الإجازة وطلب العلم
عبدالله يعقوب
الحمد لله جعلَ العلمَ للقلوبِ سروراً، وللعقولِ ضياءً ونوراً، كرّم من طلبه وجَدَّ، وذمَّ من ابتعد عنه وصَدَّ.
وأشهد ألاَّ إله إلاَّ الله الواحد القهار، أنار بالعلم دروب العز والفخار، وشرَّف أهله العاملين به في الديار والأمصار.
والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، من قال الصدق وعمل به، قوله تاج الفخار، ودرة على جبين الزمان والأعصار. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه على ملته وسلم تسليماً كثيراً وبعد...
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
عباد الله
لما بُعث نبيكم r كان أولُ حرف نزل عليه من القرآن قولَ الحق سبحانه (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أهمية العلم في حياة المؤمن، وأن الله تعالى شرفه وكرمه بالعلم.
ونبه القرآن الكريم والسنة المطهرة إلى أهمية التزود من العلم الشرعي في حياة الإنسان. قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). وقال: (وقل رب زدني علماً).
وقال حبيبكم r : ((من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكةَ لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالمَ ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتانُ في جوف الماء، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكب، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياءَ لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلمَ فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) رواه أبو داود.
فيا أهل العلم والفضل، يا مشاعل النور والضياء، يا ذروة المجد، يا نور الزمان، يا غرة الدهر...
هنيئاً لكم الوردَ العذبَ الصافي، والمنهلَ الرويّ الكافي، العلمَ الذي تحملون، والرسالةَ التي تؤدون. فمن مثلكم؟ ومن يقاربكم ويدانيكم؟
ما الفخرُ إلاَّ لأهلِ العلمِ إنهـمُ **** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدرُ كلِّ امرئٍ ما كان يُحسنه **** والجاهلون لأهلِ العلمِ أعـداءُ
ففزْ بعلمٍ تعشْ حيَّاً به أبــداً **** الناسُ موتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
بالعلم عباد الله... تُبنى الأمجاد، وتشيد الحضارات، وتسودُ الشعوب، وتبنى الممالك، بل لا يحقق المسلم العبودية الخالصة لله، أو يقدم لمجتمعه خيراً، أو لأمته عزاً ومجداً ونصراً، إلا بالعلم.
وما فشا الجهل في أمة من الأمم إلاَّ قَوَّض أركانها، وصدَّع بنيانها، وأوقعها في الرذائل، وجنبها الفضائل.
وإن كبيرَ القومِ لا علمَ عنده * * * صغيرٌ إذا التفت عليه المحافلُ
ومن سلك طريقاً يظنه الطريقَ الموصلَ إلى الله تعالى بدون علم، فقد سلك عسيراً، ورام مستحيلاً..
استمع لابن القيم رحمه الله وهو يصف العلم فيقول: "العلمُ حياة في القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، به يُعرف اللهُ ويُعبد، ويُذكر ويوحّد، ويحمد ويمجّد، به اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومنه دخل عليه القاصدون، به تُعرف الشرائعُ والأحكام، وتمييزُ الحلالِ والحرام، وبه تُوصلُ الأرحام، وبه تُعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يُوصل إليه من قريب، هو الصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخُلوة، والأنيسُ في الوحشة، والكاشف عن الشُّبهة، مذاكرته تسبيح، والبحثُ عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل الصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام" انتهى كلامه.
فيا أيها الناس... عليكم بطلب العلم فإنه يوشك أن يأتي على الناس سنوات خداعات يُرفع فيها العلم، ويفشو فيها الجهل، ويصّدق فيها الكاذب ويكذّب فيها الصادق . ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين . وينطق فيها الرويبضةُ الجاهلُ بالشرع، ويفتي فيها المتعالم الذي ليس نصيب في العلم والفقه، يتكلم فيها من يقدم الدنيا على الآخرة، ويقدم سفاسف الأمور وترهاتها على معالي الأمور ومهماتها.
يتكلم في آخر الزمان أقوام يصدون عن طلب العلم ويزهدون فيه. يرون طلبه ضياعاً للأوقات، وهدراً للجهود والمكتسبات، ويقدمون علوم الدنيا ومعارفَها على علوم الشريعة وحقائقِها.
العلم لديهم.. علم الغرب الكافر، والحضارة حضارتهم، وأما علوم أهل الإسلام فلا قيمة لها عندهم.
ومن المؤسف حقاً أنك ترى في هذا الزمان انصرافاً عجيباً عن طلب العلم الشرعي من جميع طبقات المجتمع.
ولذا يمر بك أخطاء عقدية وفقهية يقع فيها بعض الناس نتيجة لفقدان العلم الشرعي.
وتخيلوا يا رعاكم الله أن في بلد التوحيد ومهبط الوحي يوجد أناس لا يحسنون الوضوء والصلاة.
والبعض لا يعرف مفطرات الصيام. أو نواقض الإسلام.
فيشرّق ويغرّب وربما يخرج من الإسلام ويدخل وهو لا يدري.
كل ذلك نتيجة حتمية للبعد عن العلم الشرعي... والله المستعان.
أيها الأحبة: وإنما جاء التنبيه إلى أهمية العلم الشرعي في هذا الوقت: لأنه سيبدأ بإذن الله تعالى في أسبوع الإجازة هذا.. العديدُ والكثير من الدورات العلمية النافعة للناس. لا نقول الدورات.. الرياضية، أو الفنية، كلا كلا أيها الناس. ولكن الدورات العلمية التي تفسر كلامَ الله وتبين سنةَ سول الله r.
فيها يرفع المرءُ عن نفسه الجهل. ويتسلح بالعلم. ويتزود بالتقوى.
ويتأدب بالهدي الحسن والسمت الصالح للعلماء ورثة الأنبياء.
تقام هذه الدورات في طول البلاد وعرضها.. حتى لا يكاد يخلو منها بلد.. وفي بلد الله الحرام العديد منها.
فيا أخي المسلم احرص على أمثال هذه الدورات العلمية وشارك فيها، وأحضر كراساً وقلماً، ودوّن ما استطعت من العلوم الشرعية المباركة. وكن طالب علم حتى تدخل في الفضل العظيم والثواب الجزيل لمن طلب العلم (وإن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير).
وإن لم يكن لك ميل إلى العلم الشرعي.. فلا أقل من تكثير سواد المسلمين، وحضورُ أمثال هذه الدورات النافعة لا يخلو من الفائدة قطعاً.. فلعلك تسمع شيئاً نافعاً أو كلمة مفيدة.. وقد قيل لابن المبارك رحمه الله: إلى متى تطلب العلم؟ قال: لعل الكلمة التي ينفعني الله بها لم أسمعها حتى الآن. فما يدريك لعل كلمة تسمعها ينفعك الله بها طوال سني عمرك.
أما السبب الثاني الذي لأجله نتحدث عن أهمية العلم فهو كثرةُ الدعواتِ الآثمةِ الخاطئةِ إلى مشاهدةِ وحضورِ ما لا ينفع ولا يفيد من فعالياتٍ ترفيهية أو مباريات كروية أو قاعات سينمائية.
وفي هذا ضياعٌ عظيمٌ للأوقات، يسأل عنه المسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقد صح عنه r أنه قال: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها) أخرجه الطبراني.
فالحذر الحذر أخي المسلم من إضاعة الأوقات فيما يعود عليك بالخسارة يوم القيامة، وقد قال حبيبك r: (نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة الفراغ)
هذا عدا الخسائر المالية والهدر الاقتصادي وإضاعة ساعات العمل، وتضييع رعاية الأسرة. وما في ذلك أيضاً من أمراض متنوعة كضغط الدم والسكر.
وأخيراً العودة بخفي حنين، فهو كالمنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. ونفعنا بهدي سيد المرسلين..
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه كان غفارا..
الخطبة الثانية:
أخي طالب العلم دونك حبل النجاة فالزمه، إليك ضوابطَ مهمةٍ في سبيل الطلب، لا بد من الأخذ بها حتى تكون على الجادة، متبعاً للنبلاء السادة، ذوي الفهم والدراية والإفادة:
عليك بتصحيح النية، فالأعمال بالنيات، والنيةُ مطية. فإنْ فَقَدَ العلمُ إخلاصَ النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات، ولا شيء يحطم العلمَ مثل: الرياء والتسميع..
وعليه؛ فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب؛ كحبِ الظهور، والتفوقِ على الأقران، وجعله سُلماً لأغراضٍ وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرفِ وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية، أفسدتها، وذهبت بركة العلم، والله المستعان.
أيها المسلمون: لعلكم شاهدتم يا رعاكم الله فرحَ بعضِ أبناء المسلمين بانتهاء الدراسة، والخلاص، نعم الخلاص منها، والتنعم بالإجازة بعيداً عن العلم ومؤسساته!
أليس هذا هو الحاصل ؟ فمن أين جاء هذا الخلل الكبير في كره وبغض العلم؟ لذلك أسباب كثيرة لا شك.. رأسها وأسها فقد الإخلاص في طلب العلم.
إنها الحقيقةُ المرة يوم تغيّرت النيات، وأصبح العلم لينال به الرتب، وتستلم به الشهادات، ويرتقى به في درجات الوظائف والمرتبات، أصبح العلم هنا ثقيلاً...!
وإلاَّ فقد طلبه أسلافنا في حرّ الرمضاء، وفي الليالي الظلماء، لحافُ بعضهم أديمُ السماء، وفراشُه الغبراء، ومع ذلك.. لذتهم فيه لا توصف، ونهمهم منه لا ينتهي...... لم؟
لأنهم طلبوه لله، لا لغيره، طلبوه ليكشفوا عن وجوههم أقنعةَ الجهل، ويخلعوا عن أكتافهم أرديةَ الجهالات.
فالله الله، اطلب العلم بإخلاص وتجرّد، واللهُ يسدّدك ويؤيدك، ومن ثَمَّ إن كنت تريد فهو عزيز المنال، يلزم أن تحسن فيه المقال، وأن تزين بأخلاق العلم، وأن ترتدي لبوس العلماء، كن صبورًا، ذا خلق رفيع، فلن ينال العلم مستكبرٌ ولا أحمق، ولتعلم بل ليعلم الجميع أنَّ الأمةَ والأجيالَ الناشئة إذا لم تقدر معلميها ومربيها فعلى الأمة السلام.
اجعل أمام ناظريك قول حبيبك r: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)، واجعل في سويداء قلبك قول ربك: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ)، جدّ واجتهد، ولا يغرنك كثرة البطَّالين؛ وتذكر قول القائل: "من لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة".
وصلوا وسلموا رحمكم الله على أفضل خلق الله محمد بن عبدالله..