الإمام الفقيه المجاهد عبد الله بن ياسين: مجدد الإسلام في أفريقيا
الفريق العلمي
أ. شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي
إن من طبيعة الحياة الإنسانية أن ترتد وتأسن، ويطرأ عليها بمرور الزمن ما يكدر صفاءها، فلا يكاد الناس يستقيمون على الإيمان والتوحيد حتى تبدأ عوامل الانحراف تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً تسرّب الماء الآسن إلى المشرع الروي الزلال.
وإن الحاجة في مثل تلك الحال تتطلب ظهور قيادة إسلامية متميزة تجدد للأمة أمر دينها، وتجلي الحقائق الملتبسة، وتحيي الفرائض المعطلة، وتزيل ما علق بهذا الدين من الآراء الضالة، والمفهومات المنحرفة.
وبمثل هذه القيادة التي تضطلع بمهمة الخلافة عن التبيين في تجديد الدين وإحيائه بشَّر الحديث النبوي الشريف؛ فقد روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة، فيما أعلم: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
والمتأمل في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "يبعث لهذه الأمة" يجد إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش "لهذه الأمة" فإن هذا المجدد تعدى إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله، وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة الحياة، ومن ثم يحدث التوازن في مسيرة الحياة البشرية كلها، ويأخذ الإسلام دوره في الوجود.
وهو بهذا مجدّد للأمة الإسلامية بإيقاظها، وإعادة ثقتها بدينها، وردها إلى المنهج الصحيح.
إن هذا المجدد ليس ممن يقنعون باليسير، ويرضون بالدون، فيكتفي أحدهم بحفظ نفسه ومن تحت يده (إن استطاع) ثم يترك أمر الناس للناس، بل قد عظمت همته، واشتدت عزيمته، فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف.
ومن أجل ذلك تميز فرد أو أفراد بأنهم المجددون؛ لأنهم صابروا العقبات، وغالبوها حتى غلبوها؛ لأن همتهم كانت أعظم من تلك العقبات: كانت تجديد الدين لهذه الأمة، وإعطاء المسلمين دورهم القيادي بين الأمم، مع تحقيق معنى انتمائهم للإسلام.
لذلك فهم يمارسون دورهم العالمي من خلال دورهم الإسلامي، ويمارسون دورهم الإسلامي من خلال فئتهم الخاصة التي هي النواة الأولى للإصلاح المرتقب.
وحديثنا اليوم عن واحد من هؤلاء المجددين الذين جددوا شباب الدين وأحيوا رسومه في بقعة نائية، وكان سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً، وأقام دولة إسلامية من أعظم دول الإسلام في القرون الوسطى، هو الإمام عبد الله بن ياسين الجزولي.
أولاً: التعريف به:
هو الإمام الفقيه والبطل المجاهد والداعية المجدد والمربي الحكيم عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي، ينتمي إلى قبيلة جزولة إحدى فروع صنهاجة، لا يعلم عن مبتدأ حياته شيئاً، ولكنه في سن الشباب رحل إلى بلاد الأندلس في طلب العلم في عهد ملوك الطوائف، وأقام بها سبع سنين حصل خلالها علوما كثيرة، ثم رجع إلى المغرب والتحق برباط وجاج بن زلو ناحية سوس (جنوب الجزائر الآن) وأصبح علما من أعلامها.
كان من حُذَّاق الطلبة الأذكياء النبهاء النبلاء، من أهل الدين والفضل، والتقى والورع والفقه، والأدب والسياسة، مشاركًا في العلوم المتنوعة، يغلب عليه الحماسة والحمية للدين، والانشغال بأموره وقضاياه، قال عنه الذهبي: "كان عالمًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير".
كانت الأجواء في تلك المرحلة لا تساعد الدعاة والعلماء على ممارسة دور أكبر في نصح الناس وإرشادهم، والقيام بحق الدعوة، وذلك بسبب تسلط الفاطميين العبيديين الزنادقة على مصر والشمال الأفريقي، ومعاداتهم للعلم والعلماء، وكان عبد الله بن ياسين فقيه قوي النفس، وافر العزم، متقد الرغبة في خدمة الدين، غير قانع بدور العالم داخل جدران مدرسته، يضطرم برغبة عارمة نحو ممارسة جهاد الدعوة.
ثانياً: رحلته إلى قلب الصحراء:
لم يمض كثيراً على عمل عبد الله بن ياسين داخل أروقة مدرسته حتى جاءته الفرصة التي يحلم بها عندما وفد على شيخه زائر غريب الهيئة، في حلة الأمراء، متلثم، أسمر اللون، يبدو عليه أثر السفر، وسمعت جلبة بين صفوف الطلبة من؟ ولماذا؟ فبادر الشيخ بالتحية وسلم إليه كتابا لم يلبث أن دعا إلى الاستماع إليه سائر طلبته، وكان مضمون الكتاب: "سلام عليك، أما بعد: إذا وصلك حامل كتابي هذا وهو يحيى بن إبراهيم الكدالي فابعث معه إلى بلده من تتق بدينه وورعه، وكثرة علمه وسياسته، ليعلمهم القرآن، وشرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، ولك وله الثواب والأجر العظيم: "والله لا يضيع (أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30]، والسلام".
لم ينته الشيخ من قراءة الرسالة على الطلبة حتى اشرأبت عنق عبد الله بن ياسين للمهمة التي طال انتظارها، وفي المقابل كانت عيني الشيخ لا تحط إلا عليه، لعلم الشيخ بطلابه، أيهم أحسن عزماً، وأصح نية، وأرغب قلباً، فتم الأمر، ونفذ القضاء، وتم تكليف عبد الله بن ياسين بالمهمة، فانطلق صحبة الأمير يحيى بن إبراهيم إلى قلب الصحراء.
اتَّجه الشيخ عبد الله بن ياسين صوب الصحراء الكبرى، مخترقًا جنوب الجزائر وشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جُدَالة، وحيث الأرض المجدِبة، والحر الشديد، وفي أناة شديدة، وبعدما هاله أمر الناس في ارتكاب المنكرات أمام بعضهم البعض، ولا ينكر عليهم منكر، بدأ يعلم الناس؛ يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وكان الناس في جهل مطبق يصفه القاضي عياض -رحمه الله- بقوله: "كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما".
من هنا يبدأ الدور الأول من مهمة ابن ياسين ويفتح صفحة جديدة في تاريخ الملثمين كلها كفاح وجهاد وعمل بدأ يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده، يرتاد واحات الصحراء، ويجول قبائل الملثمين واحدة تلو واحدة، يعلمهم القرآن، ويشرح لهم السنة، ويعرفهم أحكام الدين، وقد بدأ معهم من الصفر كما يقولون، فالقوم لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، طقوس باهتة، وتقاليد بالية، يتزوج الواحد منهم عشر نسوة وأكثر، ولا يعرف للدين معنى.
اتجه ابن ياسين أول ما اتجه إلى تصحيح العقيدة، ونبذ العادات الفاسدة الموروثة عن الآباء والأجداد، والتخلق بآداب الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، والسير على النهج القويم، وكان يعطي لهم الأمثلة الحية، والشواهد الملموسة من سيرة الرسول وخلفائه الراشدين.
لم يعجب هذا السعي كثير من رؤساء القبائل، وثقل عليهم ذلك، فتنمروا وتنكروا له، وأخذوا في التآمر ضده، وتأليب الناس عليهم، ولقي عبد الله بن ياسين ألواناً من الأذى والاضطهاد على عادة المصلحين في كل زمان ومكان، لم يقنط الشيخ عبد الله بن ياسين، وحاول المرة تلو المرة، فضربوه وأهانوه، ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل، إلا أن موقف الشيخ لم يَزْدَدْ إلاَّ صلابة، ومرت الأيام وهو يدعو ويدعو، حتى طردوه بالفعل.
فلما رأى عبد الله بن ياسين إعراضهم أراد الرحيل عنهم إلى بلاد السودان، فلم يتركه يحيى بن إبراهيم الجدالي، وقال له: "هل لك في رأي أشير به عليك؟ إن ها هنا في بلادنا جزيرة في البحر، إذا انحسر البحر دخلنا إليها على أقدامنا، وإذا امتلأ دخلناها في الزوارق، وفيها الحلال المحض الذي لا شك فيه من أشجار البرية، وصيد البر، وأصناف الطير، والوحوش والحوت، فندخل إليها فنعيش فيها بالحلال، ونعبد الله -تعالى- حتى نموت..." فقال له عبد الله بن ياسين: "هذا أحسن، فهلم بنا ندخلها على اسم الله"، فدخلها ودخل معهما سبعة نفر من كدالة.
رابعاً: رباط الدعوة والجهاد:
أقام الفقيه العالم الرباني والمربى المجاهد ابن ياسين رباطه في الحوض الأدنى لنهر السنغال، وموقعه يدل على أهداف ابن ياسين التي أعد لها، فهو يقع قريبًا من مملكة غانا الوثنية، لذلك فهو مهدد دائمًا بالأعداء، ولابد للجماعة المقيمة فيه من الجهاد، وهو غير بعيد عن ديار المُلَثَّمين، فيستند إليهم في حالات الخطر، وتشكل تلك الديار موردًا بشريًا لا ينضب لمن يريد الانضمام إليه، وهذا يفسر كثرة عدد رجاله دخل ابن ياسين الجزيرة التي في الحوض الأدنى لنهر السنغال عام (433هـ/ 1040م) ومعه أتباعه المخلصون، وكانوا سبعة رجال فقط، ثم بدأ الانضمام إلى جماعته من أبناء الملثمين، فوضع ابن ياسين شروطًا رآها لازمة لكي لا يتأثر تنظيم رباطه الجديد ومرحلته التي بدأ الشروع فيها، وإن كان بعض هذه الشروط غير مقبولة شرعاً، فكان ينتقي أطهر المُلَثَّمين نفسًا، وأوفرهم قُوَّة، وأقدرهم على تحمل المشاق، كان يطلب منهم أن يتخلوا عن تقاليدهم وأعرافهم وتصوُّراتهم التي تخالف الإسلام، ويدخلوا الإسلام بقلوب صافية، ونفوس طاهرة، وهمم عالية تسعى لتحكيم شرع الله على وجه المعمورة.
وعمل جاهدًا على تحكيم شرع الله على الأفراد وفي مُجْتَمَعه الجديد، وكان يرى أن مَن فاتته صلاة من عمره عليه أن يقضيها، وهى مسألة فقهية اختلف علماء الأمة فيها، فمنهم مَن يكتفى بالتوبة النصوح، ومنهم مَن يطلب قضاء ما فات.
كان ابن ياسين يهتم اهتمامًا بالغًا بالفقهاء والعلماء، ويرفعهم إلى مراتب عالية، حيث التف حوله مجموعة من الفقهاء والعلماء ليساعدوه على تربية النَّاس وتعليمهم وتأهيلهم للمرحلة القادمة.
وكان لا يمنعه الحياء من طرد مَن لا يراه مناسبًا لهدفه المنشود.
وكان أهل الرباط في قمة الصفاء الروحي، ويعيشون حياة مثالية في رباطهم، فيتعاونون على قوتهم اليومي معتمدين على ما توفِّرُه لهم جزيرتهم من الصيد البحري، يقنعون بالقليل من الطَّعام، ويرتدون الخشن من الثياب، وقد منحهم عبد الله بن ياسين اسماً خاصاً بهم وهو "المرابطين".
كان رباط السنغال الذي أسَّسه الداعية الرباني ابن ياسين منارة يشع نورها وخيرها وعلمها في تلك الصحاري القاحلة، فأصبح قطبا جذابا؛ عاملاً على جذب أبناء قبائل صنهاجة إليه، ووفر الأمن والاستقرار في تلك الديار الصحراوية البعيدة، فأصبحت القوافل تمر بأمن وسلام دون أن يتعرض لها أحد بسوء، وقد أدى ذلك إلى ازدهار التجارة.
وتميز ذلك الربَاط بحسن إدارته وتنظيمه وتشكيله مما ساعد على قوة النواة الأولى لدولة المرابطين، حيث تشكل مجلس الشورى، وجماعة للحل والعقد تطورت مع مرور الأيام، وأصبحت مرجعية عليا للملثمين.
بعد أن وصل تعداد المرابطين إلى ألف رجل على مستوى عال من الإيمان والنقاء والاستعداد النفسي والبدني للانتقال من مرحلة الإعداد والتربية إلى مرحلة الجهاد والمواجهة.
قام فيهم عبد الله بن ياسين خطيباً ومحرضاً على جهاد الكافرين، فقال: "معشر المرابطين إنكم الآن جمع كثير، ولن تغلبوا من قلة، وأنتم وجوه قبائلكم، ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله -تعالى-، وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته، وتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في الله حق جهاده، ثم يسكت، وكأنه ينتظر جوابكم، ومدى استعدادهم، فترتفع الأصوات من كل جانب: " أيها الشيخ المبارك مرنا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين"، ثم يوصل خطابه يقول: "اخرجوا على بركة الله، وأنذروا قومكم، وخوفوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته، فإن تابوا ورجعوا إلى الحق، وأقلعوا عما هم عليه، فخلوا سبيلهم، وإن أبوا من ذلك، وتمادوا في غيهم، ولجوا في طغيانهم، استعنا بالله -تعالى- عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين".
كانت هذه الخطبة بمثابة دستور للدولة المرابطية سارت عليه منذ قيامها وطبقته في فتوحاتها حتى النهاية.
خامساً: مرحلة الجهاد وبناء الدولة:
بعد أن قطع ابن ياسين بأصحابه وأتباعه مرحلة التكوين العقدي والفقهي والحركي والتنظيمي والتربوي، وأصبح معه رجال يعتمد عليهم في تبليغ دعوة الله على فهم صحيح لكتاب الله، وفقه واسع لسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ورغبهم في ثواب الله -تعالى-، وطلب مرضاته، وخوَّفهم من عقابه، وتمكَّن حُبُّ الإتباع من قائدهم العالم الفقيه، بدأ ابن ياسين بإرسال البعوث إلى القبائل، لترغيب النَّاس في الإسلام، فلبى مجموعة من أشراف صنهاجة هذه الدعوة المحكمة والتفوا حوله.
ثم أمر ابن ياسين أتباعه وتلاميذه أن يذهب كل منهم إلى قبيلته أو عشيرته يدعوهم إلى العمل بأحكام الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فلما لم يجدوا استجابة من أقوامهم، خرج إليهم بنفسه، فجمع أشياخ القبائل، ووعظهم وحذرهم عقاب الله، واستمرَّ في ذلك سبعة أيام، فلم يزدادوا إلا فسقًا، فلمَّا يئس منهم أعلن الجهاد عليهم.
تحركت جموع المرابطين أولاً صوب قبيلة جدالة، حيث اشتبكوا معهم في معركة شرسة وأوقعوا بهم الهزيمة، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وانقاد الباقون لأحكام الإسلام، ثم سار ابن ياسين إلى قبيلة لمتونة فقاتلهم وانتصر عليهم، ودخلوا في طاعة ابن ياسين، وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة، ثم مضى إلى قبيلة مسوفة التي دخلت تحت لوائه وبايعوه على ما بايعته قبائل جدالة ولمتونة، فلما شهدت قبائل صنهاجة هذه الأحداث بادرت إلى مبايعة ابن ياسين على بذل الطاعة له، وقلدتها كثير من القبائل الصحراوية في ذلك.
ووضع ابن ياسين خطة شاملة تركَّزت على توزيع النابغين من تلاميذه على القبائل التي دخلت في دعوته ليعلموها القرآن وشرائع الإسلام، وبدأ ابن ياسين في تخطيط الدولة التي شرع لتأسيسها على أسس شرعية ربَّانية، ولما تُوفي الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي قدَّم ابن ياسين مكانه يحيى بن عمر اللمتوني، وكان من أهل الدين والفضل، كما كان منقادًا في جميع أموره لإمامه ابن ياسين.
وبذلك أصبحت القبائل الصنهاجية في المغرب الأقصى لها قيادة دينية وسياسية ومجالس شورى تُدبِّرُ دفتها وحركتها، فتطلعت لتوحيد المغرب الأقصى كله وإزالة كل عائق يمنعها من تحكيم شرع ربها.
استطاع المرابطون بقيادة عبد الله بن ياسين الحكيمة أن يوحد بين قبائل بربر الجنوب لأول مرة في تاريخهم، ويجدد الإسلام فيهم مرة أخرى بعد أن ذبل وانزوى تحت الخرافات والتقاليد والعادات الموروثة.
وكان عليه بعد ذلك أن يتطلع لما أكبر وأجل وأوسع من جنوب الصحراء، التطلع للمّ شمل البربر جميعاً في الشمال والجنوب وإقامة أكبر دولة إسلامية عرفتها الأمة الإسلامية.
سادساً: تحديات أمام عالمية الدعوة:
كان المغرب الأقصى في أوائل القرن الخامس الهجري في محنة سياسية ودينية؛ حيث ظهرت دعوات منحرفة عن الإسلام وحقيقته، وجوهره الأصيل، واستطاعت بعض الدعوات البدعية الكفرية أن تُشكِّل كيانًا سياسيًا تحتمى به، وأصبح المغرب الأقصى شبيهًا بالأَنْدَلُس في زمن ملوك الطوائف، وكانت الطوائف التي سادت المغرب قبيل وصول المرابطين تتكون من أربع شوكات قوية لها وزنها في المغرب الأقصى:
1- قبائل غمارة في الشَّمَال: كانت تسكن جبال الرِّيف الممتدة من ناحية البحر المتوسط من سبتة وطنجة غربًا، وكانت غمارة بطنًا من بطون مصمودة، وظهر فيها مشعوذون، وصفهم ابن خلدون وغيره: بأنَّهم: "عريقون في الجاهلية؛ بل الجهالة، والبعد عن الشرائع بالبداوة والانتباذ عن مواطن الخير".
وكانت قبائل غمارة غارقة في الإباحيَّة بين النساء والرجال، وكان رجالهم يربون شعورهم كالنساء، ويتخذونها ضفائر ويطيبونها ويتعممون بها.
وتنبَّأ فيهم إنسان يعرف بحاميم بن مَنِّ الله، ولُقِّب بالمفتري، والجبل الذي تنبِّأ فيه يُنسب إليه، وهو جبل على مقربة من تطوان، وأجابه بشر كثير من غمارة، وأقروا بنبوته، ووضع لهم شريعة استهواهم برخصها، فردَّ لهم الصلاة صلاتين عند طلوع الشمس وعند غروبها، ووضع لهم قرآنًا بلسانهم: "أي البربري".
ومن تعاليمه: أنه أحلَّ لهم أكل أنثى الخنزير، وأسقط عنهم الحج والطهر والوضوء، وحرَّم عليهم الحوت حتى يُذكى، وحرَّم بيض كل طائر.. إلخ".
وقد قتل هذا المشعوذ الزنديق في النصف الأول من القرن الرابع الهجري في طنجة في حروبه مع قبائل مصمودة الساحلية، أو في حروبه مع جيوش الخليفة الأموي عبد الرَّحمن الناصر، على خلاف بين المؤرخين.
2 - قبائل برغواطة في المغرب: كوَّنت هذه الطائفة الكافرة دولة لها في القرن الثاني للهجرة في وسط الجزائر.
ونجد أن المؤرخين اختلفوا حول اسم برغواطة، فبعضهم يرى بأنَّه لم يكن اسمًا لقبيلة مُعينة يجمعها أصل واحد أو أب واحد، بل كان اسمًا لأخلاط من البربر اجتمعوا على شخص يهودي الأصل، ادَّعى النبوة، اسمه صالح بن طريف بن شمعون البرباطي، نسبة إلى وادي البرباط في جنوب الأَنْدَلُس؛ فصارت كلمة برباطى تُطلق على كل من اعتنق ديانته، ثم حُرِّفَت إلى برغواطي.
ويرى ابن خلدون أن برغواطة قبيلة من المصامدة، وأن ملوكها كانوا من مصامدة المغرب.
ومن عقائد هذه الطائفة الضالَّة: اعتقادهم بأن صالح بن طريف هو المقصود بقوله تعالى في سورة التحريم: (وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم: 4].
وزعم زعيمهم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان لقتال المسيح الدجال، وأن عيسى ابن مريم يكون من أصحابه ويُصلِّى خلفه.
وشرع لأتباعه صوم رجب، والأكل في رمضان، وفي الوضوء غسل السرة والخاصرتين، بالإضافة إلى طريقة الوضوء عند المُسْلِمين، وفرض عليهم خمس صلوات في النَّهار وخمس صلوات في الليل، وبعض صلواتهم إيماء بلا سجود، وبعضها على كيفية صلاة المُسْلِمين، وأباح لهم تزوُّج النساء فوق الأربع، وأباح لهم الطلاق، وحرَّم عليهم زواج بنت العم، وزواج المُسْلِمات، كذلك شرع قتل السارق، ورجم الزاني، ونفى الكاذب، وحرَّم رأس كل حيوان، وحرَّم ذبح الديك والسمك.
لقد كانت تعاليم هذه الدولة الكفرية متأثرة بتعاليم اليهود المنحرفة، وكذلك ببعض التعاليم الإسلامية حيث يمكننا أن نقول: إنَّها ديانة مشوِّهة للإسلام تعمل للقضاء عليه، وكانت هذه الدولة عند أهل السنة والجماعة مجوسًا منحرفين مارقين عن الدين الحنيف، ولهذا فرضوا قتالهم واستحلوا دماءهم.
واستمرَّت هذه الدعوة الكفرية منذ سنة 125هـ في خلافة هشام بن عبد الملك إلى ظهور أهل السنة المرابطين المُلَثَّمين الذين قضوا عليهم قضاءً مُبرمًا، وقد ذكرت كتب التَّارِيخ أن حكام المغرب قبل مجيء المرابطين، كالأدارسة والأمويين والزناتيين قد قاتلوا برغواطة، وأنزلوا بها هزائم منكرة وخسائر فادحة.
بالجملة لقد قاسى المغرب الأقصى محنة كبيرة بسبب هذه الدولة الكفرية.
3- قبائل زناتة: وكانت تكوِّن نطاقًا حول الطوائف السابقة لا سِيَّمَا برغواطة.
4- طوائف الشيعة والرافضة والوثنيين في الجنوب: كان محلُّهم جنوب المغرب في أقصى بلاد السوس، وكانوا عبارة عن أقليَّات مُبعثَرة.
أمَّا الشيعة فقد انتشروا في مدينة تارودانت ونواحيها وكانوا دعاة للفكر الشيعي الرافضي، وبعضهم يرجع جذورهم وأصول فكرتهم للدولة العبيدية الرافضية التي جاء ذكرها في صفحات من التَّارِيخ الإسلامي في الشَّمَال الإفريقي "الدولة العبيدية الرافضية".
لقد كان الصراع عنيفًا بين الشيعة وبين أهل السنة في كل ناحية وضاحية ومكان في المغرب كله، وتوج جهاد أهل السنة بالقضاء على الدولة العبيدية إلا أن بقايا جذورهم أزالها المرابطون بقوتهم السُّنيَّة الميمونة.
أما الوثنيون فكانوا يسكنون الأطلس الكبير في جبل وعر، وكان الوثنيون يعبدون الكبش، ويبدو أنَّهم تأثروا بديانات مصرية قديمة كانت تعبد الكبش في زمن الفراعنة ويسمونه: الإله خنوم، فكأن طقوس هؤلاء الوثنيين وعباداتهم من رواسب مؤثرات مصرية قديمة.
في عام 447هـ/ 1055م اجتمع فقهاء سجلماسة ودرعة وكتبوا إلى ابن ياسين يُرغِّبونَه في الوصول إليهم ليخلص بلادهم مما تعانيه من الحكام الطغاة الظلمة؛ زناتة المغراويين، وأميرهم مسعود بن واندين، فجمع ابن ياسين شيوخ قَومه، وقرأ عليهم رسالة فقهاء سجلماسة، فأشاروا عليه بمدِّ يد المعونة لهم، وقالوا له: "أيُّها الشيخ الفقيه، هذا ما يلزمنا فَسِرْ بنا على بركة الله" فخرجت جموع المرابطين في شهر صفر سنة 447هـ إلى بلاد درعة، فتصدى لهم الأمير مسعود بن واندين بالقتال، وانتهت المعركة بهزيمة المغراويين ومصرع مسعود وتشتت جيشه، وأسرع ابن ياسين بدخول سجلماسة، وأصلح أحوالها، وقدم عليها عاملاً من لمتونة وحامية مرابطية ثم عاد إلى الصحراء.
وفي عام 448هـ/1056م تُوفي الأمير يحيى بن عمر اللمتوني فَعيَّن عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر مكانه للقيادة، ثم تأهَّب أبو بكر لغزو بلاد السوس؛ ففي ربيع الثاني سنة 448هـ سار المرابطون صَوْبَ بلاد السوس، واختار أبو بكر بن عمر ابن عمه يوسف بن تاشفين ليتولى القيادة على مقدمة الجيش المرابطي، وكان ذلك أول ظهور ليوسف بن تاشفين مؤسس دولة المرابطين، وقائد مرحلة التَّمكين، وتمكنوا من تحرير اردوانت، وقضوا على الروافض والوثنيين، كما قاتلوا اليهود المنتشرين في تلك النواحي، فأعادوا بذلك تلك المناطق إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وسار المرابطون إلى مدينة أغمات، وكان أميرها يومئذٍ لقوط بن يوسف بن علي المغراوي وحاصروها، واضطر لقوط إلى الفرار عندما أيقن عبث المقاومة، فخرج يتلمس النجاة في أهله وحشمه تحت جنح الظلام، ودخل المرابطون أغمات عام 449هـ/ 1057م وأقاموا فيها ما يقرب الشهرين، وتحركوا حركات حربية مُحكَمة للقضاء على فلول المُغراويين. ولم يبق سوى القضاء على قبائل برغواطة الكافرة.
استشهاد الإمام عبد الله بن ياسين:
رتب ابن ياسين العمال في سائر الجهات المفتوحة، فأقاموا العدل وأظهروا السنة وقمعوا البدعة، وأعادوا إلى النفوس الطمأنينة، واستعد المرابطون لنزالهم الأخير قبل تطهير بلاد المغرب كلها من جيوب الكفر والشرك والضلال، استعدوا لقتال قبائل برغواطة الوثنية.
تم تعبئة الجيوش لمحاربة برغواطة المرتدة تحت قيادة أبي بكر اللمتوني وابن عمه يوسف بن تاشفين، وكانت عادة الفقيه ابن ياسين إذا تقدم للحرب أن يسير في المقدمة، ومن ورائه الأمير، وقواد الجيش، فقد كان فارساً بطلاً جسوراً لا يهاب الموت، وتواقاً للشهادة يختم بها سجل حياته الفخم والزاخر بالإنجازات.
جرت بين المرابطين وبرغواطة معارك هائلة، وملاحم شديدة، وكان عبد الله بن ياسين يقود المعركة بنفسه، ويذكي الحماس في جنده، ويذكرهم بأنهم يقاتلون أحفاد الدجال اليهودي اللعين الذي دنس بنحلته الخبيثة أرض المغرب الطاهرة، وكافح ابن ياسين كفاح الأبطال، وظل يقاتل قتال من لا يرى البقاء حتى أثخنته الجراح، فحملوه وهو في النزع الأخير، فأمر بجمع شيوخ المرابطين ليوصيهم ويعظهم، وهو على وشك المغادرة، فقال لهم: "يا معشر المرابطين إنكم في بلاد أعدائكم، وإني ميت من يومي هذا لا محالة، وإياكم أن تجنبوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وكونوا ألفة وأعوانا على الحق وإخواناً في ذات الله -تعالى-، وإياكم والمخالفة والتحاسد على الرئاسة، فإن الله يؤتي ملكه من يشاء، ويستخلف في أرضه من أحب من عباده، وإني ذاهب عنكم، فانظروا من تقدمونه منكم..."، ثم أسلم الروح إلى باريها راضية مرضية.
وبالقرب من عاصمة المغرب الرباط في مكان متواضع اسمه "كريفلة" تعلوه هيبة وجلال، يرقد البطل الإسلامي والمجدد الفقيه عبد الله بن ياسين الذي أعاد الإسلام غضا طريا في هذه البلاد، وأسس دولة جديدة تقوم على الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح، وإصلاح الفساد، ونشر الفضيلة، وتطهير المجتمع من عوامل الشر، وإشاعة نور العلم والمعرفة، ومحاربة الطائفية، والفساد الديني والأخلاقي.
وهكذا كان ابن ياسين في آن واحد مصلحاً دينياً وزعيماً سياسياً ومجدداً امتدت دعوته في تخوم الصحراء إلى ما وراء نهر النيجر من بلاد السودان، ولذا يعتبر بحق مجدد الإسلام بأفريقيا، وباعث نهضة إسلامية صحيحة في هذه الديار تعمقت جذورها، واتسعت أبعادها، وكان لها أثرها في سلوك تلاميذه ملوك المرابطين، فحاربوا الصليبية والطائفية في بلاد الأندلس، وردوا المغرب إلى أحضان الخلافة الإسلامية بعد أن اقتطع منذ زمان العبيديين الزنادقة.