الأولويات في حياتنا

عبدالله حمود الحبيشي
1439/06/05 - 2018/02/21 05:53AM
الخطبة الأولى ..

إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ..
عباد الله .. لمَّا بعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذَ بنَ جبلٍ إلى نحوِ أهلِ اليمنِ ، قال له (إنك تَقْدُمُ على قومٍ مِن أهلِ الكتابِ ، فلْيَكُنْ أولَ ما تدعوهم إلى أن يُوَحِّدوا اللهَ تعالى ، فإذا عَرَفوا ذلك ، فأَخْبِرْهم أن اللهَ فرَضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في يومِهم وليلتِهم ، فإذا صَلَّوْا فأَخْبِرْهم أن اللهَ افتَرَضَ عليهم زكاةً في أموالِهم ، تُؤْخَذُ مِن غِنِيِّهم فتُرَدُّ على فقيرِهم ، فإذا أَقَرُّوا بذلك فخُذْ منهم ، وتَوَقَّ كرائمَ أموالِ الناسِ ) .

هل تأملنا في هذا التوجيه الدقيق من النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وهذا التسلسل المتقن له في دعوته .. أول ما تدعوهم .. إنه فقه الأولويات .. مبدأ عظيم من مبادئ إدارة الذات ، بل إدارة كل شيء .. إنه مبدأ حَرصَ عليه الإسلام ليكون أساسا في حياة المسلم، وفي كل شؤونه صغيرها وكبيرها ، بل لا تستقيم الحياة ، ولا يتحقق النجاح إذا فُقد هذا المبدأ .
فقه الأولويات هو تقديم الضروريات على الحاجيات ، والحاجيات على الكماليات .. البدء بالأهم قبل المهم ، وبالمهم قبل الأقل أهمية.
فقه الأولويات : هو وَضّعُ كُلُ شيءٍ في مرتبته ، فلا يؤخر ما حقه التقديم ، أو يقدم ما حقه التأخير ، ولا يصغر الأمر الكبير ، ولا يكبر الأمر الصغير .
والشواهد على عناية الشريعة بفقه الأولويات كثيرة .. أوضحها وأصرحها وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بذكر أوجب ما يجب على المسلم وهو توحيد الله .. ثم إقامة الصلاة وهي عمود الدين ثم تأتي الشرائع تباعا .

إن أولى الأوليات هي إنقاذ نفسك يا عبدالله من النار والسعي لنجاتها وفلاحها وتزكيتها .. قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) .
وخاطب النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته وأهله فأنذرهم حتى قال (يا فاطمةُ ! أنقذِي نفسَكِ منَ النارِ . فإني لا أملكُ لكُم منَ اللهِ شيئًا) وهذا أساس في ترتيب الأوليات بأن يحرص الإنسان على صلاح نفسه ، وفكاكها من النار ، ثم يدعوا غيره .

في فقه الأولويات يجب أن تكون الفرائض مقدمة على النوافل لقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه" .
وكذلك الفرائض لها أولويات فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل؟! قال (الصلاة على وقتها) قلت : ثمَّ أي؟! قال (برُّ الوالدين) قلت : ثمَّ أي؟! قال (الجهاد في سبيل الله) .
وكل ما ذكر هي فرائض وواجبه على المسلم ولكن رتبها النبي صلى الله عليه وسلم حسب الأولوية .

وفي العلاقات الاجتماعية والفضل للإسلام فيها أولوية .. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال (أمك) قال : ثم من ؟ قال (أمك) قال : ثم من؟ قال (أمك) قال : ثم من ؟ قال (أبوك ثم أدناك فأدناك) .
إنه بيان واضح لأحق الناس بالتقديم والصحبة والفضل .. إن معرفة هذه الأولية للأم جعلت الزوج يُقدم أمه وأباه على زوجته وأبنائه بشرب اللبن بل يقف منتظرا طوال الليل وأبناؤه عنده يصيحون فلا يطعمهم حتى طلع الفجر وشربت أمه وأباه .. وكان لهذا الصنيع فرج له من كرب عظيم .
معرفتنا بهذه الأولوية للأم تجعلنا نعرف مكانتها مع مكانة الأب والزوجة والأبناء فضلا عن الأقرباء والأصحاب والزملاء ..

وفي النفقات أولوية رتبها عليه الصلاة والسلام بقوله "وابدأ بمن تعول" .
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أعطى اللهُ أحدكم خيرًا فليبدأ بنفسِه وأهلِ بيتِه) .
وقال صلى الله عليه وسلم مؤكد هذه الأولوية في الترتيب (إذا كان أحدُكم فقيرًا، فلْيبدأ بنفسه، فإن كان فضلًا فعلى عياله، فإن كان فضلًا فعلى قرابتِه، أو على ذي رحمِه، فإن كان فضلًا فههنا وههنا).

عباد الله .. ومن أعجب ما يدخل فيه فقه الأولويات .. ترتيب الفرائض والواجبات إذا تعارضت مع المصالح العامة والنفع المتعدي.
يقول أبو سعيدٍ الخُدريّ رضي اللهُ عنه : سافرْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى مكةَ ونحن صيامٌ –يعني في رمضان- فنزلْنا منزلًا فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ (إنكم قد دنَوتُم من عدوِّكم والفطرُ أقْوى لكم) فكانت رخصةً ، فمنا من صام ومنا من أفطرَ ثم نزلنا منزلًا آخرَ فقال عليه الصلاة والسلام (إنكم مُصبِّحوا عدوِّكم والفطرُ أقوى لكم فأفطِروا) وكانت عَزمةً فأفطرْنا.
وفي حديث آخر يقول أنس بن مالك رضي الله عنه كنا معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، أكثَرُنا ظِلًّا الذي يَستَظِلُّ بكِسائِه –من شدة الحر- ، وأما الذين صاموا فلم يَعمَلوا شيئًا ، وأما الذين أفطَروا فبعَثوا الرِّكابَ وامتَهَنوا وعالَجوا ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (ذهَب المُفطِرونَ اليومَ بالأجرِ) .

إن للنفع المتعدي أولوية في ديننا مع الفرائض فكيف هو مع النوافل واسمعوا قوله عليه الصلاة والسلام (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ ، و أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً ، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا ، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ -يعني مسجدَ المدينةِ- شهرًا) .
وقال صلى الله عليه وسلم (ألا أُخبركم بأفضلَ من درجةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقةِ) ؟ قالوا : بلى قال (إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ) لقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم في أجر الإصلاح بين المتخاصمين على أجر النفل في الصيام والصلاة والصدقة .

نسأل الله أن يفقهنا في ديننا ..

الخطبة الثانية ..

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..

أما بعد .. إن غياب فقه الأولويات في حياة المسلم يجعله يقع في الخطأ أو في الخلط بين الأمور .. وهذا ما وقع للصحابي الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه فقد صح في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم آخَى بين سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ ، فزار سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأَى أمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فقال لها : ما شأنُك ؟ قالتْ : أخوك أبو الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدنيا فجاء أبو الدَّرداءِ ، فصنَع له طعامًا، فقال سلمان لأبي الدرداء : كُلْ ، قال : فإني صائمٌ، قال : ما أنا بآكِلٍ حتى تأكُلَ ، قال : فأكَل ، فلما كان الليلُ ذهَب أبو الدَّرداءِ يقومُ ، قال : نَمْ ، فنام، ثم ذهَب يقومُ ، فقال : نَمْ ، فلما كان من آخِرِ الليلِ ، قال سَلمانُ : قُمِ الآنَ، فصلَّيا، فقال له سَلمانُ : إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفْسِك عليك حقًّا ، ولأهلِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه –هذا هو ترتيب الأولويات- ، فأتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَر ذلك له ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : صدَق سَلمانُ .

وكذلك قص علينا صلى الله عليه وسلم أوضح مثال لعاقبة الإخلال في ترتيب الأولويات بما حدث لجُرَيج العابد عندما قدّم الأولوية لعمل صالح مرجوح على عمل صالح آخر أرجح ، حيث قدم الاستمرار في صلاته ولم يلبّ نداء أمه ثلاثاً فأغضبها ودعت عليه دعوة استجاب الله لها فيها .

وأعظم ذلك خطرا إذا فقد المسلم فقه الأولويات وخلط بين الدنيا والآخرة ، فقدم الفاني على الباقي يقول عليه الصلاة والسلام (ومَن كانت الدنيا هَمَّه) لها الأولوية الأولى فإذا جات العبادة في وقت اجتماع مثلا قدم الاجتماع وإذا جاءت صفقة تجارية فيها أرباح عالية ولكنها تُخالف أمر الله قدم الأرباح على حساب الحلال والحرام .. (ومَن كانت الدنيا هَمَّه جعل اللهُ فقرَه بين عَيْنَيْهِ ، وفَرَّق عليه شَمْلَه، ولم يَأْتِهِ من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له) .

هذا هو فقه الأولويات وشيء من تطبيقاته في شريعتنا .. والسؤال بعد ذلك : ما هي الأولويات في حياتنا ؟
أين يقع الإيمان والتوحيد في ترتيب الأولويات والحرص عليها .
ما هو ترتيب العبادة في زحمة الدنيا ومشاغلها .
هل نحن ممن أولوياته الاستيقاظ لصلاة الفجر أم يكون المنبه على وقت العمل والدراسة .
نسأل الله أن يجعلنا ممن همه الآخرة وأن يوفقنا لطاعته ورضاه
المشاهدات 6109 | التعليقات 0