الإسراف والتبذير
خالد الباتلي
1437/04/11 - 2016/01/21 13:32PM
الإسراف والتبذير
إن الحمد لله .. اتقوا الله ..
الإسلام دين الوسطِ والاعتدال، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}،
كن في أمورك كلها متوسطا ... عدلا بلا نقص ولا رجحان
هكذا جاء الإسلام في أحكامه وتشريعاته، ومن ذلك: أمرُ المال والنفقة، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، فالمسلم وسطٌ بين البخلِ والإسراف، وكلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ.
أيها الإخوة .. مشكلةٌ مفزعة وظاهرةٌ مؤرقة على مستوى الأفراد والمجتمعات، والدول والحكومات.
إنها مشكلةٌ دينيةٌ اجتماعيةٌ؛ الإسرافُ في صرف المال، وإهدارُ هذه الخيراتِ والنعم، حتى ذهبت البركةُ من رواتبنا وأموالنا.
صار الناس كأسراب القطا، يقلدُ بعضُهم بعضا، ويَتجارَون ويتنافسون في الكماليات، ولو على حساب الديون والقروض.
ما هو الإسراف؟
الإسراف والسرفُ: هو مجاوزة الحد والقصد في كل فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهر وأكثرُ استعمالا.
وضابط الإسراف يتضمن صورتين:
الأولى: إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس, ولو كان المنفق غنيا فاحشَ الثراء، كمن اشترى حذاءً بخمسةِ آلاف ريال، أو أنفق مليونَ ريال في حفلة زواج.
الثانية: تجاوز الحد في النفقة.
وضابط هذا نسبيٌ غيرُ محددٍ بتقدير، فيرجعُ فيه إلى العرف والعادة وحالِ الشخص، فقد يكون الرجل فقيرا يلبسُ ثوبا يعد إسرافا بالنسبة له لأنه تجاوز حده، ولو لبسه الغني لم يعدَّ إسرافا.
وفرق بعضُ أهل العلم بين الإسراف والتبذير؛ فقالوا: الإسراف: تجاوز الحد في صرف المال في أمر جائز، والتبذير: صرفه في أمر محرم. وهو أعظم من الإسراف، قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ). فمن جاوز الحد في شراء الطعام مثلا فهو مسرف، ومن اشترى محرما كالخمر مثلا فهو مبذر.
أيها الإخوة .. المال في حقيقة أمره ليس ملكاً خالصاً لمالكه، وليست له الحرية المطلقة فيه، كلا بل المال مال لله، قال تعالى -: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾، وهو وديعة عندك، وأنت وكيل تعمل فيه بما يرضاه موكلك، قال تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾، والمال امتحانٌ للعبد ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ فنجح أقوام، وسقط آخرون. وهذا المال من مواقع الحساب يوم القيامة، قال : (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع .. وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟).
أيها الإخوة .. جاء الكتاب والسنة، وأقوال السلف والحكماء؛ في ذم الإسراف والتبذير، والتحذيرِ من عواقبهما على الفرد والمجتمع.
قال تعالى في موضعين من كتابه: (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141].
وقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26 - 27]. وهذا يشير إلى أن التبذير من كفران النعم، لا من شكرها الواجب.
ووصف الله عباده، فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
وعن عبدالله بن عمرو أن النبي قال: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) رواه أحمد وحسنه الألباني
وعن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أن النَّبِيِّ قال: (إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) متفق عليه. قال أهل العلم: إضاعة المال: صرفه في غير ما ينبغي.
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي مر بسعد وهو يتوضأ فقال: (ما هذا السرف يا سعد؟!)، قال: أفي الوضوء سرف؟! قال: (نعم، وإن كنت على نهر جار) رواه أحمد وحسنه الألباني
وحذر من التنعم، لأنه مدعاة إلى الإسراف. لما بعث النبي معاذَ بن جبل إلى اليمن قال له: (إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) رواه أحمد وحسنه الألباني
قال عمر : (كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى).
إن من علامات عقلِ الرجل: أن يحسن تدبيرَ المال، ويتبصرَ في صرفه ونفقاته.
قال أبو الدرداء : حسن التقدير في المعيشة أفضلُ من نصف الكسب.
وأبصرت أم المؤمنين ميمونةُ -رضي الله عنها- حبةَ رمانٍ في الأرض، فأخذتها وقالت: إن الله لا يحب الفساد.
وجاء عن أنس وابن عمر: الاقتصاد نصف المعيشة.
وفي بعض الآثار: ما عال من اقتصد. أي ما افتقر من اقتصد في تدبير المال.
وقال بعضهم: من حفظ مَاله فقد حفظ الأكرَمَين: الدّينُ وَالْعرض.
وقال معاويةُ بنُ أبي سفيانَ رضي الله عنهما: ما رأيت سرفا قط إلا وإلى جانبه حقٌ مضيع.
o أيها الإخوة .. فإن قال قائل: أين السرف في واقعنا؟
فالجواب: مظاهرُ الإسراف وصورُه وأمثلتُه في واقعنا المعاصر كثيرةٌ متنوعة، منها على سبيل المثال:
1. الإسراف في المآكل والمشارب، وما أكثر ما يقع ذلك، لا سيما في المواسم كرمضانَ والأعيادِ والمناسباتِ. ولهذا نرى أن كثيرا من الطعام يفضلُ عن الحاجة. وعند بعض الناس هوسٌ في شراء الأطعمة أو صنعِها، ولهثٌ وراء المطاعم والوجبات.
قال سفيان الثوري: إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب.
وقال الإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة في (كتاب الكسب): "ثم السرف في الطعام أنواع فمن ذلك الأكل فوق الشبع .. ومن الإسراف في الطعام الاستكثار من المباحات والألوان .. ومن الإسراف أن يضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه من الأكل .. ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها".
وما أحسنَ إرشادَ النبي لأمته بقوله: (ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه الترمذي وصححه الألباني
2. الإسراف في الملابس، ومجاوزة الحد المعقول، ببذل الأموال الطائلة، أو التكثرِ منها بما لا يحتاجه، أو إهمالِها ورميها مع صلاحيتها. ويكثر هذا في أوساط النساء، فعند كثير منهن هوسٌ وشغفٌ في باب اللباس، وتتبع للموضات، وجري بين الأسواق والمولات، وإنفاق للأموال الطائلات.
3. – ومن مظاهر الإسراف في المجتمع:- الإسراف في المساكن والبيوت، والبيت نعمةٌ من نعم الله {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]. ولا بد للمرء من بيت يسكنُه، لكن تجاوز البعضُ حد الحاجة وأسرفوا في الكماليات والتكلفات المكلفة، وزادوا الطين بلة إذا كان ذلك عن طريق الديون والقروض.
4. الإسراف في المراكب، فصار الكثير يشتري سيارة جديدة فاخرة مهما كان مستواه ودخله، وبعضهم يتكثر من السيارات بما لا يحتاجه، وتنافس الناس في هذا الحطام.
5. الإسراف في الخدمات العامة، كالمياه والكهرباء ونحوهما، وقد كان النبي يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع.
6. الإسراف في الأعراس، وهذا من أوضح ما يتجلى فيه الإسراف في المجتمع، بدءا من المهور الباهظة، مرورا بالولائم التي ينفق فيها الأموالُ الطائلة على قصور الأفراح، والتفاخر بالذبائح وأنواع الطعام والشراب والحلويات والمعجنات، والورود والزينة، والزفة والطرب، وغير ذلك، مما تذهب فيه عشرات الآلاف في ساعات معدودات.
إن وضع الأعراس مخيف، ويتطلب تصحيحا وإصلاحا من العقلاء، وكبحا لجماح السفهاء، وليتذكر المسلم أن أمامه سؤالان عن هذا المال: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟.
هل تعلمون أنه وقع هنا في نجد مجاعةٌ عظيمة اضطرت الناسَ إلى أكل الميتة والجيف، ومات أقوام بسبب الجوع، وذلك عام 1327 هـ حتى سميت سنةَ الجوع؟.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]
وقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارا حول هذه الظاهرة جاء فيه ما نصه: "يرى المجلس بالأكثرية معاقبةَ من أسرف في ولائم الأعراس إسرافا بينا، وأن يحال بواسطة أهلِ الحسبة إلى المحاكم لتعزرَ من يثبتُ مجاوزتُه الحدَّ بما يراه الحاكمُ الشرعي من عقوبةٍ رادعة زاجرةٍ تكبحُ جماحَ الناسِ عن هذا الميدانِ المخيف" أ.هـ
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
أسباب الإسراف:
1. الجهل. فيظن بعض الناس أن المال إذا اكتسب من حلال وصرف في حلال، فهو جائز ولو جاوز الحد. ولذا فالحاجة ماسة إلى طرق هذا الموضوع وتوعية الناس به – رجالا ونساء – من خلال وسائل الإعلام والخطب والمحاضرات.
2. الغنى بعد الفقر. فمن اكتوى بنار الفقر وشدته، ثم فتحت عليه الدنيا، أورث له ذلك توسعا وجنوحا في طلب المتع، والمبالغة في صرف المال. {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، والمعنى: أن الإنسان ليتجاوز الحدود إذا أبطره الغنى، وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27].
3. التأثر بمن حوله، لا سيما بعد افتاح الناس بعضهم على بعض بوسائل التواصل.
إننا نعيش تهافتا محموما في الاستهلاك والطلب، وانظروا كم عندنا من الأسواق والمحلات، فمن يملك المال يُسرف، والذي لا يملك يقترض من أجل أن يسرف، ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات، ويكون كغيره. فهذا يقترض ليسافر بعائلته إلى الخارج للسياحة، وثان يقترض ليقيم حفلة زواج يتحدث الناس بها لابنه أو ابنته، وثالث يقترض ليشتري سيارة من سيارات الأثرياء ليشار إليه، وهكذا في أمثلة كثير من صور السفه والخرق.
4. الضغوط الخارجية، وأكثر ما يقع ذلك من الزوجة والأولاد حين يلحون على الرجل بشراء كذا، وعمل كذا، مما يوقعه في الإسراف ومجاوزة الحد.
أيها الإخوة .. حينما يسرفُ المرءُ، فإن نفسَه تسترسلُ وراء الشهواتِ والمتع، وهذا يجرها إلى الإثم والغفلة عما خلقتْ له،
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها ... وإذا تُرد إلى قليل تقنع
الإسراف يورث الكبر والخيلاء، ويكسر قلوب الفقراء.
الإسراف يعوِّد النفس على الكسل والخمول، ويصعب عليها تحمل المصاعب والمشاق.
الإسراف خسارة للأمة الإسلامية من خيرات هذه الأموال المهدرة. فما ظنكم لو جمعنا تلك الأموال الضائعة، كم سيسهم في سد حاجة الفقراء، وتغطية المشاريع الخيرية.
أيها الإخوة .. اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم، كان النَّبِيُّ يَبِيتُ اللَّيَالِي الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا، وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً. رواه أحمد وحسنه الألباني
وتبعه على ذلك أصحابُه والتابعون لهم بإحسان.
تذكروا المآل القريب حينما توسد في قبرك، لا أنيس ولا جليس، تذكروا الأهوال العظام يوم الحشر والقيام، ولا تغرنكم الدنيا وزينتها عما خلقتم له.
اللهم وفقنا لتدارك الأوقات باغتنام الساعات في أعمال الخيرات، والاستعداد للوفاة قبل الموافاة ..
إن الحمد لله .. اتقوا الله ..
الإسلام دين الوسطِ والاعتدال، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}،
كن في أمورك كلها متوسطا ... عدلا بلا نقص ولا رجحان
هكذا جاء الإسلام في أحكامه وتشريعاته، ومن ذلك: أمرُ المال والنفقة، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، فالمسلم وسطٌ بين البخلِ والإسراف، وكلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ.
أيها الإخوة .. مشكلةٌ مفزعة وظاهرةٌ مؤرقة على مستوى الأفراد والمجتمعات، والدول والحكومات.
إنها مشكلةٌ دينيةٌ اجتماعيةٌ؛ الإسرافُ في صرف المال، وإهدارُ هذه الخيراتِ والنعم، حتى ذهبت البركةُ من رواتبنا وأموالنا.
صار الناس كأسراب القطا، يقلدُ بعضُهم بعضا، ويَتجارَون ويتنافسون في الكماليات، ولو على حساب الديون والقروض.
ما هو الإسراف؟
الإسراف والسرفُ: هو مجاوزة الحد والقصد في كل فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهر وأكثرُ استعمالا.
وضابط الإسراف يتضمن صورتين:
الأولى: إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس, ولو كان المنفق غنيا فاحشَ الثراء، كمن اشترى حذاءً بخمسةِ آلاف ريال، أو أنفق مليونَ ريال في حفلة زواج.
الثانية: تجاوز الحد في النفقة.
وضابط هذا نسبيٌ غيرُ محددٍ بتقدير، فيرجعُ فيه إلى العرف والعادة وحالِ الشخص، فقد يكون الرجل فقيرا يلبسُ ثوبا يعد إسرافا بالنسبة له لأنه تجاوز حده، ولو لبسه الغني لم يعدَّ إسرافا.
وفرق بعضُ أهل العلم بين الإسراف والتبذير؛ فقالوا: الإسراف: تجاوز الحد في صرف المال في أمر جائز، والتبذير: صرفه في أمر محرم. وهو أعظم من الإسراف، قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ). فمن جاوز الحد في شراء الطعام مثلا فهو مسرف، ومن اشترى محرما كالخمر مثلا فهو مبذر.
أيها الإخوة .. المال في حقيقة أمره ليس ملكاً خالصاً لمالكه، وليست له الحرية المطلقة فيه، كلا بل المال مال لله، قال تعالى -: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾، وهو وديعة عندك، وأنت وكيل تعمل فيه بما يرضاه موكلك، قال تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾، والمال امتحانٌ للعبد ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ فنجح أقوام، وسقط آخرون. وهذا المال من مواقع الحساب يوم القيامة، قال : (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع .. وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟).
أيها الإخوة .. جاء الكتاب والسنة، وأقوال السلف والحكماء؛ في ذم الإسراف والتبذير، والتحذيرِ من عواقبهما على الفرد والمجتمع.
قال تعالى في موضعين من كتابه: (وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام: 141].
وقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26 - 27]. وهذا يشير إلى أن التبذير من كفران النعم، لا من شكرها الواجب.
ووصف الله عباده، فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
وعن عبدالله بن عمرو أن النبي قال: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) رواه أحمد وحسنه الألباني
وعن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أن النَّبِيِّ قال: (إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) متفق عليه. قال أهل العلم: إضاعة المال: صرفه في غير ما ينبغي.
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي مر بسعد وهو يتوضأ فقال: (ما هذا السرف يا سعد؟!)، قال: أفي الوضوء سرف؟! قال: (نعم، وإن كنت على نهر جار) رواه أحمد وحسنه الألباني
وحذر من التنعم، لأنه مدعاة إلى الإسراف. لما بعث النبي معاذَ بن جبل إلى اليمن قال له: (إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين) رواه أحمد وحسنه الألباني
قال عمر : (كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما اشتهى).
إن من علامات عقلِ الرجل: أن يحسن تدبيرَ المال، ويتبصرَ في صرفه ونفقاته.
قال أبو الدرداء : حسن التقدير في المعيشة أفضلُ من نصف الكسب.
وأبصرت أم المؤمنين ميمونةُ -رضي الله عنها- حبةَ رمانٍ في الأرض، فأخذتها وقالت: إن الله لا يحب الفساد.
وجاء عن أنس وابن عمر: الاقتصاد نصف المعيشة.
وفي بعض الآثار: ما عال من اقتصد. أي ما افتقر من اقتصد في تدبير المال.
وقال بعضهم: من حفظ مَاله فقد حفظ الأكرَمَين: الدّينُ وَالْعرض.
وقال معاويةُ بنُ أبي سفيانَ رضي الله عنهما: ما رأيت سرفا قط إلا وإلى جانبه حقٌ مضيع.
o أيها الإخوة .. فإن قال قائل: أين السرف في واقعنا؟
فالجواب: مظاهرُ الإسراف وصورُه وأمثلتُه في واقعنا المعاصر كثيرةٌ متنوعة، منها على سبيل المثال:
1. الإسراف في المآكل والمشارب، وما أكثر ما يقع ذلك، لا سيما في المواسم كرمضانَ والأعيادِ والمناسباتِ. ولهذا نرى أن كثيرا من الطعام يفضلُ عن الحاجة. وعند بعض الناس هوسٌ في شراء الأطعمة أو صنعِها، ولهثٌ وراء المطاعم والوجبات.
قال سفيان الثوري: إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب.
وقال الإمام محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة في (كتاب الكسب): "ثم السرف في الطعام أنواع فمن ذلك الأكل فوق الشبع .. ومن الإسراف في الطعام الاستكثار من المباحات والألوان .. ومن الإسراف أن يضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه من الأكل .. ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها".
وما أحسنَ إرشادَ النبي لأمته بقوله: (ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه الترمذي وصححه الألباني
2. الإسراف في الملابس، ومجاوزة الحد المعقول، ببذل الأموال الطائلة، أو التكثرِ منها بما لا يحتاجه، أو إهمالِها ورميها مع صلاحيتها. ويكثر هذا في أوساط النساء، فعند كثير منهن هوسٌ وشغفٌ في باب اللباس، وتتبع للموضات، وجري بين الأسواق والمولات، وإنفاق للأموال الطائلات.
3. – ومن مظاهر الإسراف في المجتمع:- الإسراف في المساكن والبيوت، والبيت نعمةٌ من نعم الله {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} [النحل: 80]. ولا بد للمرء من بيت يسكنُه، لكن تجاوز البعضُ حد الحاجة وأسرفوا في الكماليات والتكلفات المكلفة، وزادوا الطين بلة إذا كان ذلك عن طريق الديون والقروض.
4. الإسراف في المراكب، فصار الكثير يشتري سيارة جديدة فاخرة مهما كان مستواه ودخله، وبعضهم يتكثر من السيارات بما لا يحتاجه، وتنافس الناس في هذا الحطام.
5. الإسراف في الخدمات العامة، كالمياه والكهرباء ونحوهما، وقد كان النبي يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع.
6. الإسراف في الأعراس، وهذا من أوضح ما يتجلى فيه الإسراف في المجتمع، بدءا من المهور الباهظة، مرورا بالولائم التي ينفق فيها الأموالُ الطائلة على قصور الأفراح، والتفاخر بالذبائح وأنواع الطعام والشراب والحلويات والمعجنات، والورود والزينة، والزفة والطرب، وغير ذلك، مما تذهب فيه عشرات الآلاف في ساعات معدودات.
إن وضع الأعراس مخيف، ويتطلب تصحيحا وإصلاحا من العقلاء، وكبحا لجماح السفهاء، وليتذكر المسلم أن أمامه سؤالان عن هذا المال: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟.
هل تعلمون أنه وقع هنا في نجد مجاعةٌ عظيمة اضطرت الناسَ إلى أكل الميتة والجيف، ومات أقوام بسبب الجوع، وذلك عام 1327 هـ حتى سميت سنةَ الجوع؟.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]
وقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قرارا حول هذه الظاهرة جاء فيه ما نصه: "يرى المجلس بالأكثرية معاقبةَ من أسرف في ولائم الأعراس إسرافا بينا، وأن يحال بواسطة أهلِ الحسبة إلى المحاكم لتعزرَ من يثبتُ مجاوزتُه الحدَّ بما يراه الحاكمُ الشرعي من عقوبةٍ رادعة زاجرةٍ تكبحُ جماحَ الناسِ عن هذا الميدانِ المخيف" أ.هـ
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
أسباب الإسراف:
1. الجهل. فيظن بعض الناس أن المال إذا اكتسب من حلال وصرف في حلال، فهو جائز ولو جاوز الحد. ولذا فالحاجة ماسة إلى طرق هذا الموضوع وتوعية الناس به – رجالا ونساء – من خلال وسائل الإعلام والخطب والمحاضرات.
2. الغنى بعد الفقر. فمن اكتوى بنار الفقر وشدته، ثم فتحت عليه الدنيا، أورث له ذلك توسعا وجنوحا في طلب المتع، والمبالغة في صرف المال. {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، والمعنى: أن الإنسان ليتجاوز الحدود إذا أبطره الغنى، وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27].
3. التأثر بمن حوله، لا سيما بعد افتاح الناس بعضهم على بعض بوسائل التواصل.
إننا نعيش تهافتا محموما في الاستهلاك والطلب، وانظروا كم عندنا من الأسواق والمحلات، فمن يملك المال يُسرف، والذي لا يملك يقترض من أجل أن يسرف، ويلبي متطلبات أسرته من الكماليات، ويكون كغيره. فهذا يقترض ليسافر بعائلته إلى الخارج للسياحة، وثان يقترض ليقيم حفلة زواج يتحدث الناس بها لابنه أو ابنته، وثالث يقترض ليشتري سيارة من سيارات الأثرياء ليشار إليه، وهكذا في أمثلة كثير من صور السفه والخرق.
4. الضغوط الخارجية، وأكثر ما يقع ذلك من الزوجة والأولاد حين يلحون على الرجل بشراء كذا، وعمل كذا، مما يوقعه في الإسراف ومجاوزة الحد.
أيها الإخوة .. حينما يسرفُ المرءُ، فإن نفسَه تسترسلُ وراء الشهواتِ والمتع، وهذا يجرها إلى الإثم والغفلة عما خلقتْ له،
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها ... وإذا تُرد إلى قليل تقنع
الإسراف يورث الكبر والخيلاء، ويكسر قلوب الفقراء.
الإسراف يعوِّد النفس على الكسل والخمول، ويصعب عليها تحمل المصاعب والمشاق.
الإسراف خسارة للأمة الإسلامية من خيرات هذه الأموال المهدرة. فما ظنكم لو جمعنا تلك الأموال الضائعة، كم سيسهم في سد حاجة الفقراء، وتغطية المشاريع الخيرية.
أيها الإخوة .. اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم، كان النَّبِيُّ يَبِيتُ اللَّيَالِي الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا، وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً. رواه أحمد وحسنه الألباني
وتبعه على ذلك أصحابُه والتابعون لهم بإحسان.
تذكروا المآل القريب حينما توسد في قبرك، لا أنيس ولا جليس، تذكروا الأهوال العظام يوم الحشر والقيام، ولا تغرنكم الدنيا وزينتها عما خلقتم له.
اللهم وفقنا لتدارك الأوقات باغتنام الساعات في أعمال الخيرات، والاستعداد للوفاة قبل الموافاة ..
المرفقات
957.doc