الإشاعة مرض خطير وعدو لدود
سعود المغيص
الخُطْبَةُ الأُولَى :
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أمّا بعد عبادَ الله :
اتَّقُوا اللهَ تَعالى، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى انْتِشارِ الفَوْضَى واضْطِرابِ الأُمُورِ : بثَّ الشائِعاتِ المُخْتَلِفَةِ والافْتِراءَاتِ الآثِمَةِ .
عِبادَ اللهِ : إِنَّ تاريخَ الإِشاعةِ قَدِيمٌ قِدَمَ هذا الإنسانِ، وَقَدْ ذُكِرَت في كِتابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِقِراءَةِ قَصَصِ الأنبياءِ عَلَيْهِم السلامُ، نَجِدُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُم قَدْ أُثِيرَ حَوْلَهُ الكَثِيرُ مِن الإشاعاتِ مِنْ قِبَلِ قَوْمِهِ، والتي كانَ لَها الأَثَرُ في جَعْلِ بَعْضِ الْمُعَوِّقاتِ في طريقِ دَعْوَةِ أَولَئِكَ الأنبياءِ والرُّسُلِ. وكذلك عائقاً في طريقِ دعوةِ وَرَثَةِ الأنبياءِ مِن العُلَماءِ، فَكَمْ نَسْمَعُ مِن اتِّهامِ العُلَماءِ بِالعَمَالَةِ، أَوْ المُداهَنَةِ، أَوْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ ما يَجْرِي في الساحَةِ، أو نَقْصِ التَصَوُّرِ لِمَا يَحْدُثُ في واقِعِ الأُمَّةِ.
وَانْظُرُوا إلى مَدَى تَأْثِيرِها فِي نُفُوسِ الناسِ خُصوصًا الشبابَ الذين هُم عِمادُ الأُمَّةِ. فَكَمْ مِنْ شابٍّ وَقَعَ في الغُلُوِّ والتكفيرِ بِسَبَبِ انْعِزالِهِ عن العُلَماءِ، أو في البِدَعِ أو الحِزْبِيَّةِ، نَتِيجَةَ ما يَسْمَعُ مِن التَّهْوِينِ مِنْ شَأْنِ العُلَماءِ، أَوْ ما يُشاعُ حَوْلَهُم. ومِنْ أَخْطَرِ أُمُورِ الإشاعَةِ، ما يَكُونُ في حَقِّ وُلاةِ الأَمْرِ، والسَّعْيِ في تَشْوِيهِ سُمْعَتِهِمْ، مِمَّا يُسَبِّبُ إيغارَ الصُّدُورِ عَلَيْهِم، وتَعْبِئَةَ الناسِ عَلَيْهِمْ، وهذا مِنْ أَفْسَدِ ما يَكُونُ في أَمْرِ
الإشاعَةِ، وهُو سِلاحُ الْمُفْسِدِينِ، وأَعْداءِ الجماعَةِ وَوِحْدَةِ الصَّفِّ. ولَهُ رَواجٌ ، لأَنَّه يُزَخْرَفُ لِلناسِ باسْمِ الغَيْرَةِ ومَحَبَّةِ الوَطَنِ.
إِنَّ الإشاعةَ مَرَضٌ خَطِيرٌ، وَعَدُوٌّ لَدُودٌ لا يَنْجُو مِنْه إلا مَنْ هُوَ عاقِلٌ رَزِينٌ مُتَسَلِّحٌ بالتَّقْوَى، ولا يَتَأَثَّرُ بِكُلِّ ما يَسْمَعُ.
وبِهذِه المُناسَبَةِ، يَحْسُنُ أَنْ نَسُوقَ قِصَّةً لِصَحابِيٍّ جَلِيلٍ كادَتْ الإشاعةُ تَصُدُّهُ عن الهِدايَةِ لِلإسلامِ، لَوْلا أَنَّ اللهَ رَزَقَهُ عَقْلاً يَعْرِفُ كَيْفَ يَزِنُ بِهِ الأُمُورَ بِمِيزانِ العَدْلِ والتَثَبُّتِ. ألا وَهُوُ الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ: حَيْثُ كان سَيِّدًا مُطاعًا فِي قَوْمِهِ، فِي أَرْضِ دَوْسٍ وشاعِرًا نابِغَةً ، ذَاعَ صِيتُهُ بَيْنَ العَرَبِ، فَلَمَّا أرادَ زيارةَ مَكةَ ، خَشِيَ كفارُ قُريشٍ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِدَعْوَةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ، فاسْتَقْبَلُوهُ وأَشاعُوا بِأَنَّ محمداً ساحِرٌ وَكاهِنٌ وشاعِرٌ ، وَأَنَّه فَرَّقَ بَيْنَ الوالِدِ وَوَلَدِهِ والمَرْأَةِ وزَوْجِها، وطَلَبُوا مِنْه إذا طافَ بالبَيْتِ أَنْ يَضَعَ في أُذُنِهِ القُطْنَ حَتَّى لا يَسْمَعَ القُرْآنَ. فَفَعَلَ في أَوَّلِ الأَمْرِ، ثُمَّ وَقَفَ مَعَ نَفْسِهِ وَقْفَةَ الرَّجُلِ العاقِلِ المُنْصِفِ فقال: (إِنِّي رَجُلٌ لَبِيبٌ شاعِر!!! وَأَعْرِفُ الفَرْقَ بَيْنَ الكلامِ الحَسَنِ والكلامِ القَبِيحِ، فَلِماذا لا أَسْتَمِعُ إلى قَوْلِه؟) فَجَاءَ البَيْتَ لِيَطُوفَ ، وَسَمِعَ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وَهُوَ يَقْرَأُ القُرآنَ ، فَأَعْجَبَه ذلك. ثُمَّ تَبِعَ
النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم إلى مَنْزِلِهِ، وقال: ( يا محمد: إِنَّ قَوْمَكَ حَدَّثُونِي بِكَذا وكَذا ، فَمَا بَرِحُوا يُخَوِّفُونَنِي حتى وَضَعْتُ فِي أُذُنِي القُطْنَ ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكَ ، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ ) فَعَرَضَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَيْهِ الإسلامَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ القُرْآنَ، فَأَسْلَمَ الطُّفَيْلُ. ثُمَّ رَجَعَ إلى أَرْضِ دَوْسٍ يَدْعُوهُم إلى التوحيدِ، فَأَسْلَمَ أَهْلُ بَيْتِهِ، وَأَسْلَمَ مِنْ عَشِيرَتِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَطْ، وأَمَّا البَقِيَّةُ فَقَدْ عادَوْهُ وَخَذَلُوهُ ، حَتَى نَفِدَ صَبْرُه مَعَهُم ، فَرَكِبَ راحِلَتَه وعادَ إلى الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم يَشْكُو إِلَيْه ، وكان مِمَّا قال: ( إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْها ). وكانَتْ الْمُفاجَأَةُ التي أَذْهَلَتْ الطُّفَيْلَ، أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم، رَفَعَ يَدَيْهِ وقال: ( اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً وَأْتِ بِهِمْ ) ثُمَّ قال لِلطُّفَيْلِ: ( ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ فادْعُهُمْ وارْفُقْ بِهِم )، فَنَهَضَ وعادَ إلى قَوْمِهِ يَدْعُوهُمْ بِأَناةٍ وَرِفْقٍ، فَجاءُوْا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ مُسْلِمِين.
اللهمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلا أَنْتَ، واصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَها لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أَنْتَ،
أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمّا بَعدُ عِبادَ الله :
إِنَّ مَنْ يَسْلُكُ مَنْهَجَ القُرآنِ والسُّنَّةِ عِنْدَ تَلَقِّي الأخبارِ والشائِعاتِ ، سَوْفَ يَسْلَمُ مِنْ الإِثْمِ والوُقُوعِ في التُّهَمِ الباطِلَةِ، وَيَجِدُ ثَوابَ ذلك أَيْضًا في الدنيا والآخرة.
انْظُرُوا إلى الطُّفَيْلِ رضي اللهُ عَنْهُ كَيْفَ هداه اللهُ إلى الإسلامِ بِسَبَبِ ذلك ، بَلْ هَدَى اللهُ قَوْمَه أَيْضًا بِسَبَبِ تَثَبُّتِهِ ، وعَدَمِ انْسِياقِهِ لِكُلِّ ما يُقالُ ، فَجاءُوا إلى المَدِينَةِ مُهاجِرِين، ونَاُلوا شَرَفَ الهِجْرَةِ والصُّحْبَةِ.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعالَى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )، وَقَوْلَه صلى اللهُ عليه وسلم: ( كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ ).
اللهم صلي الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا ..
اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهُمَّ اِحْمِ بلادَنا، وسائرَ بلادِ الإسلامِ مِنَ الفِتَنِ والمِحَن، مَا ظَهَرَ مِنهَا ومَا بَطَن. اللهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الحَرَمَينِ الشَّريفينِ ووَلِيَّ عَهدِهِ لِمَا تُحِبُّ وتَرْضَى، وخُذْ بِهمَا للبِرِّ والتَّقْوَى، وأعنهما على ما فيهِ صلاحُ الإسلام والمسلمين.
اللهُمَّ احفَظْ جنودَنا المرابطين على الثُّغور، اللهُمَّ قَوِّ عزائمَهُم، وسَدِّدْ سهامَهُم، واكبِتْ أعداءَهُم، وتقبَّلْ شهيدَهُم، وعافِ جريحَهُم، وانصُرْهم على القَومِ الباغين، يا ربَّ العالمين.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الذي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا التي فيها مَعَاشُنَا، وأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا التي فيها مَعَادُنَا، واجْعَلِ الحَياةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيْر، والمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً ، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنةً وفي الآخِرَةِ حَسَنةً وقِنَا عذابَ النار)
سُبحانَ ربِّكَ ربِّ العِزَّةِ عمَّا يصفون ، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.