الإلحاح في الدعاء
عبد العزيز بن فاهد الشهراني
عباد الله: يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}, وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني. قال ابن كثير رحمه الله: (هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة. كما كان سفيان الثوري يقول: يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض العباد إليه من لم يسأله، ليس أحد كذلك غيرك يا رب).
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُنَي آدم حين يُسأل يغضب
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين}.
أيها المؤمنون: للدعاءِ مكانةٌ عظيمة؛ فهو من أعظم العبادات وأجلِّها، محبوبٌ لله عز وجل، وفيه إظهارٌ لذلِّ العبودية لله تعالى والافتقار إليه، ونفي الكبرياء عن عبادته. قال ابن القيم رحمه الله: ( والدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء. يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل. وهو سلاح المؤمن كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين ونور السماوات والأرض) أ.هـ.
عباد الله: إن من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء, الإلحاح في الدعاء, وهو مما يحبه الله ويرضاه، وليس فيه اعتراض على القدر، بل هو إصرار على بلوغ المراد ضمن الأسباب المشروعة، والدعاء أحد هذه الأسباب، فهو من قضاء الله وقدره، وهو علامة العبودية، وأمارة الإيمان .والإلحاح في الدعاء هو دأب النبي r فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا ، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا .رواه مسلم, قال النووي رحمه الله :( فِيهِ : اِسْتِحْبَاب تَكْرِير الدُّعَاء ثَلاثًا). وقال البخاري رحمه الله : بَاب تَكْرِير الدُّعَاء ، ثم ذَكَرَ فِيهِ حَدِيث عَائِشَة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الله تعالى ، وكَرَّرَ الدعاء لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي ، قالت عائشة : حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَا ثُمَّ دَعَا . . . الحديث . قال ابن القيم رحمه الله في "الداء والدواء": ومن أنفع الأدوية : الإلحاح في الدعاء اهـ .وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن قتادة : قال مورق : ما وجدت للمؤمن مثلاً إلا رجلاً في البحر على خشبة فهو يدعو : يارب ... يارب.. لعل الله أن ينجيه .
أيها المؤمنون: إن مما ينبغي على الداعي أن يحذر من الاستعجال في اجابة سؤاله ومطالبه, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ : يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ) رواه البخاري ومسلم. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء , وهو أنه يلازم الطلب ، ولا ييأس من الإجابة ؛ لما في ذلك من الانقياد ، والاستسلام ، وإظهار الافتقار) أ. هـ وقال ابن الجوزي – رحمه الله - : (اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة، أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه، فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض " أ.هـ .
أيها المسلمون: الإكثارُ من الدعاء لله تعالى والتوجه إليه في كل وقت يزيد الإيمان ويقويه وينمي الفطرة ويصقلها ويجعلها مما شابها ويجعل القلب متعلقا بالله محبا راغبا راهبا ويفتح له هذا بابا عظيما من لذيذ المناجاة وحلاوة الإيمان وبشاشته وبرد اليقين ولذيذ المناجاة وطمأنينة النفس مما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي كان يطلبها ويرجو حصولها.
إن القلوبَ ما ضاق ضائقها ... هرعت إلى ربِها الديانِ ذي النعمِ
تبكي الدموعَ وفي أنفاسها ألمٌ ... جباهها في الثرى والقلبُ في القممِ
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن تأخر الإجابة يحمل في طياته حكماً باهرة وأسراراً بديعة، فالله سبحانه هو مالك الملك ، لا راد لفضله ولا معقب لحكمه ، ولا اعتراض على عطائه ومنعه ، إن أعطى فبفضله ، وإن منع فبعدله ، فنحن عبيد له سبحانه يفعل فينا ما يشاؤه ويختاره سبحانه : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ), فمن الحكم في تأخر الإحابة: أن تحقق المطلوب قد يكون فيه بلاء للداعي : وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو فهتف به هاتف : إنك إن غزوت أُسِرْتَ وإنْ أُسِرْتَ تَنَصَّرْتَ . ومن الحكم ايضاً: أن تأخر الإجابة أو امتناعها قد يكون لأن الله يريد أن يؤخر له الثواب والأجر يوم القيامة أو يريد الله سبحانه أن يصرف عنه من السوء مثل دعوته وهو لا يعلم .
وبكل حال فثمرة الدعاء مضمونة حتى ولو لم تر الإجابة بعينيك فأحسن الظن بربك وقل : لعله استجاب لي من حيث لا أعلم ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا ، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ . قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ ) رواه أحمد وحسنه الألباني.
عبد العزيز بن فاهد الشهراني
تصحيح:
إن القلوبَ إذا ما ضاق ضائقها … هرعت إلى ربِها الديانِ ذي النعمِ
تبكي الدموعَ وفي أنفاسها ألمٌ … جباهها في الثرى والقلبُ في القممِ
تعديل التعليق