الإكثار من السجود في العشر الفريد
عبد الله بن علي الطريف
1438/09/13 - 2017/06/08 13:02PM
الإكثار من السجود في العشر الفريد. 1438/9/14هـا
أيها الإخوة: كنا قبل أسبوعين نتشوف لإدراك شهر رمضان، وبفضل الله أدركناه، وها هي أيامه ولياليه تنقضي.. فمنا مَنْ وُفِقَ لاستثمارها، ومنا من فرط.
والآن: ها هي عَشره الأخيرة المعظمة توشك أن تحل بنا، عشر فضّلها الله وخصها بليلة القدر، وهي ليلة كثيرةُ الخيرات، شريفة القدر، عميقة الفضل، متنوعة البركات، قد فخّمَ اللهُ شأنها، وعظمَ مقدارها فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2]، أي: فإن شأنها جليل، وخطرها عظيم.
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3]، أي: تعادل مِن فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها خيرٌ من العملِ في ألفِ شهرٍ خالية منها، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ -تبارك وتعالى- على هذه الأمةِ الضعيفةِ القوَّة والقُوَى، بليلةٍ يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عُمُر رجلٍ مُعَمَّرٍ عُمراً طويلاً نيفًا وثمانين سنة.
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)، أي: يكثر نزولهم فيها (مِنْ كُلِّ أَمْر) أي: من أجل كلّ أمر من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة.
(سَلامٌ هِيَ) أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي: مبتدؤها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر.
وقد تواترت الأحاديث في فضلها، وأنها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه، خصوصًا في أوتاره، وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف، ويُكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر.
أحبتي: سوق التقرب إلى الله في هذه الأيام قد راجت، وأبواب عطائه الضخمة قد فُتِحَتْ فهلَّا وَلَجْنَا، ولبابه قرَعنا، وللكسل والخمول طرحنا، ولعظيم جوده تعرَّضْنا؟!.
نقول هذا قبل حلول العشر الأخير من هذا الشهر تذكيراً، ونتواصى باستثمارها من باب: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55].
ليالي العشر أيها الإخوة: ليالي القيام، احرصوا وفقكم الله على أن لا يفوتكم شيء من صلاة التراويح والقيام، من تكبيرة الإحرام حتى السلام من الوتر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ" رواه (ت س د جة حم) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ و"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". رواه البخاري
ليالي العشر ليالي قيام وتراويح، يكثر فيها السُّجُود الذي هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وهو وضع الجبهة على الأرض بقصد التذليل والخضوع لله تعالى.
وحال المسلم في السُّجودِ أكمل حالات التعبُّد لله والذُّلِّ له، ذلك أن الساجد يضع أشرف ما فيه وهو جبهته؛ بحذاء أسفل ما فيه وهو قدمه، ويضعها على موطئ الأقدام، يفعل كلَّ هذا تعبُّداً لله تعالى وتقرُّباً إليه.
ومِن أجل هذا التَّطامن والنزول الذي فَعَلَهُ العبد لله تعالى كانت حالة السجود أفضل هيئة للمصلي، بل جعل الله سبحانه العبد فيها أقرب ما يكون إليه، فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" رواه مسلم،
أحبتي: هذه هي الحكمة والسِّرُّ في هذا السجود العظيم، ولهذا ينبغي لنا أن تسجد قلوبُنا قبل أن تسجدَ جوارحُنا؛ ينبغي لنا أن نستشعر الذُّلَّ والتَّطامنَ والتواضعَ لله عزَّ وجلَّ في قلوبنا.
وحتى يدركَ المسلمُ لذَّةَ السُّجودِ وحلاوتَه، عليه أن يعلمَ أنَّه أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد، فإذا علم ذلك أدرك أن لحظاتِ السجودِ لحظاتٌ فريدةٌ في عمرِ الإنسانِ، لأنهُ يكونُ فيها في مقامِ القرب من الربِ جلَ جلاله، وحين يستشعرُ القلبُ كلَ هذه المعاني وأمثالَها، تنفتحُ له في لحظاتِ السجودِ عوالمُ وآفاقٌ، وتتوالد في روحِه معانٍ راقيةٍ يعجزُ القلمُ عن تقييدِها.
ومن عرفَ اللهَ حقاً ذاقَ لذةَ السجودِ وشعرَ بلذةِ التسبيحِ والمناجاةِ التي لا تعدلها لذة في الدنيا، ومن الحرمان الذي منيت به الأمةُ في هذا الزمان حرمانها من لذة مناجاة الله في السجود، ونقره كنقر الغراب.
كثرةُ سجود العبد أيها الإخوة: سببٌ في مرافقة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجنة، فعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: "سَلْ"، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟"، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" رواه مسلم.
الخضوعُ لله تعالى بكثرة السجود أيها الأحبة: يرفع منزلة العبد عند الله تعالى؛ فعن مَعْدَان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً". قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ. رواه مسلم.
أخي الحبيب: وأنت في حال القرب من الرب الكريم الجواد البَر الرحيم، بُث إليه شكواك بخضوعٍ وتودد، ألحَ عليه.. ابكِ بين يديه.. أفرغ في سجودك كل شكواك ومناك بيقين أنه يسمعُك ويراك.. بُثَّهُ الشكوى بكلِ تفاصيلها واسأله حَلَّها وتحويلها فوالله لن يردك.. ووالله لن يخيبك.. فهو الذي يحب الملحين بالدعاء، ويستجيب لللأواء.
فلياليَ العشرِ أيها الإخوة: لياليَ الدعاء، يتفرّغ فيها عموم المسلمين للطاعة، ويرفع فيها الأئمة الدعوات إلى الباري جل وعلا في آخر كل ليلة في قنوتهم، ويُؤمّنُ عليها المصلون، ويلهجون جميعًا لله بالدعاء في سجودهم وجلوسهم وخلواتهم.
جميلٌ ونحنُ نعيشُ هذه اللحظاتِ السعيدةِ أن نتذكرَ قولَ الرَسُولِ صلى الله عليه وسلم: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟" متفق عليه. أحبتي: اللهُ جل جلاله، الملكُ القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟! أين نحن من هذه العروضِ الربانية الضخمة، والدعوةِ الكريمة السامية المتوددة؟! كيف يطيب لنا سمر.. كيف يطيب لنا تسوق.. ونغفل عن هذه العروض.! مع أننا محتاجون ضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! لماذا لا نعرض حاجتنا عليه، ونمرغ أنوفنا بين يديه، وننيخ مطايانا ببابه؟! ونسكب العبرات في محرابه، فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه؟!.
فما لنا عن هذا الباب الـمُشْرَعِ للإجابة غافلين، وفي طَرقِهِ مترددين، وعن وُلُوجِه متأخرين، وعن إجابته متثاقلين؟!.
والله لو ألحّ علينا سائل بقليل لاستجبنا وأسرعنا، فما لنا لا نستجيب؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، هذا وصف ملازم لكل ما دعا اللّهُ ورسولُه إليه، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].
فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم! فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء، ويصرفها أنى شاء. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، وصل الله على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: احذروا الغفلة أثناء الدعاء والتأمين عليه، فقد حذّر من ذلك رَسُولُنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ" رواه الترمذي وحسنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
واستحضِروا معانيَ الدعاءِ، وأَظْهِروا الافتقارَ والذلَ بين يدي للهِ أثناءَ دعائِكم، ولا تستبطئوا الإجابة، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الاسْتِعْجَالُ؟! قَالَ: «يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أي: ينقطع عن الدعاء.
أيها الأحبة: أدعو نفسي وإخواني من الأئمة والمأمومين لترتيب دعائهم، بأن نرتب دعاءنا فندعو لأنفسنا، ونستوعب حاجاتنا، ثم ندعو لوالدينا وذريتنا وأزواجنا ومن نحب بخيري الدنيا والآخرة، ثم ندعو لإخواننا المسلمين من السابقين الأولين واللاحقين عمومًا، ثم نخص المظلومين والمعوزين في الأرض قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
وندعو لولاة الأمر من العلماء والأمراء والولاة بخير؛ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "دُعَاءُ الْمُسْلِمِ مُسْتَجَابٌ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، مَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ إِلا قَالَ لَهُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ" رواه البغوي واللفظ له، وابن ماجه، وصححه الألباني.
قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: وفي هذه الأيام العصيبة ينبغي أن نطيل السجود وأن نكثر من الدعاء بأن يأخذ الله على أيدي الظالمين المعتدين ونلح ولا نستبطئ الإجابة لأن الله حكيم قد لا يجيب الدعوة بأول مرة أو ثانية أو ثالثة من أجل أن يعرف الناس شدة افتقارهم إلى الله فيزدادوا دعاء، والله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، حكمته بالغة لا نستطيع أن نصل إلى معرفتها، ولكن علينا أن نفعل ما أمرنا به من كثرة الدعاء.
أيها الإخوة: كنا قبل أسبوعين نتشوف لإدراك شهر رمضان، وبفضل الله أدركناه، وها هي أيامه ولياليه تنقضي.. فمنا مَنْ وُفِقَ لاستثمارها، ومنا من فرط.
والآن: ها هي عَشره الأخيرة المعظمة توشك أن تحل بنا، عشر فضّلها الله وخصها بليلة القدر، وهي ليلة كثيرةُ الخيرات، شريفة القدر، عميقة الفضل، متنوعة البركات، قد فخّمَ اللهُ شأنها، وعظمَ مقدارها فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2]، أي: فإن شأنها جليل، وخطرها عظيم.
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3]، أي: تعادل مِن فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها خيرٌ من العملِ في ألفِ شهرٍ خالية منها، وهذا مما تتحير فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ -تبارك وتعالى- على هذه الأمةِ الضعيفةِ القوَّة والقُوَى، بليلةٍ يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عُمُر رجلٍ مُعَمَّرٍ عُمراً طويلاً نيفًا وثمانين سنة.
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)، أي: يكثر نزولهم فيها (مِنْ كُلِّ أَمْر) أي: من أجل كلّ أمر من الأمور التي قضى الله بها في تلك السنة.
(سَلامٌ هِيَ) أي: سالمة من كل آفة وشر، وذلك لكثرة خيرها (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي: مبتدؤها من غروب الشمس ومنتهاها طلوع الفجر.
وقد تواترت الأحاديث في فضلها، وأنها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه، خصوصًا في أوتاره، وهي باقية في كل سنة إلى قيام الساعة.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف، ويُكثر من التعبد في العشر الأواخر من رمضان، رجاء ليلة القدر.
أحبتي: سوق التقرب إلى الله في هذه الأيام قد راجت، وأبواب عطائه الضخمة قد فُتِحَتْ فهلَّا وَلَجْنَا، ولبابه قرَعنا، وللكسل والخمول طرحنا، ولعظيم جوده تعرَّضْنا؟!.
نقول هذا قبل حلول العشر الأخير من هذا الشهر تذكيراً، ونتواصى باستثمارها من باب: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55].
ليالي العشر أيها الإخوة: ليالي القيام، احرصوا وفقكم الله على أن لا يفوتكم شيء من صلاة التراويح والقيام، من تكبيرة الإحرام حتى السلام من الوتر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ" رواه (ت س د جة حم) عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ و"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". رواه البخاري
ليالي العشر ليالي قيام وتراويح، يكثر فيها السُّجُود الذي هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وهو وضع الجبهة على الأرض بقصد التذليل والخضوع لله تعالى.
وحال المسلم في السُّجودِ أكمل حالات التعبُّد لله والذُّلِّ له، ذلك أن الساجد يضع أشرف ما فيه وهو جبهته؛ بحذاء أسفل ما فيه وهو قدمه، ويضعها على موطئ الأقدام، يفعل كلَّ هذا تعبُّداً لله تعالى وتقرُّباً إليه.
ومِن أجل هذا التَّطامن والنزول الذي فَعَلَهُ العبد لله تعالى كانت حالة السجود أفضل هيئة للمصلي، بل جعل الله سبحانه العبد فيها أقرب ما يكون إليه، فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" رواه مسلم،
أحبتي: هذه هي الحكمة والسِّرُّ في هذا السجود العظيم، ولهذا ينبغي لنا أن تسجد قلوبُنا قبل أن تسجدَ جوارحُنا؛ ينبغي لنا أن نستشعر الذُّلَّ والتَّطامنَ والتواضعَ لله عزَّ وجلَّ في قلوبنا.
وحتى يدركَ المسلمُ لذَّةَ السُّجودِ وحلاوتَه، عليه أن يعلمَ أنَّه أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد، فإذا علم ذلك أدرك أن لحظاتِ السجودِ لحظاتٌ فريدةٌ في عمرِ الإنسانِ، لأنهُ يكونُ فيها في مقامِ القرب من الربِ جلَ جلاله، وحين يستشعرُ القلبُ كلَ هذه المعاني وأمثالَها، تنفتحُ له في لحظاتِ السجودِ عوالمُ وآفاقٌ، وتتوالد في روحِه معانٍ راقيةٍ يعجزُ القلمُ عن تقييدِها.
ومن عرفَ اللهَ حقاً ذاقَ لذةَ السجودِ وشعرَ بلذةِ التسبيحِ والمناجاةِ التي لا تعدلها لذة في الدنيا، ومن الحرمان الذي منيت به الأمةُ في هذا الزمان حرمانها من لذة مناجاة الله في السجود، ونقره كنقر الغراب.
كثرةُ سجود العبد أيها الإخوة: سببٌ في مرافقة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجنة، فعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: "سَلْ"، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟"، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" رواه مسلم.
الخضوعُ لله تعالى بكثرة السجود أيها الأحبة: يرفع منزلة العبد عند الله تعالى؛ فعن مَعْدَان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً". قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ. رواه مسلم.
أخي الحبيب: وأنت في حال القرب من الرب الكريم الجواد البَر الرحيم، بُث إليه شكواك بخضوعٍ وتودد، ألحَ عليه.. ابكِ بين يديه.. أفرغ في سجودك كل شكواك ومناك بيقين أنه يسمعُك ويراك.. بُثَّهُ الشكوى بكلِ تفاصيلها واسأله حَلَّها وتحويلها فوالله لن يردك.. ووالله لن يخيبك.. فهو الذي يحب الملحين بالدعاء، ويستجيب لللأواء.
فلياليَ العشرِ أيها الإخوة: لياليَ الدعاء، يتفرّغ فيها عموم المسلمين للطاعة، ويرفع فيها الأئمة الدعوات إلى الباري جل وعلا في آخر كل ليلة في قنوتهم، ويُؤمّنُ عليها المصلون، ويلهجون جميعًا لله بالدعاء في سجودهم وجلوسهم وخلواتهم.
جميلٌ ونحنُ نعيشُ هذه اللحظاتِ السعيدةِ أن نتذكرَ قولَ الرَسُولِ صلى الله عليه وسلم: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟" متفق عليه. أحبتي: اللهُ جل جلاله، الملكُ القدوس العزيز الجبار المتكبر، ينادي بودٍّ عبادَه فيقول: مَن يدعوني؟! من يسألني؟! من يستغفرني؟! أين نحن من هذه العروضِ الربانية الضخمة، والدعوةِ الكريمة السامية المتوددة؟! كيف يطيب لنا سمر.. كيف يطيب لنا تسوق.. ونغفل عن هذه العروض.! مع أننا محتاجون ضعفاءُ لمسألته وفضله وجوده؟! لماذا لا نعرض حاجتنا عليه، ونمرغ أنوفنا بين يديه، وننيخ مطايانا ببابه؟! ونسكب العبرات في محرابه، فمَن الذي دعاه بصدق فخيَّبه؟! بل مَن الذي انطرح بين يديه بصدق فأعرض عنه وتركه؟!.
فما لنا عن هذا الباب الـمُشْرَعِ للإجابة غافلين، وفي طَرقِهِ مترددين، وعن وُلُوجِه متأخرين، وعن إجابته متثاقلين؟!.
والله لو ألحّ علينا سائل بقليل لاستجبنا وأسرعنا، فما لنا لا نستجيب؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، هذا وصف ملازم لكل ما دعا اللّهُ ورسولُه إليه، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال:24].
فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم! فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء، ويصرفها أنى شاء. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، وصل الله على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: احذروا الغفلة أثناء الدعاء والتأمين عليه، فقد حذّر من ذلك رَسُولُنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ" رواه الترمذي وحسنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
واستحضِروا معانيَ الدعاءِ، وأَظْهِروا الافتقارَ والذلَ بين يدي للهِ أثناءَ دعائِكم، ولا تستبطئوا الإجابة، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الاسْتِعْجَالُ؟! قَالَ: «يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أي: ينقطع عن الدعاء.
أيها الأحبة: أدعو نفسي وإخواني من الأئمة والمأمومين لترتيب دعائهم، بأن نرتب دعاءنا فندعو لأنفسنا، ونستوعب حاجاتنا، ثم ندعو لوالدينا وذريتنا وأزواجنا ومن نحب بخيري الدنيا والآخرة، ثم ندعو لإخواننا المسلمين من السابقين الأولين واللاحقين عمومًا، ثم نخص المظلومين والمعوزين في الأرض قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
وندعو لولاة الأمر من العلماء والأمراء والولاة بخير؛ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "دُعَاءُ الْمُسْلِمِ مُسْتَجَابٌ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، مَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ إِلا قَالَ لَهُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ" رواه البغوي واللفظ له، وابن ماجه، وصححه الألباني.
قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: وفي هذه الأيام العصيبة ينبغي أن نطيل السجود وأن نكثر من الدعاء بأن يأخذ الله على أيدي الظالمين المعتدين ونلح ولا نستبطئ الإجابة لأن الله حكيم قد لا يجيب الدعوة بأول مرة أو ثانية أو ثالثة من أجل أن يعرف الناس شدة افتقارهم إلى الله فيزدادوا دعاء، والله سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين، حكمته بالغة لا نستطيع أن نصل إلى معرفتها، ولكن علينا أن نفعل ما أمرنا به من كثرة الدعاء.