الإسلامي حين يؤسس للعلمانية ! عبد الوهاب آل غظيف
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1432/12/07 - 2011/11/03 19:00PM
الإسلامي حين يؤسس للعلمانية !
عبد الوهاب آل غظيف
مدخل:
كان البعض يقول عن التنوير: إنه جسر بين الإسلامية والعلمانية، يصف بذلك الحالة التلفيقية بينهما التي هي عماده وقوامه، بيد أن ثمة (صقور) في الحالة التنويرية لم ترتضي لنفسها أن تكون جسراً، في ذات الوقت ليست مستعدة للرجوع إلى الحضن الإسلامي الذي ما فتئت تخدشه وتكلبه في تحامل ملفت، فتَحَدَّد مكانها في أطروحات علمانية كالحة ليس شيء -سوى الورع البارد- يمنع من تصنيفها كذلك!
في حوار قديم جرى بين تنويري وأحد المشايخ الفضلاء، كان هذا الشيخ صريحاً في توصيف فهم محاوره بأنه فهم علماني، أقام هذا التنويري مناحة على هذه الكلمة، وشنع وبشع على الشيخ، وعلا صراخه وعويله، وبعد فترة يسيرة تابعته في حوار مع أحد العلمانيين في (تويتر) في نهايته وصف العلماني منطق زميله التنويري بأنه ذات العلمانية! فما كان من هذا (المشنع في الموقف الأول) إلا أن تقبل الوصف بصدر رحب، وذهب يلقي موعظة حول عدم اهتمامه بمصطلح العلمانية لأنه مشكل في أذهان الناس!
هذا موقف مزدوج قد يكون باعثه نوع (تقية فكرية) مع مصطلح العلمانية، بينما هناك تنويري آخر لامانع عنده من الحديث عن (العلمانية التي لا تتعارض مع الإسلام) .
مصطفى الحسن و خطاب النهضة التونسي:
تحت عنوان: ( خطاب النهضة التونسي تأسيسي لا مرحلي ) كتب الأستاذ مصطفى الحسن كلاماً يقرر من خلاله مثالية الوضع التونسي والتركي بالنسبة للخطاب الإسلامي كما يراه، ويدعو الإسلاميين إلى أن يحذو حذوهما في تغيير الخطاب، مؤكداً – كما يوضح العنوان – على ضرورة أن يكون هذا التغيير تأسيسي وليس مرحلياً، ولا يفصّل كثيراً في أبعاد هذا التغيير ونواحيه، وإنما يكتفي بالإشارة إلى كونه جذرياً.
بغض النظر عن سؤال: هل مصطفى الحسن جاد في رهن طموحه الإسلامي بالنموذج التركي أو التونسي.. أو هل هو مدرك لحقيقة التصور الإسلامي وما فيه من وظائف وواجبات سياسية لم تتحقق ولو بالشكل الأدنى في النموذجين المذكورين .. هناك نقطة جديرة بأن أقدمها في وقفة مع كتابته، إنها (الشرر الذي يتطاير من كتاباته تجاه الإسلاميين ) !
لقد مارس هوايته في طعنهم وتجريحهم، فالذين تمسكوا بالإسلام كما أنزله الله، ولجأوا إلى تبرير الحالة التركية والحالة التونسية بأنها أحوال ضرورة، يقول عنهم : (هذا النوع من الخطاب، إنها في الواقع براغماتية مقيتة، وكذب وقح على الشعوب، أن تتحدث للناس وتعدهم بشيء، وتضمر شيئا آخر، وأن تبدي من الرؤية للمستقبل ما تخفيه، هذا بلغة الشريعة نفاق و كذب، وليس فقها ) .
هكذا تبدو الصورة بكل وضوح! الإسلاميون الذين لا يحرفون الدين، ويعلمون أن الحالة التركية والحالة التونسية لم تصل بعد لصورة إسلامية مكتملة، ثم هم يعتذرون لإخوانهم بأنهم في حالة ضرورة وواقعهم يحتم عليهم التدرج، هم عند الحسن ( براغماتيون وكذبة وقحون ومنافقون ) ! أتساءل : أي فكر إسلامي يدفع لهكذا موقف بالله عليكم؟!
اختزال الموقف ثم التشنيع عليه:
مصطفى الحسن قبل أن يتحفنا بشرره المتطاير على الإسلاميين مارس اختزالاً لموقفهم، فهم ليسوا كما يزعم (يضمرون ما لا يظهرون ) وهم أيضاً ( لا يكذبون على الشعوب) كل ما في الأمر أنهم يخففون الظلم في الولاية الظالمة حسب إمكانهم، أو يسعون لفرض الشريعة بالتدرج حسب إمكانهم أيضاً، وكل ذلك لا علاقة له بـ ( الإسلام ) الذي يبلغونه للناس.
ففقهه الشرعي لم يسعفه للتفريق بين دور سياسي يلعبه أحد الإسلاميين في الدخول في ولاية ظالمة لتخفيف ظلمها، وبين فقيه يكشف عن حكم الشرع لا يجوز له أن يغير الحكم ولا أن يبدله.
وأيضاً فإن فقهه السياسي لم يسعفه للإحاطة بصورة المسألة وأبعادها، فالواقع الذي نتحدث عنه فيه استبداد وسطوة علمانية محلية وعالمية ترفض وتجرم الدعوة إلى الدولة الإسلامية، وهذا الاستبداد الصارخ والقمع العلماني للإسلام ، كما يواجه على صعيد الفكر بكل صراحة فإنه لا حرج أن يواجه على صعيد السياسة بالالتزام الظاهري بشرطه مقابل العمل على تغييره ودفع بغيه ورده عن الأمة ، الحسن يسمي هذه الممارسة: كذبا، فليهنأ بموقفه هذا الغيور لـ(سطوة العلمانية) !
كنت سأبحث عن وجهة أتقبل من خلالها حديته تلك في التشنيع على الإسلاميين لو كان الإسلاميون يمارسون هذا الخضوع للسطوة العلمانية وهم بالخيار ألا يمارسوه!
كنت سأحاول تقبل هجومه عليهم لو كانت الحرية مكفولة لهم، ولو كانت أطروحتهم محترمة لا يعيقها أحد إلا إرادة الناس .. أما والحال أننا في دول استبدت بها النظم العلمانية وفي عالم جرم فيه الإسلام وأهله: فأي إسلامية تدفع الحسن نحو هذا الموقف العدائي للإسلاميين؟
تأصيل حالة الضرورة في الخطاب الشرعي:
ليس الغرض في هذه العجالة التأصيل طبعا، وإنما إعطاء لمحة عنه، ذلك أن القيام بالشرع مرتبط بالقدرة كسائر التكليفات فالمسلم مطالب بالاجتهاد في تطبيق أمر الله وأمر رسوله وفق طاقته وإمكانه، وفي مسألة تطبيق الشرع في النظام السياسي قد يجد المسلم نفسه غير قادر بالكلية، أو عنده قدرة ناقصة، فالواجب عليه متعلق بقدرته، فيدفع الشر الأكبر بالشر الأصغر، ونحو ذلك، من هنا أصل التدرج في تطبيق الشرع، كما أصل مفهوم آخر وهو تخفيف الشر، واستدل له ابن تيمية بولاية نبي الله يوسف عليه السلام عند ملك كافر ومعلوم أن الملوك يأخذون من المال عادة لهم ولأقاربهم، ومع ذلك لم يمتنع يوسف عليه السلام من العمل على الخزينة ليقلل الشر وينفع الناس.
فالإسلاميون في النظم العلمانية يقللون من شرها على الناس، ويحصلون منها بعض المصالح، وما لايدرك كله لا يترك كله، وإذا سمح لهم بتحصيل المصلحة كاملة وتطبيق الشريعة فلن يتأخروا عن ذلك، وهم بذلك يسدون المعروف والخير ويبذلونه للناس لا يكذبون عليهم كما يصور مصطفى! خاصة وأن هؤلاء الناس مسلمون ولا يريدون غير الإسلام كما يلهج التنويريون؟
النهضة كما يعرفه الحسن ويؤسس عليه:
حتى لا يقول قائل: (إن مصطفى الحسن لا يعرف النموذج التركي والنموذج التونسي بتفاصيلهما المخالفة للإسلام، ولذا أسس عليهما خطاباً إسلامياً ونافح ضد من قرر أنهما خطابان مرحليان للضرورة) ينقل الحسن نماذج من كلام راشد الغنوشي صريحة في مصادمة المشروع الإسلامي، ليباهي بملامح التأسيس في خطاب إسلامي جديد، ومما نقله:
(أعتقد أن الخمر حرام، وعادة سيئة ولا أشجع عليه، لكن أي محاولة لمنعه بالقوة ستفشل، وسيزيد من انتشاره، علينا أن نقنع الناس أن يمتنعوا عنه.. وستبقى قلة غير مقتنعة ) قد يعتذر للغنوشي بأنه غير قادر على منع الخمر بسبب تعلق الناس بها أو لغيره من الأسباب، لكن الحسن يعد هذا الاعتذار من البراجماتية والنفعية، ويعد هذا الكلام تأسيساً لخطاب إسلامي جديد لا يمنع الخمر وإنما يعظ الناس ألا يشربوها!!
دولة إسلامية تسمح ببيع الخمور ولا تمنعها مطلقاً لأنه في النهاية ستبقى قلة من الناس غير مقتنعة بمنع الخمر!!
طبعاً لا أحد يتحدث عن حد شارب الخمر، الرجل هنا يؤسس لبيع الخمر، فالحديث عن الحد ضرب من ضروب الرجعية والتخلف!
(سننوع المنتوجات البنكية، ستبقى البنوك الربوية، وسنوجد خيارات أخرى تجعل المواطن أمام أكثر من خيار)
الربا موجود! حسناً، قد يعتذر بأن المرحلة الآنية للغنوشي يتعذر فيها منع الربا لعدم القدرة عليه، وأنه لو قدر لوجب عليه منع من الدولة الإسلامية... الحسن لا تروق له هذه المرحلية التي هي كذب ونفاق، بل هو يتناول هذا الأمر على أنه تأسيس لخطاب إسلامي جديد!
(علينا أن ننوع في الفنادق، ستبقى الفنادق كماهي، وسنوجد فنادق ليس فيها خمور)
الفنادق بحالها وما فيها من خمور ومراقص وكازينوهات .. مرة أخرى قد يكون الغنوشي عاجزاً، هذه مرحلية تساوي الكذب والنفاق عند الحسن، الخطاب الإسلامي الجديد بلغ من أريحيته أنه يستوعب هذه الأمور!
الدولة لا وظيفة لها إلا توفير الحريات للناس وخدمتهم في قضايا التعليم والصحة ونحوهما من الأمور الدنيوية، لا وظيفة دينية للدولة في القيام بالشعائر والحدود وغيرها، الحسن ينقل هذا الكلام ليؤسس لخطاب إسلامي جديد يجب أن يتخلص من الحدود والشعائر وسائر الأمور التي هي في النهاية لتوفير الدين وليس لتوفير الحريات !
أحياناً يبلغ الكلام من البطلان والتهافت حداً يغني عن الوقوف معه لإبطاله ، وأحياناً تبلغ العلمانية في الاطروحات التنويرية حداً صارخاً يجعل التأخر في وصفها بذلك ضرباً من الورع البارد .. ببساطة الحسن يدعو لعلمانية في طورها الجديد، علمانية لا تقدم على أنها بديل عن الإسلام وإنما تقدم على أنها الإسلام ذاته، والإسلام الأول بحدوده وتشريعاته يشطب بجرة قلم تكتب في الدعوة لتأسيس خطاب إسلامي جديد !
الحسن لم يترك مجالا لحسن الظن به، فهو لا يقول عن هذا الخطاب إنه خاص لبلد دون بلد ولا لزمن دون زمن، بل يطعن ويجرح فيمن يقول هذا الكلام، لأنه يريد خطاب تأسيسي مغير جذرياً ومن الأساس !
(وأنهم على قناعة تامة أن ثمة اتجاهات علمانية لا تتعارض مع الإسلام)
(بعضهم قال إن هذا مناسب لطبيعة الدولة التركية، ولا يتناسب مع طبيعة الدول العربية، ومازال هؤلاء يرددون هذا الكلام)
(سيقولون إن تونس غير مصر وغير الخليج )
(ما أرجوه هنا أن يعي الإسلاميون حجم وجذرية التغيير في الخطاب، وأرجو أن لا يتهربوا من هذه المهمة، وأن لا يقولوا إن ثمة فرقا بيننا وبين تونس، أرجو أن يملكوا الجرأة والشجاعة على هذا النوع من المراجعات. )
مقتطفات من مقالة الحسن، تشير إلى حماسه في تعميم التجربة التركية والتونسية على كل الإسلاميين وفي كل مكان .. إنها باختصار تشير لهمته في تحريف التصور الإسلامي، والدفع نحو تصور علماني (يزعم أنه لا يعارض الإسلام) !
أعتقد أن مثل هذه الأطروحات كفيلة بتوضيح الخطر الذي تحمله الموجة التنويرية، التي تحاول أن تلغي الرؤية الإسلامية الأصيلة في معركتها مع العلمانية الأوربية الطاغية، وأن تجعل التصور الإسلامي شيئاً من الماضي ، تحت ستار التجديد والتطوير والتنوير والنهضة ... وهلم جرا.
عبد الوهاب آل غظيف
مدخل:
كان البعض يقول عن التنوير: إنه جسر بين الإسلامية والعلمانية، يصف بذلك الحالة التلفيقية بينهما التي هي عماده وقوامه، بيد أن ثمة (صقور) في الحالة التنويرية لم ترتضي لنفسها أن تكون جسراً، في ذات الوقت ليست مستعدة للرجوع إلى الحضن الإسلامي الذي ما فتئت تخدشه وتكلبه في تحامل ملفت، فتَحَدَّد مكانها في أطروحات علمانية كالحة ليس شيء -سوى الورع البارد- يمنع من تصنيفها كذلك!
في حوار قديم جرى بين تنويري وأحد المشايخ الفضلاء، كان هذا الشيخ صريحاً في توصيف فهم محاوره بأنه فهم علماني، أقام هذا التنويري مناحة على هذه الكلمة، وشنع وبشع على الشيخ، وعلا صراخه وعويله، وبعد فترة يسيرة تابعته في حوار مع أحد العلمانيين في (تويتر) في نهايته وصف العلماني منطق زميله التنويري بأنه ذات العلمانية! فما كان من هذا (المشنع في الموقف الأول) إلا أن تقبل الوصف بصدر رحب، وذهب يلقي موعظة حول عدم اهتمامه بمصطلح العلمانية لأنه مشكل في أذهان الناس!
هذا موقف مزدوج قد يكون باعثه نوع (تقية فكرية) مع مصطلح العلمانية، بينما هناك تنويري آخر لامانع عنده من الحديث عن (العلمانية التي لا تتعارض مع الإسلام) .
مصطفى الحسن و خطاب النهضة التونسي:
تحت عنوان: ( خطاب النهضة التونسي تأسيسي لا مرحلي ) كتب الأستاذ مصطفى الحسن كلاماً يقرر من خلاله مثالية الوضع التونسي والتركي بالنسبة للخطاب الإسلامي كما يراه، ويدعو الإسلاميين إلى أن يحذو حذوهما في تغيير الخطاب، مؤكداً – كما يوضح العنوان – على ضرورة أن يكون هذا التغيير تأسيسي وليس مرحلياً، ولا يفصّل كثيراً في أبعاد هذا التغيير ونواحيه، وإنما يكتفي بالإشارة إلى كونه جذرياً.
بغض النظر عن سؤال: هل مصطفى الحسن جاد في رهن طموحه الإسلامي بالنموذج التركي أو التونسي.. أو هل هو مدرك لحقيقة التصور الإسلامي وما فيه من وظائف وواجبات سياسية لم تتحقق ولو بالشكل الأدنى في النموذجين المذكورين .. هناك نقطة جديرة بأن أقدمها في وقفة مع كتابته، إنها (الشرر الذي يتطاير من كتاباته تجاه الإسلاميين ) !
لقد مارس هوايته في طعنهم وتجريحهم، فالذين تمسكوا بالإسلام كما أنزله الله، ولجأوا إلى تبرير الحالة التركية والحالة التونسية بأنها أحوال ضرورة، يقول عنهم : (هذا النوع من الخطاب، إنها في الواقع براغماتية مقيتة، وكذب وقح على الشعوب، أن تتحدث للناس وتعدهم بشيء، وتضمر شيئا آخر، وأن تبدي من الرؤية للمستقبل ما تخفيه، هذا بلغة الشريعة نفاق و كذب، وليس فقها ) .
هكذا تبدو الصورة بكل وضوح! الإسلاميون الذين لا يحرفون الدين، ويعلمون أن الحالة التركية والحالة التونسية لم تصل بعد لصورة إسلامية مكتملة، ثم هم يعتذرون لإخوانهم بأنهم في حالة ضرورة وواقعهم يحتم عليهم التدرج، هم عند الحسن ( براغماتيون وكذبة وقحون ومنافقون ) ! أتساءل : أي فكر إسلامي يدفع لهكذا موقف بالله عليكم؟!
اختزال الموقف ثم التشنيع عليه:
مصطفى الحسن قبل أن يتحفنا بشرره المتطاير على الإسلاميين مارس اختزالاً لموقفهم، فهم ليسوا كما يزعم (يضمرون ما لا يظهرون ) وهم أيضاً ( لا يكذبون على الشعوب) كل ما في الأمر أنهم يخففون الظلم في الولاية الظالمة حسب إمكانهم، أو يسعون لفرض الشريعة بالتدرج حسب إمكانهم أيضاً، وكل ذلك لا علاقة له بـ ( الإسلام ) الذي يبلغونه للناس.
ففقهه الشرعي لم يسعفه للتفريق بين دور سياسي يلعبه أحد الإسلاميين في الدخول في ولاية ظالمة لتخفيف ظلمها، وبين فقيه يكشف عن حكم الشرع لا يجوز له أن يغير الحكم ولا أن يبدله.
وأيضاً فإن فقهه السياسي لم يسعفه للإحاطة بصورة المسألة وأبعادها، فالواقع الذي نتحدث عنه فيه استبداد وسطوة علمانية محلية وعالمية ترفض وتجرم الدعوة إلى الدولة الإسلامية، وهذا الاستبداد الصارخ والقمع العلماني للإسلام ، كما يواجه على صعيد الفكر بكل صراحة فإنه لا حرج أن يواجه على صعيد السياسة بالالتزام الظاهري بشرطه مقابل العمل على تغييره ودفع بغيه ورده عن الأمة ، الحسن يسمي هذه الممارسة: كذبا، فليهنأ بموقفه هذا الغيور لـ(سطوة العلمانية) !
كنت سأبحث عن وجهة أتقبل من خلالها حديته تلك في التشنيع على الإسلاميين لو كان الإسلاميون يمارسون هذا الخضوع للسطوة العلمانية وهم بالخيار ألا يمارسوه!
كنت سأحاول تقبل هجومه عليهم لو كانت الحرية مكفولة لهم، ولو كانت أطروحتهم محترمة لا يعيقها أحد إلا إرادة الناس .. أما والحال أننا في دول استبدت بها النظم العلمانية وفي عالم جرم فيه الإسلام وأهله: فأي إسلامية تدفع الحسن نحو هذا الموقف العدائي للإسلاميين؟
تأصيل حالة الضرورة في الخطاب الشرعي:
ليس الغرض في هذه العجالة التأصيل طبعا، وإنما إعطاء لمحة عنه، ذلك أن القيام بالشرع مرتبط بالقدرة كسائر التكليفات فالمسلم مطالب بالاجتهاد في تطبيق أمر الله وأمر رسوله وفق طاقته وإمكانه، وفي مسألة تطبيق الشرع في النظام السياسي قد يجد المسلم نفسه غير قادر بالكلية، أو عنده قدرة ناقصة، فالواجب عليه متعلق بقدرته، فيدفع الشر الأكبر بالشر الأصغر، ونحو ذلك، من هنا أصل التدرج في تطبيق الشرع، كما أصل مفهوم آخر وهو تخفيف الشر، واستدل له ابن تيمية بولاية نبي الله يوسف عليه السلام عند ملك كافر ومعلوم أن الملوك يأخذون من المال عادة لهم ولأقاربهم، ومع ذلك لم يمتنع يوسف عليه السلام من العمل على الخزينة ليقلل الشر وينفع الناس.
فالإسلاميون في النظم العلمانية يقللون من شرها على الناس، ويحصلون منها بعض المصالح، وما لايدرك كله لا يترك كله، وإذا سمح لهم بتحصيل المصلحة كاملة وتطبيق الشريعة فلن يتأخروا عن ذلك، وهم بذلك يسدون المعروف والخير ويبذلونه للناس لا يكذبون عليهم كما يصور مصطفى! خاصة وأن هؤلاء الناس مسلمون ولا يريدون غير الإسلام كما يلهج التنويريون؟
النهضة كما يعرفه الحسن ويؤسس عليه:
حتى لا يقول قائل: (إن مصطفى الحسن لا يعرف النموذج التركي والنموذج التونسي بتفاصيلهما المخالفة للإسلام، ولذا أسس عليهما خطاباً إسلامياً ونافح ضد من قرر أنهما خطابان مرحليان للضرورة) ينقل الحسن نماذج من كلام راشد الغنوشي صريحة في مصادمة المشروع الإسلامي، ليباهي بملامح التأسيس في خطاب إسلامي جديد، ومما نقله:
(أعتقد أن الخمر حرام، وعادة سيئة ولا أشجع عليه، لكن أي محاولة لمنعه بالقوة ستفشل، وسيزيد من انتشاره، علينا أن نقنع الناس أن يمتنعوا عنه.. وستبقى قلة غير مقتنعة ) قد يعتذر للغنوشي بأنه غير قادر على منع الخمر بسبب تعلق الناس بها أو لغيره من الأسباب، لكن الحسن يعد هذا الاعتذار من البراجماتية والنفعية، ويعد هذا الكلام تأسيساً لخطاب إسلامي جديد لا يمنع الخمر وإنما يعظ الناس ألا يشربوها!!
دولة إسلامية تسمح ببيع الخمور ولا تمنعها مطلقاً لأنه في النهاية ستبقى قلة من الناس غير مقتنعة بمنع الخمر!!
طبعاً لا أحد يتحدث عن حد شارب الخمر، الرجل هنا يؤسس لبيع الخمر، فالحديث عن الحد ضرب من ضروب الرجعية والتخلف!
(سننوع المنتوجات البنكية، ستبقى البنوك الربوية، وسنوجد خيارات أخرى تجعل المواطن أمام أكثر من خيار)
الربا موجود! حسناً، قد يعتذر بأن المرحلة الآنية للغنوشي يتعذر فيها منع الربا لعدم القدرة عليه، وأنه لو قدر لوجب عليه منع من الدولة الإسلامية... الحسن لا تروق له هذه المرحلية التي هي كذب ونفاق، بل هو يتناول هذا الأمر على أنه تأسيس لخطاب إسلامي جديد!
(علينا أن ننوع في الفنادق، ستبقى الفنادق كماهي، وسنوجد فنادق ليس فيها خمور)
الفنادق بحالها وما فيها من خمور ومراقص وكازينوهات .. مرة أخرى قد يكون الغنوشي عاجزاً، هذه مرحلية تساوي الكذب والنفاق عند الحسن، الخطاب الإسلامي الجديد بلغ من أريحيته أنه يستوعب هذه الأمور!
الدولة لا وظيفة لها إلا توفير الحريات للناس وخدمتهم في قضايا التعليم والصحة ونحوهما من الأمور الدنيوية، لا وظيفة دينية للدولة في القيام بالشعائر والحدود وغيرها، الحسن ينقل هذا الكلام ليؤسس لخطاب إسلامي جديد يجب أن يتخلص من الحدود والشعائر وسائر الأمور التي هي في النهاية لتوفير الدين وليس لتوفير الحريات !
أحياناً يبلغ الكلام من البطلان والتهافت حداً يغني عن الوقوف معه لإبطاله ، وأحياناً تبلغ العلمانية في الاطروحات التنويرية حداً صارخاً يجعل التأخر في وصفها بذلك ضرباً من الورع البارد .. ببساطة الحسن يدعو لعلمانية في طورها الجديد، علمانية لا تقدم على أنها بديل عن الإسلام وإنما تقدم على أنها الإسلام ذاته، والإسلام الأول بحدوده وتشريعاته يشطب بجرة قلم تكتب في الدعوة لتأسيس خطاب إسلامي جديد !
الحسن لم يترك مجالا لحسن الظن به، فهو لا يقول عن هذا الخطاب إنه خاص لبلد دون بلد ولا لزمن دون زمن، بل يطعن ويجرح فيمن يقول هذا الكلام، لأنه يريد خطاب تأسيسي مغير جذرياً ومن الأساس !
(وأنهم على قناعة تامة أن ثمة اتجاهات علمانية لا تتعارض مع الإسلام)
(بعضهم قال إن هذا مناسب لطبيعة الدولة التركية، ولا يتناسب مع طبيعة الدول العربية، ومازال هؤلاء يرددون هذا الكلام)
(سيقولون إن تونس غير مصر وغير الخليج )
(ما أرجوه هنا أن يعي الإسلاميون حجم وجذرية التغيير في الخطاب، وأرجو أن لا يتهربوا من هذه المهمة، وأن لا يقولوا إن ثمة فرقا بيننا وبين تونس، أرجو أن يملكوا الجرأة والشجاعة على هذا النوع من المراجعات. )
مقتطفات من مقالة الحسن، تشير إلى حماسه في تعميم التجربة التركية والتونسية على كل الإسلاميين وفي كل مكان .. إنها باختصار تشير لهمته في تحريف التصور الإسلامي، والدفع نحو تصور علماني (يزعم أنه لا يعارض الإسلام) !
أعتقد أن مثل هذه الأطروحات كفيلة بتوضيح الخطر الذي تحمله الموجة التنويرية، التي تحاول أن تلغي الرؤية الإسلامية الأصيلة في معركتها مع العلمانية الأوربية الطاغية، وأن تجعل التصور الإسلامي شيئاً من الماضي ، تحت ستار التجديد والتطوير والتنوير والنهضة ... وهلم جرا.