الإحسان إلى الوالدين-21-12-1437ه-أحمد الطيار-الملتقى بتصرف

محمد بن سامر
1437/12/21 - 2016/09/22 17:57PM
[align=justify]
أما بعد: فإنَّ الحديثَ عن عقوقِ الوالدينِ يقشعرُّ من هولِه البدنُ, ويضطربُ منه القلبُ؛ لِمَا فيه من الْمواجِعِ الْمُؤلمةِ, والقصصِ الشنيعةِ.
عقوقُ الوالدينِ, والتقصيرُ في حقِّهما, هو من أمّاتِ أسْبابِ الخلافاتِ الأُسْريةِ, بل هو المشكلةُ والمعضلةُ.
والعاقُّ لا يُرجى خيرُه لأُسرتِه وأهلِه, فمنْ لمْ يكنْ به خيْرٌ لوالديهِ كيفَ يكون فيه ذرُّةُ خيرٍ لغيرِهما؟.
وبرُهما والقيامُ بحقِهما واجبٌ, قَالَ اللهُ-تَعَالَى-: [وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وبالوالدينِ إحسانًا] فوصَّى بتوحيدِه وإفرادِه بالعبادةِ, وأمرَ بِبرِهما والشفقةِ والعطفِ عَلَيْهِمَا.
ثم أكَّدَ على الأبناءِ ذلك في كبرِ والديهما فقال: [إِمَّا يبلغنَّ عنْدَك الْكبرَ أَحدُهمَا أَو كِلَاهُمَا فَلَا تقلْ لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرْهما]، لا تُسمعْهما قولًا سيئًا, حتى ولا التأفيف, الذي هو أدنى مراتبِ القولِ السَّيِّء، قالَ الحسينُ بنُ عليٍ-رضيَ اللهُ عنهُما-: "لو علمَ اللهُ شيئًا من العقوقِ أدنى من الأُفِّ لحرَّمَه"، فإذا كانَ قولُ أُفٍّ لا يجوزُ، فكيف بمن يرفعُ صوتَه عليهِما، أو يردُ عليهِما, كيف بِمنْ يعصي أوامرَهما، ولا يلبي طلباتِهما في غيرِ معصيةِ اللهِ، وكيف بِمنْ يسبُهما، ويرفعُ يدَه عليهِما.
ثمَّ تأمّلْ قولَه: [إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ]، فكلمةُ: [عِندَكَ] تدلُّ على التجائِهما واحتمائِهما وحاجتِهما، فلقد أنْهَيَا مُهمتَهما، وانقضى دورُهما، وابتدأ دورُك، وها هي مهمتُك: [فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا].
فيجبُ عليك أَنْ تتولى خدمتَهما وهما في هذا السنِّ الكبيرِ, فطالما قامَا بخدمتِك ورعايتِك وتنظيفِك, وَكَيف يَقع التَّسَاوِي وَقد كَانَا يحْملَانِ أذاك راجينَ حياتَك، وَأَنتَ إِنْ حملتَ أذاهما رَجَوْت مَوْتهمَا!.
ثمَّ قالَ-تعالى-: [وَلاَ تَنْهَرْهُمَا] لا يصدرْ منك أيُّ شيءٍ شينٍ أو سيئٍ إليهما, ثمَّ بالغَ في الأمرَ ببرِهما فقالَ: [وَقُل لّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا] لينًا طيبًا حسنًا بأدبٍ واحترامٍ وتوقيرٍ وتعظيمٍ، ثمَّ زادَ على ذلك فقال: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ] تواضعْ لهما بفعلِك, مُتذلّلاً مُسْتكينًا, خافضًا صوتَك عند حديثِك معَهما, وَقُل دائمًا وأبدًا: [رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيرًا] الطفْ بهما في كبرِهما، وادعُ لهما في حياتِهما وبعدَ وفاتِهما.
ثبت في الصَّحِيحَيْنِ أنَّ رجلًا جَاءَ يسْتَأْذن النَّبِيَّ-صلى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسلمَّ-فِي الْجِهَاد مَعَه فَقَالَ النَّبِيُّ-صلى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسلمَّ-: أَحَيٌّ والداك؟ قَالَ: نعمْ, قَالَ: ففيهما فَجَاهدْ، فَانْظُرْ كَيفَ فضَّل بِرَّ الْوَالِدينِ وخدمتَهما على الْجِهَاد في سبيلِ اللهِ-تعالى-, مع ما فيه مِن بَذْلِ الروحِ والنفسِ في سبيلِ اللهِ.
وصحَ أَن رَسُولَ اللهِ-صلى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسلمَّ-قَالَ-ثلاثًا-: "أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟"، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ"، فَانْظُر كَيفَ جمعَ بين الشركِ بهِ وبينَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمَا وَعدمِ الْبرِ وَالْإِحْسَانِ.
إخواني وأبنائي: اللهَ اللهَ في بِرِّ الوالدينِ, وخاصَّةً الأم, تلك المربّيةُ المشفِقَةُ، لُطْفها ملأَ قلبَها، حملتْك في بطنِها تسعةَ أشهرٍ، تألَّمَتْ مِنْ حملِك، وكابَدَتْ آلامَ وضعِك، حَمَلتْك كُرهًا، ووضعتْك كُرهًا، رأتِ الموتَ بعينيها عندَ ولادتِك، صَرَخَتْ وبَكَتْ، ولما رأتْكَ بجانبِها نسيتْ-بسرعةٍ-آلامَها، وعَلّقَتْ فيك آمالَها، رأتْ فيك البهجةَ والحياةَ وزينَتَها، ثم شُغِلَتْ بخدمتِك ليلَها ونهارَها، تُغذيك بصحتِها، طعامُك دَرُّ ثديِها، وبيتُك حِجْرُها وحِضنُها، ومركبُك يداها وصدُرها، سهرتْ ونِمْتَ، تألَّمَتْ لألمِك، وتعبتْ لراحتِك، وحملتْ قذرَك وتحمّلتْ أذاك وهي راضيةٌ، تُحِيطُك وترعاك، ولو خُيّرتْ بين حياتِك وموتِها لطلبتْ حياتَك بأعلى صوتِها، كمْ عاملْتها بسوءِ أخلاقِك كراتٍ ومراتٍ، فدعت لك بالتوفيقِ في السرِّ والجهرِ، كم كانت تجوعُ لتشبعَ، وتسهرُ لتنامَ، وتتعبُ لتستريحَ، تتركُ كثيرًا مما تشتهيه خوفًا عليك، فهي بك رحيمةٌ، وعليك شفيقةٌ.
أنسيتَ عندما كنتَ صغيرًا؟! إذا غابتْ عنك دعوتهَا، وإذا أعرضتْ عنك ناجيتَها، وإذا أصابَك مكروهٌ استغثتَ بها، تظنُّ كلَّ الخيرِ عندَها-وأكثرُه فعلًا عندها-، وتظنُّ أنَّ الشرَّ لا يصلُ إليكَ إذا ضمتْك إلى صدرِها، أو لحَظَتْك بعينِها، فكيفَ بعدَ ذلك تعقُّها؟!
رأى ابنُ عمرَ-رضي اللهُ عنهما-رجلًا قدْ حملَ أمَه على رقبتِه وهو يطوفُ بها حولَ الكعبةِ، وقد أتى بها من بلادِه البعيدةِ، فقالَ: يا ابنَ عمرَ، أتُراني جازيتُها؟ قال: "لا ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طلقاتِها، ولكن أحسنتَ، واللهُ يثيبُك على القليلِ كثيرًا".
ولما ماتتْ أمُّ إياسٍ القاضي المشهورِ بكى عليها، فقيلَ له في ذلكَ فقال: "كان لي بابانِ مفتوحانِ إلى الجنةِ، فَأُغْلِقَ أحدُهما".
فللهِ درُّهنّ من أمهاتٍ مشفقاتٍ, ومربياتٍ رفيقاتٍ, ووالداتٍ حانياتٍ، فجزاهنُّ اللهُ عنّا جنةً عرضُها الأرضُ والسمواتُ.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ.
الخطبة الثانية
أما بعدُ: فلقدْ زرعَ اللهُ-تعالى-الرحمةَ والرأفةَ في قلبِ الأُمِ تُجاه ولدِها، تتحملُ أذاه، وتصبرُ على لأْواه، يقسو عليها فتلينُ له، يهجرُها فتحنُ عليه، تدعو له ولا تدعو عليه، حتى لو وصلَ به العقوقُ غايتَه، هذا أحدُ العاقينَ لأُمِه، طردها من بيتِه تلبيةً لطلبِ زوجتِه الظالمةِ، فتخرجُ من بيتِه وليس لها بيتٌ سواه، خرجتْ كسيرةً باكيةً، ومضتِ الأيامُ، وأحسَّ الابنُ بالندمِ، فخرجَ يبحثُ عنها، فوجدها في إحدى الطرقاتِ, تمدُ يدَها للناسِ لتسدَ جوعَها وعطشَها، فانكبَّ عليها باكيًا نادمًا، فقالتْ له وهي تمسحُ دموعَه ودموعَها: واللهِ يا ولدي, مِنْ يومِ طردتني من بيتِك, وأنا أدعو اللهَ أنْ يليِّنَ قلبَك، وألا يعاقبَك على فعلتِك.
اعلمْ-يا ولدي-بأنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ, فمَنْ أحسنَ إلى والديه, وحنا عليهما, وبرَّهما, رزقه اللهُ أولادًا يُحسنون إليه ويَبَرُونه، ومَنْ عَقَّ والديه: عُوقب بأولادٍ يَعُقُونَه, ويُنْكِرونَ فضلَه, ويسيؤُونَ إليه.
فعقوقُ الوالدينِ من أعظمِ المشكلاتِ الأُسْريةِ وأخطرِها, والبيتُ الذي فيه عاقٌّ يعيشُ أهلُه في نكدٍ, ولا يستمتعونَ بطعمِ ترابطِ الأُسرةِ وحلاوتِها, ولا يهنؤون بطيبِ العيشِ ولذتِه، فالعاقَّ كدَّر عيشَهم, وأَفسدَ وَحدتَهم, ونغَّصَ حياتَهم.
نسألُ اللهُ-تعالى-أنْ يجزيَ والدينا عنا خيرَ الجزاءِ, ويرحمَهم، ويرزقَنا برَهم أحياءً وأمواتًا, إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.
اللهم صلِ وسلمْ وباركَ على نبيِنا محمدٍ وآلهِ وصحبِه.
[/align]
المرفقات

الإحسان إلى الوالدين-21-12-1437ه-أحمد الطيار-الملتقى بتصرف.docx

الإحسان إلى الوالدين-21-12-1437ه-أحمد الطيار-الملتقى بتصرف.docx

الإحسان إلى الوالدين-21-12-1437ه-أحمد الطيار-الملتقى بتصرف.pdf

الإحسان إلى الوالدين-21-12-1437ه-أحمد الطيار-الملتقى بتصرف.pdf

المشاهدات 1184 | التعليقات 0