الإمام جمال الدين القاسمي .. أ. شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
يقولون إن من أصعب الأمور تغير القناعات بعد أن يبلغ المرء الثلاثين من عمره، فبعدها يكون تغير القناعات والأفكار أثقل من نقل الجبال من أماكنها، فالعقل قد تشرّب بتلك القناعات، والقلب قد ربط على تلك المعتقدات والأفكار، وبالتالي إحلال قناعة مغايرة مكان القديمة يحتاج لجهود مضاعفة من إزالة القديم وبناء الجديد. والسر وراء ذلك تقليد الآباء والأجداد واتباع الموروثات والتمسك بآثار السابقين والتخوف من كل جديد.
فتقليد السابقين واتباع سننهم وطريقتهم كانت من أقوى العقبات في طريق دعوات الأنبياء والمرسلين، بل كانت حجة معظم المكذبين لرسلهم من هذا الباب (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)[الزخرف:22]، وقليل من يستطيع أن يخرج من ربقة التقليد ويمتلك الشجاعة لنقد الموروث البالي، بل ويخالف الطريق الذي نشأ عليه ونافح عنه سنين طويلة، ويختار الطريق الحق بعد أن استبان له الصواب وأنار الله له الطريق. وصاحبنا واحد من هؤلاء الذين كانت لهم رحلة مؤثرة إلى طريق الحق حتى صار علماً من أعلام الطريق ومجدداً من مجددي الأمة في عصورها المتأخرة، وواحد من كبار رجال الإصلاح في العصر الحديث.
مولده ونشأته
هو الإمام الكبير، العالم المفسر المحدث، علامة الشام، المجدد المجتهد، صاحب التصانيف الكثيرة الباهرة، العلامة الشيخ أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالقاسمي نسبة إلى جده قاسم الملقب بالحلاق.
ولد القاسمي في جمادي الأولى سنة 1283هـ - 1866م بدمشق حاضرة الديار الشامية، في بيت دين وورع، وخلق كريم، وعلم وأدب، فأبوه كان من الفقهاء الأدباء، يعمل في مهمة الخطابة والإمامة في جوامع دمشق العامرة، له كتاب طريف في باب اسمه (قاموس الصناعات الشامية)، وفي ذلك الجو العابق بجلال الدين والعلم، ورقة الأدب وتهذيبه نشأ الإمام القاسمي نشأة حسنة صالحة، وأقبل على طلب العلم منذ صباه ونعومة أظافره، وقد حرص أبوه على أن يعهد به إلى الأئمة والأعلام في كل فن، فحفظ القرآن وجوده على يد شيخ قراء الشام الشيخ الحلواني وهو في الثالثة عشر، ثم انتقل إلى مكتب المدرسة الظاهرية؛ فتعلم التوحيد وعلوم اللغة والفقه والحديث والأصول؛ فنال إجازات عالية في كل هذه الفنون ولما يبلغ الثامنة عشر، ولم يترك إمامًا بارزًا، أو شيخًا معروفًا إلا جلس إليه، وأخذ عنه إجازة بعلومه، فقد أخذ القاسمي العلوم عن كثير من المشايخ أمثال: الشيخ سليم العطار، قرأ عليه شرح الشذور، وابن عقيل، وجمع الجوامع، وتفسير البيضاوي، وسمع منه دروساً من صحيح البخاري دراية، والموطأ، ومصابيح السنة. وقرأ على الشيخ بكري العطار، والشيخ محمد الخاني وأخذ منه طريقته في التصوف، ووالده الشيخ محمد سعيد القاسمي، وكان يحضر دروس الشيخ عبد الرزاق البيطار، مجدد مذهب السلف في الشام، وقد استفاد منه الشيء الكثير. وكان جميع أساتذته من المعجبين بذكائه ونباهته، يتوقعون له مستقبلاً مشرفاً، ويتطلعون إلى ما يتحقق على يديه من نهضة عظيمة لمنطقة أحوج ما تكون إلى الدعاة الذين يدعون إلى الله وفق أصول أصيلة في العقيدة والمنهج والتصور.
ولقد اتصف القاسمي -رحمه الله- بصفات العلماء الربانيين، فقد كان سليم القلب، عفيف النفس واللسان، واسع الحلم، جم التواضع، سخيًا على ضيق حاله، حلو المعاشرة والمجالسة، وأوقاته عامرة كلها بالنفع العام والخاص، عازفًا عن المناصب، مجانبًا للسلطة وأربابها، ولقد عرض عليه منصب قاضي العسكر براتب مغر فأعرض لعلمه بتبعات المناصب وضريبتها.
رحلته من الصوفية إلى السلفية
نشأ الإمام القاسمي في بيئة علمية متدينة في وقت كان التصوف بكل ما يحمله من خير وشر -وإن كان شره يغلب خيره بكثير- هو الدين الرسمي السائد في عموم أقاليم العالم الإسلامي وخاصة أقاليم الدولة العثمانية، والشام واحد من هذه الأقاليم العثمانية، وكان -رحمه الله- على عقيدة أهل زمانه، وما درج عليه أهل بيئته وأوانه، من طرق صوفية، وأوراد بدعية، إلى الثلاثين من عمره، يكتب في آخر لتعريف بنفسه لقب "النقبشندي الأشعري الشافعي" شاءت الأقدار أن يقرأ كتب شيخ الإسلام، وابن القيم؛ بإشارة من علامة الزمان الشيخ طاهر الجزائري - قبل هجرته إلى مصر - فتنور عقله، وزكى فؤاده، وابتهج قلبه؛ فاعتزل تلك الفرق كلها، وأقبل على طريقة السلف الصالح، فيها يؤلِّف ويؤالف، وعنها يدافع وينافح.
وكانت بينه وبين العلامة السلفي محمود شكري الآلوسي مراسلات عن أمر السلفية والسلف، وعن طباعة كتبها، وحث الناس عليها، ونشرها بين العامة، ثم إنه نشر كثيراً من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وكتبها بقلمه، وراسل بها بعض المحسنين كالوجيه محمد حسين نصيف، حتى ذكر عن نفسه أنه كتب ثمانية وعشرين رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية. وكان يقول عن نفسه: "إني -ولله الحمد- نشأت على حب مؤلفات شيخ الإسلام، والحرص عليها، والدعوة إليها، وأعتقد أن كل من لم يطالع فيها لم يشم رائحة العلم الصحيح، ولا ذاق لذة فهم العقل، وهم يعلمون ما ندعوا إليه، وما نسعى لإشهاره".
ولكن يلزم التنبيه إنه ومع رجوعه التام لمذهب السلف الصالح إلا أنه بقيت هناك شوائب، ورسبت رواسب، ظهرت في بعض كتبه، مثل مدحه لابن عربي، والنصير الطوسي، والجهم بن صفوان، ودعوته إلى المقاربة بين الشيعة والسنة وغيرها من الأخطاء، وإن كان معظم هذه الهنات في مرحلة ما قبل تحوله إلى السلفية إذ ظل الرجل على منهج التصوف حتى الثلاثين من عمره، وهو قد بدأ التأليف والتصنيف وهو ابن ثلاثة وعشرين سنة!
جهوده العلمية ومؤلفاته
كان الإمام القاسمي صاحب عزيمة جبارة، ومثابرة عجيبة في طلب العلم، ومطالعة الكتب، والمدارسة والتحصيل والتحقيق، وكان شديد الحرص على أوقاته، وأضن بلحظات حياته من الدينار والدرهم، لا يضيع شيئًا منها سدى، وتلك المحافظة قد مكنته من مطالعة ما لا يحصى من الكتب الكبار والصغار، ينجز الدواوين الكبيرة مطالعة وبحثًا في أيام معدودات، وتلك الهمة العالية دفعت به لمصاف كبار العلماء وهو شاب في شرخ الشباب، وكان دائمًا يقول: "المكسال شيخ في شبابه؛ لأن دقيقة البطالة أطول من ساعة العمل".
ولقد ظل الإمام القاسمي محافظًا على نفسه وأوقاته طوال حياته، لم يضع منها ساعة في لهو أو بطالة؛ لذلك بارك الله عز وجل في عمره القصير، وأنجز فيه ما لا يفعله إلا مثله من أفذاذ العلماء من سلف هذه الأمة، فلقد كان -رحمه الله- إمامًا راتباً للصلوات الخمس بالجامع الأموي وخطيبًا جوالاً في جوامع دمشق ومساجدها، ومدرسًا يلقي عدة دروس في اليوم الواحد للعامة وطلاب العلم، انتدبه الوالي العثماني لتعليم الناس في القرى والأماكن النائية فعمل على تلك المهمة النبيلة أربع سنوات من عمره القصير، كما كان له مشاركات فعالة في الحياة الاجتماعية بدمشق، ويتصدى للبدع والخرافات، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهكذا ديدن حياته، حتى صار علامة الشام المقدم بلا منازع.
عاش الإمام القاسمي حياة قصيرة من حيث عدد سنواتها، 49 عامًا، ولكنها كانت عريضة طويلة، وغنية بالعلم والعمل النافع والصالح، فلقد كان الإمام حريصًا على وقته أيما حرص، واجتمع عنده من أدوات التصنيف ما أهل لإخراج تلك الحصيلة الرائعة والنافعة من المؤلفات والمصنفات التي أثرت المكتبة الإسلامية في شتى الفنون، وقد بدأ التصنيف وهو في سن المراهقة، وقد ساعدته همته العالية، وحرصه على وقته بكل سبيل، على التأليف والتحقيق والترجيح والمناقشة للأقوال في مؤلفاته؛ فجاءت كاملة في معناها، شاملة في بابها، وكان اهتمامه بالتأليف والتصنيف كبيرًا جدًا؛ لعلمه بأهمية الكتاب في نقل الأفكار، ونشر العلوم، وكان دائمًا يقول: " كتاب يطبع خير من ألف داعية وخطيب، لأن الكتاب يقرؤه الموافق والمخالف"، ولقد ترك ثروة علمية كبيرة، زيادة عن مائة مؤلف ومصنف: بين كبير، ومتوسط، وصغير من أهمها: تفسيره الشهير للقرآن الكريم المسمى (محاسن التأويل) وهو من أجل مصنفاته، وهو من أفضل التفاسير المعاصرة وأنفعها، خاصة في باب الرد على أهل البدع، والفرق والضالة. (كتاب دلائل التوحيد) انتصر فيه للعقيدة السلفية وقررها بأدلتها، (رسالة إصلاح المساجد من البدع والعوائد، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، تعطير المشام في مآثر دمشق الشام، شمس الجمال على منتخب كنز العمال، شذرة من السيرة النبوية، ورسالة الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس، ميزان الجرح والتعديل، جوامع الآداب في أخلاق الإنجاب، حياة البخاري).. وغيرها من الكتب.
وكان -رحمه الله- مجتهداً في بعض كتبه، مقلداً في بعضها، فقيهاً دقيقاً في بعضها، وأديباً مسترسلاً في بعضها، ولكنه مصلح اجتماعي في كلها؛ لذلك فقد عده معاصروه من رجال الإصلاح في زمانه.
محنته
ولد القاسمي ونشأ وترعرع في فترة بالغة الاضطراب، في أواخر الحكم العثماني الذي أوشكت شمسه على الغروب، وكانت الأوضاع السياسية شديدة الاضطراب، والأعداء يحيطون بالدولة من كل اتجاه، والاستبداد الداخلي قد كمم الأفواه ووأد الطموحات، والأمة تشهد تراجعًا وتدهورًا كبيرًا في شتى المجالات، ومنها المجال الديني الذي شهد جمودًا، وانشغالا بالقشور والمتون والحواشي، والتفريعات النظرية، والافتراضات الوهمية، وغرق أهل العلم وقتها في أتون التعصب والتقليد والمذهبية المقيتة، حتى صار العلم مرادفًا للتحجر والتجمد والغيبوبة، وبالتالي أثر ذلك على الناس بشدة، فلم تستضئ حياتهم بنور العلم الساطع، والفهم الصحيح المثمر للدين، وصار كل من يحاول كسر ذلك الجمود العلمي، ويحرك ركود الحياة العلمية آنذاك مارقًا مبتدعًا، تجب محاكمته وردعه. وهذا هو عين محنة الإمام رحمه الله.
كان القاسمي صاحب عقل نير، وفكر وفهم ناضج، استفاد من قراءته التاريخية لسير المجددين والمجتهدين؛ فعمل على تكوين جبهة متحدة ممن هو على شاكلته من أهل العلم الغيورين المصلحين، فأنشأ جمعية "المجتهدين" مع زملائه: عبد الرازق البيطار وكان أسن منه بثلاثين سنة، وسعيد الفرا، ومصطفى الحلاق، وغيرهم، وعقدت الجمعية حلقات بحث دورية لقراءة ومناقشة أهم الكتب، والتباحث في أحوال المسلمين، وسبل النهوض بهم.
ذاع خبر هذه الجمعية العلمية بعد تصديها للإجابة على بعض مسائل ومستجدات العصر التي توقف في الجواب عليها المقلدون والمذهبيون، وأقبل على الانضمام إليها شباب طلبة العلم الراغبين في النهوض بأمتهم والارتقاء بمعارفهم، مما أثار الحساد فسعوا بالوشاية والافتراءات على أعضاء الجمعية على رأسهم أصغرهم سناً الإمام القاسمي.
ثار تكوين مثل تلك الجمعيات، وما يجري فيها من مناقشة أوضاع المسلمين: كل من السلطة الدينية، والدنيوية؛ فلقد اعتبر مفتي الشام وقتها أن أمثال تلك الجمعيات والدعوات لفتح باب الاجتهاد من قبيل الابتداع في الدين، والهرطقة والخروج عن الجماعة والمألوف، في حين اعتبر والي الشام عثمان نوري باشا تلك الجمعية ورجالها من المحرضين والساعين لتقويض الدولة العثمانية، ولنا أن نتفهم طبيعية الدوافع الحقيقية للرجلين؛ فالأول: يخاف على منصبه ونفوذه الديني، ومكتسباته التي ينالها باسم الدين، والثاني: شأنه شأن كل الطغاة والظلمة الحريصين على تخلف شعوبهم، وركودهم وسباتهم، حتى لا يُطالِبُوا بحق أو عدل، أو يتكلموا عن حلال وحرام، وهكذا.
وفي سنة 1313هـ - 1895م تم تقديم الشيخ القاسمي ورفاقه للمحاكمة بأعجب وأغرب تهمة على مر العصور، ألا وهي تهمة الاجتهاد وابتداع مذهب جديد في الدين أسموه المذهب الجمالي -نسبة لجمال القاسمي- وشكلوا له هيئة قضاء من شيوخ المذاهب من أرباب التقليد، وسدنة الجمود، تحت قيادة مثير المحنة مفتي الشام وقتها -وكان عمر الشيخ القاسمي وقتها ثلاثين سنة- فقام القاسمي للدفاع عن نفسه وإخوانه، وألقى محاضرة رائعة في بيان منهجه ودعوته وآرائه، دحض بها افتراءات المقلدين والمتحجرين، ومن روعة بيانه، وقوة حجته لم يجد: لا الوالي، ولا المفتي، ولا أي أحد ممن تصدي لمحنته سبيلا للنيل منه، وتم الإفراج عنه وعن إخوانه بعد أن كانت أبواب السجن مفتحة لهم، وسياط الجلاد مشرعة لإلهاب ظهورهم، وقد نظم شعرًا رائعًا في تلك المحنة نختار منه بعض الأبيات:
زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي *** وإليه حينما أفتى الورى أعزو مقالي
لا وعمر الحق إني سلفي الانتحالِ *** مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالِ
ثم ما صح من الأخبار لا قيل وقالِ *** أقتفي الحق ولا أرضى بآراء الرجالِ
كانت هذه المحنة فاتحة خير له وللأمة كلها؛ إذ توجه نشاط الإمام بعدها إلى التحقيق العلمي وانقطع في منزله للتصنيف إلى جانب خطبة الجمعة وغمامة الصلوات وبعض الدروس في التفسير والعلوم الشرعية والعربية، ونشر بحوثا كثيرة في المجلات والصحف، وقد وصفه بذلك السيد محمد رشيد رضا في معرض حديثه عن زيارته لدمشق سنة 1326- 1908فقال: "الأستاذ العامل المجِدُّ الذي يقتل وقته كله في التدريس والتصنيف وتصحيح الكتب النافعة: الشيخ جمال الدين القاسمي، أدام اللهُ النفعَ بعلمه وعمله".
ومع ذلك لم يسلم الإمام -رحمه الله- من الوشايات والسعايات ضده عند والي دمشق وتعرض لكثير من المضايقات من قبل حساده من الصوفية والمتفقهة والمتعصبة للمذاهب حتى ألجأوه للخروج من دمشق عدة مرات، ولكن كل ذلك لم يثنه من مواصلة مشروعه الإصلاحي الكبير فترك ثروة علمية مازال الناس ينتفعون بها إلى ما شاء الله، فرحمه الله وأجزل له المثوبة ورفع قدره في عليين.