الإسراف ( ومنه الإسراف في الماء)

د. منصور الصقعوب
1442/08/19 - 2021/04/01 06:58AM

الخطبة الأولى               

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).

(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً).

أما بعد:

المعتمدُ بنُ عَبّاد أميرُ أشبيلية في الأندلس كان يعيش حياةً مُترفةً غاية في التنعّم واللذة، طيّباتُ الدنيا تُجلب له، جلس ذات يومٍ هو وزوجته وبناتُه على شُرفَةِ القصر، فرأت زوجتُه أُناسًا يمشون في الطين, فاشتهتْ أن تخوضَ في الطين كما يفعلون، فنُثِرَ الطينُ والزعفران في ساحة القصر، ثمإ عجنوه بماء الورد والمسك والكافور لتخوض به هي وبناته، لتحقق رغبتها

 ثم دارت الأيامُ, وحصل عليه ما حصل, وزال ملكه, وسُجن بسجنِ أغمات في المغرب، واستُذِلَّت بناتُه وعاد مرحومًا بعد أن كان محسودًا، بينما هو مسجونٌ دخلت عليه بناتُه يوم العيد في ملابسَ رثة, معهن المغازل يغزلن الثياب للناس فقال متحسرًا:

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورًا    فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا

تـرى بناتك في الأطمارِ جائعة     يغـزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرًا

برزْن نحـوَك للتسلـيمِ خاشعةً       أبصـارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرًا

يطأْنَ في الطين والأقـدام حافية           كأنهـا لم تطأْ مسكًا وكافورًا

من بات بعدك في ملك يسرّ به         فإنما بـات بالأحـلام مغرورًا

تبرز للأذهان قصة المعتمد في هذه الأيام, ونحن نرى صوراً من الترف وأشكالاً من التباهي وعجائب من التبذير.

نعم, نحن أمةٌ نذمُّ الإسراف, كلنا كذلك, نحن قومٌ على لساننا قول الله تعالى ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين)

لكنّ الحقيقةَ أن أكثرنا واقعٌ في الإسراف, مُستَقِلٌ ومُستكثر, كلٌ في مجاله.

ولتعلم ذلك فاسمع إلى كلام الراغب الأصفهاني حيث يقول: السّرف تجاوز الحدِّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر.

ففي الكلام قد يحصل إسراف, وقد نسرف في المدح, وقد نسرف في السهر, وقد نسرف في تضييع الأوقات, وقد يسرف البعض في الدماء, أو في الغيبة, أو غير ذلك.

بيد أننا اليوم لن نعرج على هذا, إنما نتحدث عن الإسراف في المستهلكات من مآكل ومشارب ومقتنيات وحفلات وسفرات.

وقبل الخوض في صور الإسراف الواقعة, فالموضوع خداج إن لم يُقدّمْ بين يديه آيٌ القرآن الذامَّةِ للإسراف.

قال ربنا ﻷ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)

وتأمل كيف جمع ربنا في آيةٍ جملاً من الآداب, وحذّر من الإسراف وأخبر أنه لا يُحب أهله, حينما ذكر قضيتين يقع الإسراف فيهما غالباً: الزينة, والأكل والشرب.

وقال ربنا سبحانه (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)

وقال في تقرير التوسط المطلوب من المؤمن (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)

وقال ذاكراً صفات عباد الرحمن (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) قال ابن القيم: - في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا: أي ليسوا بمبذّرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصّرون في حقّهم، فلا يكفونهم، بل عدولا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا.

عباد الله: ونظرة إلى واقعنا تجلي لك صوراً من الإسراف كبيرة, ونماذجَ خطيرة.

إسرافٌ في المآكل والمشارب, باتت معه كثير من الأسر تلقي من الأطعمة كل يوم ما يُعيّش أسراً, وأُحوج المجتمع معها إلى مشاريع كمشاريع حفظ النعمة ونحوه.

تقول الإحصائيات: إن دول الخليج في مقدمة الدول الأكثر استهلاكًا للأغذية، ففي بلادنا هنا  35% من الغذاء يلقى في النفايات المنزلية، أي حوالي ثلاثة عشر مليونِ طنٍّ من المواد الغذائية وبقايا الأطعمة في مكبات النفايات.

ونحن على مقربة من شهر الصوم, تتحدث الإحصائيات أنه أكثر الشهور هدراً للأطعمة وإسرافاً في الولائم

وصورة أخرى من الإسراف: وهي الإسراف فيما الناسُ شركاء فيه وهو الماء, وهدرٌ له بشكل مخيف, والماء أرخص موجود وأغلى مفقود.

وأصبح البعض حين يتخفف من هذا ليس داعيه إلا تخوف الغرامة وارتفاع الفاتورة, والحقّ أن المسلم يقتصد خوفاً من الله, ونأياً عن الخطيئة, وإذا كان العلماء يكرهون الإسراف حتى في الطهارة والوضوء ففي غيرِه أشد كراهة وأسوأ فعلاً.

وصور الإِسرافِ عديدةٌ, ففي الإجازة وحفلات الزواج, وفي المناسبات والتباهي بها في اللباس والمكان والتجهيزات صور من الإسراف ظاهرة تحصل لدى البعض, مستقلٌ منها ومستكثر, والإسراف فيها مذموم وإن وقعنا فيه.

ووفرةُ المالِ ليست عذرًا ولا مُسَوِّغًا للإسراف، حتى وإن كان المُنفِق مقتدرًا، فالإسراف ذنبٌ من الواجِد ومن المعسر, والشأنُ كُلّهُ أنّ صاحبَ المالِ مسؤولٌ عنه يوم القيامة، قال رسول الله ق "لا تزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامةِ حتى يسأل عن أربع..."، ومنها: "عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟!. رواه الترمذي بإسناد صحيح، قال الله ﻷ (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي ما تنعمتم به في الدنيا، فهل أعددنا للسؤال جوابًا؟! وهل أعددنا للجواب صوابًا؟!!

عفواً: فليست هذه دعوةٌ للبخل والتقتير، وليست اعتذارًا للشحيح المضيّق على أهله المقتّر عليهم، كلا, ولكن يجب أن يعاد النظرُ في كثير من العادات، في الصرف والإنفاق، على ضوء الصفة الكريمة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) إنه القصد والعدل، والتوازن والتقصد، وقد قيل: "لا عقل كالتدبير".

اللهم صل على محمد


 

الحمد لله وحده

نظرةٌ للعالم من حولنا تنبيك عن قدرة المولى سبحانه على تغيير النعم وتبديل الأحوال.

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت     ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها       وعند صفو الليالي يحدث الكدر

العراق الذي كان مأوى التجار قبل عقود بلغت فيه نسبة الفقر إلى أرقام كبيرة, الشام كذلك, اليمن كذلك, مصر كذلك, وهي الديار التي كانت النعم فيها وافرة, وأهل هذه البلاد يطلبون لقمة العيش عندهم.

أعداد الجياع في العالم حوالي مليارُ جائع، ألفُ مليونِ جائعٍ في العالم، أكثرهم في البلاد الإسلامية.

جماع القول يا كرام: أنه ما حُفِظَت النِعمُ بِمِثلِ رعايةِ حقِّ الله فيها, ومن ذلك عدمُ الإسراف والتبذير فيها, وما ترحلّت النِعمُ ولا استُجلِبت النقمُ بمثلِ الإسرافِ والتبذيرِ فيها

جرّب أن تجلس مع رجلٍ من الأجداد وكبار السنّ, سله عن الحال هنا قبل عقود, سيُحَدِّثُكْ عن الجوع والشِدّة

سيُحدِّثُك بأحوالٍ لا يكادُ يُصدِّقُها أبناءُ اليوم

 سيُحَدِّثُكَ أنه في عام 1327هـ تبرع أهلُ الصومال لأهل هذه البلاد لِسَدّ مجاعتهم.

سيحدثك أنهم رأوا جوعاً كان البعض يسقط معه في الطُرُقات مغشيّاً عليه, سيُحدِّثك أنهم رأوا جوعاً أُكِلَت معه الميتاتُ, وأُكلت معه الحشائش, ليست هذه مِن نسج الخيال ولا مِن ضُروبِ المُبالغاتِ, بل إنه حديثٌ ليس بالأغاليط, لكننا اليوم لا نتصوره.

والذي بدّل الشدةَ رخاءً والضراء سراءً قادرٌ على أن يقلب الأحوال, وليس بينه وبين العباد نسب, وليس لأهل هذه البلاد عقد مع الله ألا يفتقروا ولا تمرَ بهم الشدائد.

قال أحدُ كبار السن لأولاه: لقد حدثناكم بجوعٍ مَرّ بِنا، وأخشى أن يأتي زمانٌ تحدثون أولادكم بِنعمةٍ مرّت بكم ثم فُقِدت.

فلا نكن يا مؤمن, لا نكن يا أخي بإسرافنا سبباً في أن تحل بنا المثُلات, وأن تترحّل النعمُ ونُحْرَمَ البركات.

أنفِق وكُلْ واشرب وسافر واصنع ما شئت, مِن غَيرِ سَرَفٍ ولا مَخيلةٍ, ومِن غيرِ تبذيرٍ ولا معصية.

وعلى العقلاء دورٌ كبيرٌ, في الترشيد وضبطِ الأمر, حين يكونوا خيرَ قدواتٍ للمجتمع في نبذ البذخ, والنأي عن السرف, وعلى الجميع دورٌ في توعية الجِيل, وتذكيرهم بالنِعَم التي يُخشى أن تَرحلَ إذا شاعَ السَرَفُ, ففي الإسراف غضبُ الله, وإضاعةُ المال, والنّدمُ والحسرة .

كلُ هذا ليس بخلاً, ولا فقراً ولا عجزاً, بل تَدَيُّناً لله, وشكراً له على ما أعطاه.

اللهم ارزقنا شكر نعمك, وقِنا شُحّ أنفسنا ولا تجعلنا من المسرفين.

 

المشاهدات 2219 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا