الإفلاس الحقيقي
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين ، خلق فسوى ، وقدر فهدى ، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأُصلي وأُسلم على رسوله ومصطفاه محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى وخشيته في السر والعلن ، فمن لزم ذلك أفلح ونجا وثقُل ميزانه يوم تخف وتثقل الموازين: ( والوزن يومئذٍ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون)
.إخوة الإيمان: السَّعْيُ وراءَ الكَسْبِ وَجَمْعُ المال أمر فُطِرت عليه نفوس بني آدم ، فالكلُّ يَهْرُبُ مِنَ الإفْلاسِ، والجميعُ يحْذَرُ عيش الذل والسؤال
.إفلاسُ الدُّنيا مُؤْلِمٌ وَمَرِيْرٌ، وَمُؤَثِّرٌ على العَقْلِ والصِّحَّةِ تأثيرُ بليغ ، بَيْدَ أنَّ هذا الإفْلاسَ يَظَلُّ محدوداً يُمكن تَعْوِيْضُه وتداركه والتعايش معه، فمع شدته في الدنيا إلا أنه يَتَصَاغَرُ أمامَ الإفلاس الحقيقي الأُخروي الذي لا يعوَّض، إنه إفلاسُ ضياعِ الأعمال الصالحة والحسنات، وضلالِ السَّعْيِّ والقُربات يوم العرض الأكبر.
.لا تَسَلْ عَنْ حَسْرَةِ مَنْ أَتَى يومَ القيامةِ بحسناتٍ كأمثالِ الجبال، فَفَرِحَ بها واسْتَبْشَرَ، لكنَّه ما يلبث حتى يراها تَذْهَبُ وتضمحل أمام عينيه في دِيون وحقوق لهذا وذاك من الناس ، ويراها تُقسم بينهم حتى يُصبح من المفلسين بعد أن كان من أصحاب الجبال من الحسنات والرصيد العالي من الدرجات
حدث النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صحابتَه الكرامَ يوماً فقال: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" فَقَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"رواه مسلم
أيها المسمون: هذا الإفلاسُ الأُخْرَويُّ نعوذ بالله تعالى منه إنما يكون يوم العدل وإقامة القسط ، وما حصل إلا لأسباب كثيرة يَجْمَعُها لفظُ الاعْتِدَاء؛ الاعتداءُ على الآخرينَ بالقول أو الفعل، فمسكين ذلك العبد الذي عرض بِضَاعَتَهُ وما جناه في دنياه وكدح من أجله وجمعه من الحسنات للإفلاس والضياع حين تؤخذ من رصيده وتُعطى لمن اعتداء عليهم بقوله أو فعله
خاب وخسر ذلك العبد الذي لا يحفظ لسانه عن السب والشتم والقذف لعباد الله واستنقاصهم والسخرية منهم، خاب وخسر ذلك العبد الذي لا يحفظ لسانه عن الغيبة للمسلمين ويسعى بالنميمة بينهم، خاب وخسر ذلك العبد الذي يعتدي على الأموال المصونة نهباً وتحايلاً في أخذها من أهلها بغير حق، خاب وخسر ذلك العبد الذي يعتدي على الدماء المعصومة سفكاً بغير حق، خاب وخسر ذلك العبد الذي يده تبطش بكل ضعيف قدر عليه من زوجةٍ أو ولدٍ أو عاملٍ تحت يده أو غيرهم ضرباً وإيذاءً، خاب وخسر ذلك العبد الذي يأخذ أموال الناس ديناً ويتهاون في سدادها وربما بيّت النية بعدم السداد، خاب وخسر ذلك العبد الذي يغش في عمله وبيعه وشراءه لعباد الله تعالى
هؤلاء عباد الله وغيرهم ممن اعتداء على حقوق العباد هم الخاسرون حقاً حين يقفون بين يدي الله تعالى يوم الدين لوزن الأعمال وحين يُقضى بين العباد فيُوفى لكل عبدٍ نصيبه غير منقوص، ويؤخذ لكل عبد ما له عند الآخرين من حق كثيراً كان أم قليلاً: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)
عباد الله: ما دمنا في زمن العمل والمهلة ليحاسب كلُ منا نفسه فيما اقترفه من حقوق العباد ولو كان ولداً أو زوجةً أو قريب أو بعيد، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنية لكل امرء منهم شأن يغنيه، ليتدارك ما فات من التقصير وليرفع ما وقع منه من ظلم للآخرين، وليتحلل من المظالم قبل أن ينقضي الأجل ويحل الحساب فيكون من المفلسين، فإن الحق سيعود لأهله عاجلاً أم آجلاً، والسعيدُ من تدارك ذلك ما دام في العمر بقية، والمحروم من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني
في غداة غزوة بدر جعل رسول الله يُعَدَلُ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ، وَبيَدِهِ سهمٌ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ -رضي الله عنه-، فرآه متقدم على الصَّفِّ، فَطَعَنَ رَسُولُ اللهِ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: "اسْتَوِ يَا سَوَادُ"، فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْعَدْلِ؛ فَأَقِدْنِي، فَقال لَهُ رَسُولُ اللهِ ":استقد"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ طَعَنْتَنِي وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللهِ عَنْ بَطْنِهِ، وقال: "استقد"، فَاعْتَنَقَهُ سواد وَجعل يقبِّل بَطْنَهُ، وقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقال: "ما حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟"؛ فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَلَمْ آمَنِ الْقَتْلَ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ بِخَيْرٍ.
.هكذا هم الموفقون العقلاء المهديون لا يَأْنَفُونَ مِن الاقتصاص، بل يسعون له لسلامة أنفسهم، والتحلل من خصومهم، يتسامحون في هذه الدار حين يكون رد المظالم فيها يسيراً قبل يوم الدين حين يكون رد المظالم فيه عسيراً
روى البخاري في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها ، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أُخذ من حسنات أخيه فطرحت عليه)
. اللهم إنا نعوذ بك من الإفلاس يوم الدين، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد
أيها المؤمنون: في مقابل الوعيد للظلمة والمعتدين على حقوق العباد بالاقتصاص منهم يوم الدين وإفلاسهم في طيات ذلك وعد للمظلومين والمعتدى على حقوقهم في هذه الدار ببلوغ حقهم والاقتصاص لهم ممن ظلمهم في الدار الدنيا يوم لا درهم ولا دينا وإنما بأعظم ما يملك ذلك المعتدي عند الميزان وهي أعماله الصالحة التي هي سبب نجاته بعد رحمة الله تعالى من العذاب الأليم، وفي ذلك سلوة لهم حين يتأخر نصرهم ورد حقهم في هذه الدار فالدار الآخرة أحوج ما يكونوا لرد مظالمهم لتثقُل موازينهم بالحسنات
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا وحرم على النار أجسادنا
اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة ونعوذ بك من سخطك ونارك
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
المرفقات
1673953981_خطبة بعنوان الإفلاس الحقيقي.pdf
1673953997_خطبة بعنوان الإفلاس الحقيقي.docx