فوَّض أمرَه إليكَ.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه وولي عهده على البر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الناصحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه، يا رب العالمين.
اللهم احفظ جنودنا المرابطين على الثغور، اللهم قوِّ عزائمهم وسدد سهامهم، واكبت أعداءهم، وتقبّل شهيدهم، وعاف جريحهم، وانصرهم على القوم الباغين، يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا كلَّ شكوى، واكشف عنا كلَّ بلوى، وتَقَبَّلْ منا كلَّ نجوى، وأَلْبِسْنا لباسَ التقوى، واجعل الجنةَ لنا هي المأوى. يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى أزواجِه وذريته، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1638464030_خطبة 28-4-1443 الإنابة والتضرع.docx