الإخلاص حقيقته وثمراته

أبو عبد الله الأنصاري
1435/05/23 - 2014/03/24 23:14PM
[align=justify]معاشر المسلمين : للقلوب أحوال وأعمال كما أن للجوارح أحوال وأعمال و" أعمال القلوب هي الأصل ، وأعمال الجوارح تَبَعٌ ومكملةٌ ، وإن النية بمنزلة الرُوح ، والعمل بمنزلة الجسد ، فإذا فارق الروح الجسد فموات ، ولذلك كانت معرفة أحكام القلوب أهمّ من معرفة أحكام الجوارح ، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : ( ومن تأمل الشريعة ؛ في مصادرها ومواردها ، عَلِمَ ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ، وأنها لا تنفع بدونها ، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح ، وهل يميّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحدٍ من الأعمال التي ميزت بينهما ؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم ، فهي واجبة في كل وقت ) .
( فالنية هي رأس الامر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى ، فإنها روح العمل وقائده وسائقه ، والعمل تابع لها ، يبنى عليها ، يصح بصحتها ، ويفسد بفسادها ، وبالنية - الصحيحة - يستجلب التوفيق ، وبعدمها يحصل الخذلان ، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة ) وحديثنا اليوم – يا معاشر الناس - عن عمل من أهم أعمال القلوب الإيمانية ، بل إنه أفرض فرائض الله على عباده ، وأوجب واجبات الإسلام على أهله ، إنه إخلاص الدين لله تعالى ، إخلاص الدين لله الذي يعني ألا يكون لك معبود تتجه إليه بعباداتك ، ولا مقصود تريده بطاعاتك وقرباتك إلا الله وحده ، إنه إخلاص القصد والنية لله في جميع العبادات والطاعات ، فيكون الله معبودك ومقصودك ، ويكون الله وجهتك ومرادك ، كما قال تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )، وأصل الإخلاص هو ما تضمنه الكلمة الطيبة لا إله إلا الله ، إذ معناها : لا مستحق للعبادة أحد دون الله عز وجل ، فهو المعبود بحق ، وكل معبود من دونه وكل مقصود سواه فباطل ( ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه ، فهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل ، وانزل به جميع الكتب ، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان ، وهو خلاصة الدعوة النبوية ، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه ) ، وفيه شأن الإخلاص يقول الله تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص ) ، ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) ، ( قل الله أعبد مخلصا له ديني ) .
إن إخلاص العمل لله تعالى هو الأصل الثابت الذي ذكره الله تعالى في قوله تعالى : ( ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) قال الربيع بن أنس : كلمة طيبة هذا مثل الإيمان فالإيمان الشجرة الطيبة ، وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه ، وفرعه في السماء خشية الله .
معاشر المسلمين : وقبول الأعمال عند الله مرهون بتحقق الإخلاص فيها قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) : ( هو أخلصه وأصوبه ) قالوا: يا أبا عليّ ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال: ( إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتّى يكون خالصا صوابا . الخالص : أن يكون للّه ، والصّواب : أن يكون على السّنّة. ثم قرأ قوله تعالى: ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) ، قال بعض السلف : ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان : ديوان لمن فعلته ؟ أي هل عملت عملك ذلك لله أم لغيره ؟ والسؤال الثاني : وكيف فعلته ؟ أي هل عملت عملك على ما أمرك الله وشرع أم على هواك وعادتك ، فالأول سؤال عن الإخلاص ، والثاني سؤال عن المتابعة ، قال تعالى : ( فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) ، وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ) فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله ، والإحسان فيه : متابعة رسوله وسنته .
وقد كان أسلافنا يعتنون بأمر النية وتخليصها من شوائب الرياء وإرادة غير الله بأعمالهم حتى قال الثوري : كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل ، وقال بعض العلماء : اطلب النية للعمل قبل العمل ، وقال سعيدُ بن جبيرٍ : ( الإخْلاَصُ أنْ يُخْلِصَ الْعَبْدُ دِيْنَهُ وَعَمَلَهُ للهِ وَلاَ يُشْرِكَ بِهِ فِي دِيْنِهِ وَلاَ يُرَائِي بعَمَلِهِ أحَداً). وقال يحيى بن مُعاذ : ( الإخْلاَصُ تَمْييْزُ الْعَمَلِ مِنَ الْعُيُوب كَتَمْييْزِ اللَّبَنِ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ). قال سهل التستري: (الإخلاص أن تكون حركاته وسكناته في سره وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء ) ، وقال بعضهم : ( الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله ولا مجازيا سواه ) ، ويقول الهروي : ( الإخلاص تصفية العمل من كلّ شوب ) ، ويقول إبراهيم بن أدهم : ( الإخلاص صدق النية مع الله تعالى ) ، ويقول ابن القيم : ( الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد ) ، يقول العلامة ابن سعدي : ( وحقيقة الإخلاص: أن يقصد العامل بعمله وجه الله وحده وثوابه. وضده: الرياء، والعمل للأغراض النفسية ) ، قال شهر بن حوشب: ( جاء رجل إلى عبادة بن الصّامت ، فقال: أنبئني عمّا أسأل عنه، أرأيت رجلا يصلّي يبتغي وجه اللّه ويحبّ أن يحمد؟ ) .فقال عبادة: ( ليس له شيء، إنّ اللّه تعالى يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كلّه لا حاجة لي فيه ).
معاشر المسلمين : شتان ما بين المخلص والمرائي ، فالذي لا يريد بأعماله الدينية وجه الله تعالى إنما يتعب نفسه في أعمال لن ينفعه الله بها ، فإن العبد إنما ينتفع من أعماله بما كان خالصاً لوجه الله تعالى ، وفي ذلك يقول الإمام ابن قيم الجوزية : ( فلا يتعب الصادق المخلص فقد أقيم على الصراط المستقيم فيسار به وهو راقد ولا يتعب من حرم الصدق والإخلاص فقد قطعت عليه الطريق واستهوته الشياطين في الأرض حيران فإن شاء فليعمل وإن شاء فليترك فلا يزيده عمله من الله إلا بعداً ) ، ولأهمية ذلك قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى : ( العامل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه )
معاشر الناس : والذي يوجب على العبد إخلاصَ العمل لله علمُه بأن الله هو ربه وخالقه ومالكه ، وعلمه بأن اللهَ هو إلهُه ومعبودُه المستحقُّ منه للعبادة كما يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - : ( ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ، ولا يعامل أحدٌ الخلقَ دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق ، وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم ) ، ويقول - رحمه الله - : ( والإخلاص يتوقف في حصوله وكماله على معرفة العبد لربه، وتعظيمه وتأليهه، ومعرفة أسمائه تعالى وصفاته، وإحصائها والتعبد لله بمقتضاها، فمن كان بالله أعرف كان له أخلص، وفيما عند الله تعالى أرغب، ومن عقوبته أرهب ) .
الخطبة الثانية
معاشر المسلمين : إذا غُرست شجرة المحبة في القلب وسُقَيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب - صلى الله عليه وآله وسلم - أثمرت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها أصلها ثابت في قرار القلب وفرعها متصل بسدرة المنتهى ، لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .
وللإخلاص – يا معاشر الناس – ثمرات وبركات يناله أهله الموفقون :
1. منها : أن يتذوق المخلصُ طعمَ حلاوة الطاعة والقربة ، فيشعر بلذة العبودية ومذاقها ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتَّهمه – يعنى في سلامته وإخلاصك فيه _ فإن الرب تعالى شكور ، يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوةٍ يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين ، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول ).
2. ومن ثمرات الإخلاص : أنه يبارك الله به للعامل في أعماله ، فينفعه الله بها مهما كانت يسيرة ، ( فيغفر بها الذنب ، ويضاعف الأجر، كما في حديث البطاقة... فهذه حال من قال كلمة التوحيد بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص ، كذلك البغي التي سقت كلبًا فغفر الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، "فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص ).
3. ومن ثمرات الإخلاص : اجتباء الله للمخلص : قال شيخ الإسلام : ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مُخْلِصًا لَهُ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَيُحْيِي قَلْبَهُ، وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ ) .
4. ومن ثمرات الإخلاص : سعادة القلب وطمأنينته كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : ( فالمؤمن المخلص لله من أطيب الناس عيشا ، وأنعمهم بالا ، وأشرحهم صدرا ، وأسرهم قلبا ، وهذه جنة عاجلة قبل الجنة الآجلة ) .
5. ومن ثمرات الإخلاص : سلامة الصدر كما قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( ثلاث لا يَغلُّ عليهن قلب رجل مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) ، ( فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة ، لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه ، فلم يبق فيه موضع للغل والغش ، كما قال تعالى : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) ، فلما اخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء فانصرف عنه السوء والفحشاء ) .
6. ومن ثمرات الإخلاص : حصول معية الله للعبد : ( فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه كان الله معه ، فإنه سبحانه ( مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق ، والله سبحانه لا غالب له ، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء ، فإن كان الله مع العبد فمن يخاف ؟! وإن لم يكن معه فمن يرجو ؟! وبمن يثق ؟! ومن ينصره من بعده ؟! ).
7. ومن ثمرات الإخلاص : حفظ الله للمخلصين كما قال تعالى في شأن إبليس الذي قال : ( لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، قال ( هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ، فقرر الله عز و جل ذلك أتم التقرير وأخبر أن الإخلاص صراط عليه مستقيم فلا سلطان لك على عبادي الذين هم على هذا الصراط لأنه صراط علي ولا سبيل لإبليس إلى هذا الصراط ولا الحوم حول ساحته فإنه محروس محفوظ بالله فلا يصل عدو الله إلى أهله ).
8. ومن ثمرات الإخلاص : أن الله يُلبس المخلصَ ثوبَ القبول بين عباده وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - : ( وقد جرت عادة الله التي لا تُبدل ، وسنته التي لا تُحول ، أن يُلبس المخلصَ من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه ، ويُلبس المرائي اللابس ثوبى الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به ، فالمخلص له المهابة والمحبة ، وللآخر المقت والبغضاء ) .
9. ومن ثمرات الإخلاص : أنه ينفع العبدَ أحوج ما يكون إليه ، وقد نفع الإخلاص الثلاثة الذين أووا إلى غار فانطبقت عليهم صخرة ، فتضرعوا وتوسلوا إلى الله بخالص أعمالهم ففرج الله عنهم فخرجوا يمشون .
10. وأعظم وأجل ثمرات الإخلاص : دخول المخلص جنة الرضا الإلهي عنه التي يدخل منها إلى جنات النعيم : ولما ذكر الله – في أول سورة الدهر - شيئاً من نعيم الجنة الذي يمتع به أهلَها في قوله : ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً ، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً ) ذكر - بعد ذلك – عدداً من أجل صالحاتهم التي نفعهم الله بها ومنها : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، إنما نظعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً ) فعلمنا بذلك أن إخلاص الأعمال لله من أجل - بل هو أجل - أسباب رضوان الله ونعيم جناته .
[/align][/size]
[/FONT][/FONT]
المشاهدات 3150 | التعليقات 0