الإخلاص
وليد الشهري
الإخــلاص
الحمد لله الذي أراد فقدَّر، وملك فقهر، وخلق فأمر، وعُبِد فأثاب وشكر، وعُصِي فستر وغفر، وجعل مصير الذين كفروا إلى سَقَر، والذين اتقوا ربهم في جناتٍ ونهر، أحمده تعالى وحَمدُه فرضٌ لازم، وأشكره - عز وجل - على فضله المستمر وإحسانه الدائم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحي القيوم القدير القادر، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله المبعوثُ بالتوحيد والمكارم، اللهم صلِّ وسلم عليه خيرِ بني هاشم، وعلى آله وصحبه أصحاب الصدق والعزائم، والتابعين لهم بإحسان من عرب وأعاجم .
أمــا بعد ،،،
فاتقوا الله – عباد الله – فهي وصية الله للأولين والآخرين ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله )
عباد الله ... في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام : ( إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد فأُتي به فعرَّفه نعمَه فعَرَفَها، قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلَّم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعَرَفَها، قال فما عملت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال : كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال : كذبت ولكنك فعلت ليُقال : هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ) [مسلم] وجاء في رواية : أن أولئك هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة [الترمذي وابن حبان وصححه الألباني]، ولما بلغ هذا الحديثُ معاويةَ - رضي الله عنه - بكى بكاءً شديداً، فلما أفاق قال صدق الله : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) [هود:15-16] .
إخوة الإيمان .. الإخلاص سِرُّ الاصطفاء والفتح الرباني وما طابت الأعمال وما صلحت وما ذاق العُبّاد لذتها إلا بالإخلاص لله - عز وجل – وكل شيء تتقرب منه تَقِلّ هيبتُه إلا الله – جل وعلا – فكلما ازددت منه قربة ازدادت هيبتُه في قلبك وكَبُرَت خشيتُه في نفسك، إذا أخلصت لله تلقت الملائكة عملك، وكتبته في صحائفك، ورُفع لله تعالى وقَبِله منك وكتب لك سعادة الدارين .
إن حاجتنا للحديث عن الإخلاص كبيرة لأن الله تعالى يقول : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) [البينة:4]، وقال تعالى : ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً ) [الكهف :110]، والعمل الصالح أن يكون خالصاً صواباً قال الفضيل بن عياض : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة، وقد سَمَّى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الرياءَ الشرك الخفي، وهو أخفى من دبيب النمل، وخطورته بالغة لأنه يُخشى على الصالحين منه فكيف بغيرهم؟
قال ابن القيم – رحمه الله - : أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبعٌ ومكملة، وإن النيةَ بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد والأعضاء الذي إذا فارق الروح ماتت، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، ويقول ابن المبارك رحمه الله - : رب عمل صغير تكبره النية، ورب عمل كبير تصغره النية، ويقول ابن مسعود – رضي الله عنه – خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نريد الجهاد قال : والله ما كنت أظن أحداً من الصحابة يريد بجهاده شيئاً من الدنيا أبداً حتى أنزل الله ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة )، قال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تتقلب عليّ، وقال يوسف بن الحسين : أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر .
في المسند يقول النبي - عليه الصلاة والسلام - : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء، قال بعض المفسرين على قوله تعالى : ( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) [الزمر:47]، كانوا قد عملوا أعمالاً كانوا يرونها في الدنيا حسنات بدت لهم يوم القيامة سيئات، حتى قال سفيان : ويلٌ لأهل الرياء، ويلٌ لأهل الرياء، ويلٌ لأهل الرياء، هذه آيتهم وقصتهم .
عباد الله .. في التخويف من الرياء ردعٌ وزيادةُ تحذيرٍ للمؤمن أن يسلك مسالك المنحرفين، والذين يخالط أعمالَهم شوائبٌ من الدنيا أو طمعٌ في زخرفِها وزينتِها، فإن الذي خلق هو الله، والذي أمر بالعبادة خالصة له هو الله، فكيف يشوب بعبادةٍ مما يُبتغى به وجهُ الله شيئاً من الدنيا؟ وكيف يُرغب عن الدائم بحفنة من الفاني؟ وكيف يُقدم حطام الدنيا على الباقي؟ فعلى المؤمن أن يحذرَ كلَّ الحذر من دواعي ومقدمات الرياء، ولنتأمل قول علي – رضي الله عنه – : للمرائي ثلاث علامات : يكسل عن الطاعة إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذُمّ أ.هـ.
أيها الأخوة ..الإيمان يتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص لله – جل وعلا -، ولذلك قد يعمل شخصان عملاً واحداً في الصورة، ويتساويان في النصب والتعب، ولكن أحدهما يثاب والآخر لا يثاب أو ربما يُعاقَبُ نظراً لاختلاف المقاصد، فالباطن وما في القلب هو المعتبر عند الله تعالى في الثواب والعقاب، كما في صحيح مسلم مرفوعاً : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )، ولذلك قال بعض السلف : الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، وقال أيوب السختياني : ما صدق عبدٌ قط فأحب الشهرة، وقال رجلٌ لتميم الداري – رضي الله عنه - : ما صلاتك بالليل ؟ فغضب وقال : والله لركعة أصليها في جوف الليل في سرٍّ أحب إلي من أن أصلي الليل كله ثم أقصه على الناس، وذكرت جارية الربيع بن خثيم أن عمل الربيع كان كله سراً إن كان ليجئ الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه، ولما مات علي بن الحسين وجدوه يعول مئة بيت في المدينة، وانظروا إلى عِلْم السلف لما أخلصوا لله أعمالهم بقي علمُهم مئات السنين وإلى يومنا هذا؛ لأنه ما كان لله بقي، وفي هذا العصر نماذج من هؤلاء الصاحين الأخفياء نحسبهم ولا نزكيهم على الله ممن تفانوا في عمل الصالحات والمسابقة إلى الخيرات فقد ذكر الشيخ عبد الله الزامل - رحمه الله - أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله – لما تُوفي وُجد أنه يعول ألفي أسرة من غير الأفراد، وكذلك قصة اشتهرت عن الشيخ عبد الله الجبرين - رحمه الله – في إخفاءه لبعض صدقاته، وكان يعتاد لبعض أوقات صدقته قبل الفجر حتى لا يراه أحد، فيضع عند باب الفقير كلَّ ما تحتاجه الأسرة من أمور عينية حتى حوائج الأطفال، ويَخرُج المحتاج لصلاة الفجر فيجد الصدقات عند الباب لا يدري من وضعها، ويُقَدِّرُ اللهُ في يوم من الأيام أن يتأخر الشيخ في أحد الأيام فلم يَصِلْ إلا مع الأذان أو بعده فرآه أحدُ جيرانِ هذا المحتاج فيخبره وينتشرُ هذا الخبر، وقد توفي أحد الصالحين قبل أعوام وقد بنى خمسةَ مساجد وأولاده لم يعلموا بذلك إلا بعد وفاته، جاء في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي )، ويقول تعالى : ( إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ) [البقرة:271]، وكان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه [البخاري ومسلم]، وكان أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة كل هذا كان هو الأصل حفاظا للعبد على أعماله وأنه يقدمها لله رب العالمين، ولكن ربما يكون هناك أحياناً مصلحةٌ من إظهار بعض الأعمال الصالحة إذا كان الإخلاص والإيمان في قلب المسلم كالجبل الأشم لا يتزعزع، وذلك ليقتديَ الناسُ ويتعلموا، كإظهار الصدقة أحياناً ليمتثلَ الناسُ عملَ الخير سِيَّما إن كان ذلك الشخصُ ممن يُقتدى به وينظر الناس إلى أعماله فيتأسَّون بسنة نبيهم - عليه الصلاة والسلام - ومثله ما يذكره الداعية من مواقف في مناصحته للناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان في ذلك عبرة ونفعاً للسامعين وإعانتهم بعد الله تعالى في طريقة الدعوة .
إن على المسلم أن يهتم بأعمال القلوب؛ لأن أعمال القلوب لا يطلع عليها الناس، فلا تجد من يناصحك إذا وقعت في تقصير فيها، ولأن المسلم ربما يعلم الناس عنه خيراً كثيراً فيجد الثناء المتوالي والذي ربما يؤدي كثرته إلى العُجْب والفخر، وقد يدخله شيء من الكِبْر وهو لا يشعر، إن على المسلم أن يتواضع لإخوانه، وإذا قَدَّمَ طاعةً لله وزاد علمُه زاد تواضعاً وخفضاً للجناح؛ لأنه يعلم يقيناً أن الذي أعطاه هذا الفضل هو الله، وأن الذي يعمل لأجله هو الله، والذي يتقرب إليه هو الله، والذي يجازيه على كل ما فعل هو الله، فكل حياته لله، ولن يرفعَه مدح المادحين، كما أنه لن ينقص من قدره ذمُّ الذامّين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) [سورة الأنعام:162]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه كان غفارا .
الخطـبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد ،،
فإذا أخلص العبد لله – تعالى – ورأى الناس عملَه وأثنوا عليه خيراً فلا يضره ذلك، لما في صحيح مسلم أن أبا الدرداء – رضي الله – قال : يا رسول الله أرأيت الرجلَ يعملُ العملَ فيحمده الناس عليه ويثنون عليه به فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( تلك عاجل بشرى المؤمن )، ولا يحملنَّ العبدَ إخلاصُه لله تركَه للطاعةِ خوفاً من الرياء، قال ابراهيم النخعي - رحمه الله - : إذا أتاك الشيطان وأنت في صلاة فقال إنك مراءٍ فزدها طولاً أ.هـ. ، وقد قال هذا الكلام لأجل أن يقطعَ المسلم عن مراقبةِ الخلق لا في زيادة عمل ولا في نقصه من أجلهم، والإنسان على نفسه بصيرة فيعلم من نفسه الإخلاص فلا يضره نظر الناظرين، يقول ابن تيمية – رحمه الله - : من كان له وردٌ مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك فإنه يصليه حيث كان ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سراً مع اجتهاده من سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص .
عباد الله ... للإخلاص ثمرات ومبشرات أولها / أنه منجاة من النار فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله [البخاري ومسلم]، وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً : ( إن الله سيُخلّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشُرُ عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا يا رب، فيقول أفلك عذر؟ فيقول : لا يا رب، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيُخرج بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول : احضُر وزنك، قال : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فقال فإنك لا تُظلم قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء ) [السلسلة الصحيحة]
ثاني هذه الثمرات / نيل شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد قيل له : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه [البخاري] .
الثالث / أن الإخلاص فيه تفريج الكربات ورفع المصائب والنوازل كما نجى اللهُ نبيَّه يونسَ من بطنِ الحوت بالتوحيد ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) [الأنبياء:87]، وكما نجى الله أصحاب الكهف من كفر الكافرين وكيد الكائدين بتوحيدهم لله رب العالمين، وكذلك نجى الله - سبحانه -الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بما أخلصوا لله من أعمال وقربات [البخاري ومسلم]، وعلموا أن لهم رباً ينظر إليهم فذاك بارٌ بوالديه ولو كانا نائمين فقعد عندهما بغَبُوقِهِما وهما لا يعلمان، والثاني ترك الفاحشة خوفاً من ربه، والثالث نمّى مال أخيه وأعطاه إياه ولو شاء أخذه وهو لا يدري .
الرابع / العصمة من الشيطان ومن الانزلاق في الكبائر، فيوسف – عليه السلام – عصمه الله من كيد امرأة العزيز ومن الوقوع بها لما له من رصيد الإيمان والإخلاص لله – عز وجل - .
الخامس من الثمرات / النصر على الأعداء، قال الله تعالى عن الذين خرجوا رياءً وكِبْرا من قريش لمقاتلة النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحبِه : ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ) [الأنفال:47] فكانت الهزيمة من نصيبهم، وانتصر الله لأوليائه وانتقم لهم من أعدائه .
فاللهم يا واحدُ يا أحد، يا قديرُ يا صمد، إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم، اللهم إنا نسألك الإخلاص لك في أقوالنا وأعمالنا وجميع طاعاتنا، إنك على كل شيء قدير ..
وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه ...