الإبراهيمية
عبدالله القاضي
أما بعد:
فخُطْبتي هذه إليكم في قاعدة، ومثال.
أما القاعدة، فهي من آخر ما أوصى به نبينا ﷺ، في أعظم خطبة خطبها، خطبةِ الوداع، إذ قال ﷺ: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله».
تتبدل الآراء، وتتغير الأفكار، وتتقلب المذاهب، ويخفى الصواب، ويبقى كلام الله تعالى، الذي تكفّل هو بحفظه، يبقى هو العصمة لمن أراد النجاة، وهو العروة الوثقى لمن تمسك به.
هو الميزان الذي توزن به الآراء، والمعيار الذي تُحاكم إليه الأقوال، والوسط الذي من جاوزه فهو غال متطرِّف، ومن قصّر عنه فهو مفرِّط متطرف أيضا:
﴿يا أيها الناس! قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، قل بفضل وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون﴾.
أما المثال:
فهو تلبيس أصبحنا نسمع به اليوم، يثيره أعداء الله وأعداء رسله صلوات الله وسلامه عليهم، تلبيس يراد به تغيير عقيدة المسلمين، لمآرب دينية واستعمارية.
إنها الدعوة التي أصبحت تسمى (الإبراهيمية)، نسبةً إلى خليل الرحمن إبراهيم u، و﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
دعوة يراد بها خلط الحق بالباطل، ومزج التوحيد بالشرك، ليكونا دينا واحدا! وهل يجتمع الضدان؟
أي اجتماع واتحاد يكون بين دين يقرأ أهله ﴿قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد﴾ ودين يعتقد أهله أن إلههم ثلاثة، وأنه مولود؟!
بين دين يؤمن أهله بأن محمدا رسول الله، وأديان يكفر أهلها برسول الله.
إنها أضداد لا تجتمع، إلا في حال واحدة، أن يستغفل بعض المنتمين إلى الإسلام، لبعدهم عن كتاب الله، وإعراضهم عن تحكيمه، فيصدقوا هذه الخدعة.
هنا أيها المسلمون يأتي الاعتصام بالقرآن، وطلب الهدى منه، وإلقاء الأسئلة عليه، والتماس الجواب منه.
إذا رجعنا إلى كتاب الله تعالى، وجدناه صريحا بيّنا، فكتاب الله -كما أنه يدعونا إلى الإحسان حتى إلى الكفار الذين لم يقاتلوننا ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، ويوجب علينا العدل، حتى من اعتدى علينا ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ويلزمنا الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، مع هذا كله، فكتاب الله تعالى يوجب علينا الوضوح التامّ في دعوتنا، ويحرم اللبس والتلبيس، وخلط الباطل بالحق:
استمعوا إلى وضوح القرآن وصراحته:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)﴾.
أرأيتم يا عباد الله، وضوح في وصفهم بالكفر، وبراءة جليّة مما يعبدون من الآلة الباطلة، وتصريح بأنهم مع شركهم لا يعبدون الله حقا، فإن العبادة لا تسمى عبادة مع الشرك، وتكرار لهذه الوضوح، ثم ختام باستقلال كل دين وانفصاله عن الآخر.
وفي آية أخرى، يقول الحق تعالى:
﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.
قف مع كل كلمة من كلام الله: ماذا تفهم من كلمة (تعالوا)، إنها دعوة لهم للانتقال من موقعهم الحاليّ، موقع الشرك والكفر إلى موقع الكلمة السواء، ومعنى (سواء) أي مستوية، مستقيمة، معتدلة، يفسرها ما بعدها: (أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله).
ثم تأكيد على هذه الدعوة (تعالوا) بـ(اشهدوا) أي: اعلموا بوضوح (بأنا مسلمون)، فإن أبيتم إلا الشرك والتكذيب فإننا على منهج آخر، هو الإسلام لرب العالمين.
أما إبراهيم u فكان أبعد الناس عن التلبيس، وخلط الباطل بالحق، حتى اختاره الله تعالى ليكون قدوة لكل مؤمن في هذا الوضوح:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
---
أيها المسلمون:
دعوتنا دعوة حكمة، ولكنها دعوة بيان: ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ في سبع آيات في القرآن.
واللبس والخلط بين الحق والباطل هلاك للجميع؛ وتشويه للحق، وصد عن سبيل الله.
أما إبراهيم u، الذي هو أفضل البشر بعد محمد ﷺ، فقد ذكره القرآن ثلاثا وستين مرة، من هذه الآيات:
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.
قف عند (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ منهم) فلا أحد من الأمم يؤمن بجميع رسل الله إلا المسلمون، اليهود يكفرون بعيسى ومحمد، وحاولوا قتل عيسى فرفعه الله إليه، وحاولوا قتل محمد ﷺ مرارا، وقال ﷺ في مرضه الذي مات فيه: «يا عائشة! ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» الذي سمّته المرأة اليهودية، وقتلوا قبل ذلك من الأنبياء ما ذكره القرآن في عدد من الآيات، والنصارى أيضا لا يؤمنون بمحمد ﷺ، وأمة محمد ﷺ وحدها هي التي تؤمن بجميع رسل الله، عليه من ربهم الصلاة والسلام.
ويقول تعالى:
﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)﴾.
ويقول تعالى:
﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)﴾.
الآيات كثيرة، وهي بيّنة واضحة: أن دين إبراهيم هو التوحيد، وهو دين الأنبياء كلهم، ولكن الذين كفروا من أهل الكتاب هم أبعد الناس عنه، بل هم أعداؤه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)﴾.
عودا على بدء:
«وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله».