الإسبال
صالح العوفي
الْحَمْدُ للهِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَال، ذِي الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ ، وَالْعِزَّةِ وَالْجَلال، لا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ مَقَال، وَلا يُغْنِي عَنْ عَطَائِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْه نَوَال، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مَحَمَّدَاً عَبْدُه وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ عَمِلَ وَقَال، وَمَنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَجَوَامِعَ الْمَقَال، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ خَيْرِ صَحْبٍ وَآل، وَسَلَّم تسَلْيمَاُ كَثِيراً إِلَى يَوْمِ الْمَرْجِعِ وَالْمَآل.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّ نَجَاتَنَا هِيْ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهَا، فَفَلاحُنَا بِاتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ وَهَلاكُنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ هِوَ بِتَرْكِ الشَّرِيعَةِ.
: وكونوا مِمَّنْ يَقُولُونَ (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].
أَيُّهَا الْناس: فمنكر عظيم، ووزر شديد في الإِسْبَالُ فِي الثِّيَابِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَابِسِ لِلرِّجَالِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ فَوْقَ الكَعْبَينِ، وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ بَيْنَ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ.
وَأَمَّا إِنْزَالُهُ دُونَ الْكَعْبِ فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ بَلْ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، فَكَيْفَ تُقْدِمُ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِكَ بِمَلابِسِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ" (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ قَالَ: "إزرةُ المؤمِنِ إلى عَضَلَةِ ساقِهِ، ثمَّ إلى نِصْفِ ساقِهِ ثم إلى كعْبِه، وما تَحْتَ الكعبينِ مِنَ الإزارِ ففي النارِ".
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ مِرَاتٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ" (رَوَاهُ مُسْلِم)، فَهَلْ تَرْضَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُ أَنْ تَحُلَّ بِكَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتُ بِسَبَبِ ثَوْبِكَ؟
وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الإِخْوَةُ- أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ السَّابِقَةُ إِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ نَزَلَ ثَوْبُهُ أَوْ إِزَارَهُ تَحْتَ الْكَعْبِ، فَإِنْ صَحِبَ ذَلِكَ خُيَلاءُ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ أَشَدُّ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَاعْجَبُوا أَيُّهَا الشَّبَابُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ: فَحِينَ طُعِنَ عُمُرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، حَمَلُوهُ إِلَى بَيْتِهِ ثُمَّ دَعَا بِلَبَنٍ فَشِرَبِ فَخَرَجَ اللَّبَنُ مَعَ الطَّعْنَةِ فَعَرَفُوا أَنَّهُ سَيَمُوتُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَزُورُنَهُ يُودِّعُونَهُ وَيَدْعُونَ لَهُ، فجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ: "أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِبُشْرَى اللَّهِ، قَدْ كَانَ لَكَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقِدَمِ الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ استُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ الشَّابُّ إِذَا إِزَارُهُ يمسُّ الْأَرْضَ، فَقَالَ عُمُرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلام، فَلَمَّا جَاءَهَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّك". (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ).
فَرَضِيَ اللَّهُ عُمَرَ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا كَانَ فِيهِ أَنْ يَتَكَلَّمُ. لِأَنَّ الأَمْرَ خَطِيرٌ جِدّاً فَلَمْ تَمْنَعْهُ آلامُهُ وَدُمَاؤُهُ التِي تَنْزِفُ مِنْ أَنْ يَنْصَحَ هَذَا الشَّابَّ أَنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ إِسْبَالِ ثِيَابِهِ.
أَيُّهَا الْمُباركونَ: إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي ثِيَابِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيَتَأَلَّمُ شَدِيدَاً وَيَحْزَنُ كَثِيرَاً لِمَا يَرَى مِنَ الْمُخَالَفَةِ الصَّرِيحَةِ وَالْوَاضِحَةِ لِهَذِهِ الأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ التِي فِيهَا الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ لِمَنْ خَالَفَ.
ثُمَّ إِنَّ الأَعْجَبَ أَنَّ النِّسَاءَ صِرْنَ يَتَسَابَقْنَ فِي تَقْصِيرِ الثِّيَابِ حَتَّى وَصَلَ الْحَدُّ إِلَى الرُّكْبَةِ بَلْ رَبَّمَا زَادَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَعَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ أَنْ تُرْخِيَ ثَوْبَهَا حَتَّى يُغَطِّيَ قَدَمَيْهَا، بَلْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ "يُرْخِينَ شِبْرًا"، فَقَالَتْ: إِذنْ تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: "فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ).
فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَإِلَيْهِ الْمُشْتَكى، فَمَنِ الذِي أَمَرَ بِذَلِكَ؟ وَفِي أَيِّ شَرْعٍ أَمْ أَيَّ سُنَّةٍ كَانَ هَذَا؟
أَيُّهَا الرِّجَالُ: اتَّقُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِيمَنْ تَحْتَ وِلايَتِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ مُسْتَرْعِيكُمْ إِيَاهُمْ فَأَقِيمُوهُمْ عَلَى شَرْعِ اللهِ وَأْطُرُوهُمْ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
قلته، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الحمد لله، ذِي الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ ، وأشهد أن لا إله إلا الله الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حذر من البدع في سائر الأحوال، صلى الله عليه وسلم وعلى الصحب والآل، وعلى التابعين والمُتبعين له في الأقوال والفِعال.
أيها الناس: الاحتفال بالمولد النبوي لا أصل لها في كتابٍ ولا سُنةٍ، ولم يُنقل عمله عن أحدٍ من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، والمتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها المحدثون الأفاكون.
ومحبةالنبي -صلى الله عليه وسلم- تقتضي إتباعه وطاعته والاهتداء بسنته، والميزان قول الرحمن: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 3].
تعصي الرسول وأنت تزعم حبه *** هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لما يحب مطيع
و الاحتفالات بالمولد من ابتداع الدولة الفاطمية الباطنية، فليس هديًا سلفيًا، ولا منهجًا صحابيًا.
أيها المسلمون: إن بدعة عيد المولد التي تقام في شهر ربيع الأول في الليلة الثانية عشرة منه ليس لها أساس من التاريخ؛ لأنه لم يثبت أن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلك الليلة، وقد اضطربت أقوال المؤرخين في ذلك، فبعضهم زعم أن ولادته في اليوم الثاني من الشهر، وبعضهم في الثامن، وبعضهم في التاسع، وبعضهم في العاشر، وبعضهم في الثاني عشر، وبعضهم في السابع عشر، وبعضهم في الثاني والعشرين، فهذه أقوال سبعة ليس لبعضهم ما يدل على رجحانه على الآخر، فيبقى تعيين مولده صلى الله عليه وسلم من الشهر مجهولاً إلا أن بعض المعاصرين حقق أنه من اليوم التاسع.
وإذا لم يكن لبدعة عيد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أساس من التاريخ - فليس لها أساس من الدين أيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها ولم يأمر بها، ولم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".
وكان يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
و لا يتقرب إلى الله تعالى بتعظيمه وتعظيم نبيه صلى الله عليه وسلم إلا بما شرعه الله تعالى ورسوله، ولا يتعبد أحد بشيء منها إلا ما جاء عن الله ورسوله.
وفيما شرعه الله تعالى من تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم ووسائل محبته ما يغني عن كل وسيلة تبتدع وتحدث.
فاتقوا الله -عباد الله- واستغنوا بما شرعه عما لم يشرعه، وبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لم يسنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].