الأمير الأسير-10-7-1438ه-سامي الحمود-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1438/07/10 - 2017/04/07 05:20AM
[align=justify]
أما بعدُ: فالحديثُ اليومَ عن (الأميرِ الأسيرِ).
فمن هو هذا الأميرُ؟ ولماذا أُسِرَ؟ وكيف كان حالُه في الأسرِ؟
بعثَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-خيلًا قِبَل نجدٍ-أرسلَ سريةً استطلاعيةً ناحيةَ نجدٍ-بقيادةِ محمدِ بنِ مسلمةَ-رضي اللهُ عنه-، فمرَّت السريةُ برجلٍ من بني حنيفةَ يُقال له: ثُمامةُ بنُ أُثالٍ، كان في طريقِه إلى العمرةِ وهو على الشركِ، فقبضتِ السريةُ عليه، وأُحضرَ إلى المدينةِ، وربطه الصحابةُ في ساريةِ من سواري المسجدِ-عمودٍ-وهم لا يعرفونه، فلما دخل النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-المسجدَ عرف ثُمامةَ، فقال لهم: أَلاَ تَعرِفُونَ مَنْ هَذَا؟!، إِنِّهَ ثُمَامةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ اليَمَامَة، وأمر-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-أصحابَه أنْ يُحسنوا إليه.
ومرَّ النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-بثُمامةَ فقال له: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامةُ؟", فقال: عندي يا محمدُ خيرٌ، إنْ تَقْتلْ تَقْتلْ ذا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكرٍ-إنْ قتلْتني فلن يضيعَ دمي، فأنا أمير، وأهلي وقبيلتي سيأخذون بثأري، وإنْ عفوتَ عني فلنْ أنسى معروفَك وإحسانَك-وإنْ كنتَ تريدُ المالَ فسلْ تُعْطَ منه ما شئتَ، فتركه النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-حتى كانَ الغدُ, فقال له: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ؟", فقالَ له مثلَ ما قالَ، فتركه رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، حتى كانَ اليومُ الثالثُ فقالَ له مثلَ ما قالَ، فقالَ النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-: "أَطْلِقُوا ثُمَامةُ"، فأطلقه الصحابةُ، فانطلقَ ثمامةُ إلى نخلٍ قريبٍ من المسجدِ النَّبويِ، فاغتسلَ، ثم دخلَ المسجدَ، وقالَ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، يا رسولَ اللهِ، واللهِ ما كانَ على الأرضِ وجهٌ أبغضَ إليَّ من وجهِك، فقدْ أصبحَ وجهُك أحبَّ الوجوهِ كُلِّها إليِّ، واللهِ ما كانَ من دينٍ أبغضَ إليَّ من دينِك، فأصبحَ دينُك أحبَّ الدينِ كلِّهِ إليَّ، واللهِ ما كانَ مِنْ بلدٍ أبغضَ إليَّ مِنْ بلدِك، فأصبحَ بلدُك أحبَّ البلادِ كلِّها إليَّ، وإنَّ خيلَك أخذتْني وأنا أريدُ العمرةَ فماذا تأمرُني؟, فبشره النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-وأمرَه أنْ يعتمرَ، فلما قدمَ مكةَ، قالَ له قائلٌ: أصبوتَ؟ قالَ: "لا, ولكنى أسلمتُ مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، واللهِ لا يأتيكم من اليمامةِ حبةُ حِنطةٍ حتى يأذنَ فيها رسولُ الله-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-".
قصَّةٌ عظيمةٌ، وحادثةٌ مؤثرةٌ، فيها الكثير من الدروس والعبر، ومنها:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، هكذا كانَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-رحمةً ونعمةً، لا للموحِّدين فحسبُ، بل لكلِّ العالمينَ، فلمْ يكُنْ متجبرًا ولا متسلطًا، ولا متعطشًا لسفكِ الدماءِ، ولم يكُنْ ينتقمُ لنفسِه، أو يتشفَّى من خصمِه-ولو كان أسيرًا مربوطًا بين يديه-بل كان همهُ الأولُ أنْ يُنقذَ اللهُ به العبادَ من النارِ، وأنْ تُؤمنَ نفوسُهم باللهِ الواحدِ القهارِ، قالَ ابنُ عباسٍ-رضيَ اللهُ عنهما-: "رسولُ اللهِ رحمةٌ للبَّرِ والفاجرِ، فمنْ آمنَ به تمتْ له النعمةُ، وتمتْ له الرحمةُ في الدنيا والآخرةِ، ومن كفرَ به أَمِنَ من عذابِ الدنيا حتى يلقى اللهَ في الآخرةِ؛ تصديقًا لقولِ الله-تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)".
الرفقُ والإحسانُ مفتاحُ القلوبِ: تدبروا كيف حَوَّل رفقُه وإحسانُه-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-البُغضَ في قلبِ ثُمامةَ إلى حبٍ جيَّاشٍ فياضٍ، ما أحْوَجَنا إلى أن نعيَ هذا الدرسَ, إنَّ العُنْفَ يهدمُ ولا يبنى، والشِّدةَ تُفسدُ ولا تُصلحُ, إنَّ الرفقَ والإحسانَ هو الذي يفتحُ القلوبَ، ويُؤَثِّرُ في النفوسِ.
فيا أيها المسلمُ المبتعثُ أو المسافرُ إلى بلادِ الكفارِ: إياكَّ أنْ تَصدَّ الناسَ عن دينِ اللهِ بسوءِ خُلقِكَ وتعاملِك.
ويا أيها الشابُ المهتدي الذي شرحَ اللهُ صدرَه للدينِ: عليك بالرفقِ والإحسانِ، وإياكَ والعنفَ والإساءةَ إلى والديك أو أهلِك أو أقاربِك، وإن كانوا بعيدين عن الدينِ، وتذكر أنَّ دعوةَ الناسِ إلى الخيرِ تحتاجُ إلى الحلمِ والصبرِ، والحكمةِ والرحمةِ.
لقد قرأَ قتادةُ-رحمه الله-قولَه تعالى-: "(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، فبكى وقال: سبحانَك ما أحلمَك، أنْ كنتَ تأمرُ موسى وهارونَ أن يقولا لفرعونَ قولًا لينًا، فإنْ كانَ هذا هو حلمُك بفرعونَ الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، فكيف يكونُ حلمُك بعبدٍ قال: سبحانَ ربيَ الأعلى؟!".
عن معاويةَ بنِ الحكمِ-رضي اللهُ عنه-قالَ: "بينما أنا أُصلي مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-إذ عطسَ رجلٌ من القومِ فقلتُ: يرحمُك اللهُ, فرماني القومُ بأبصارِهم فقلتُ: وَاثُكْلَ أُميَاه!، ما شأنُكم تنظرونَ إليَّ، فجعلوا يضربونَ بأيدِهم على أفخاذِهم، فلما رأيتُهم يُصَمِّتُونَني سَكَتُ، فلما صلى رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-بأبي هو وأمي، ما رأيتَ مُعَلِّمًا قبلَه ولا بعدَه أحسنَ منه تعليمًا، فواللهِ ما كَهَرَنَي ولا ضَرَبَني ولا شَتَمنَي وإنما قالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ".
وعن أبي هريرةَ وأنسٍ-رضي اللهُ عنهما-قالا: "بينما نحنُ في المسجدِ مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-إذ جاءَ أعرابيٌ فقامَ يبولَ في المسجدِ فقالَ الصحابةُ: مهْ مهْ-ماذا تصنعُ؟-فقال-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-: "لَا تُزْرِمُوهُ-لا تقطعوا عليه بولَه فيتأذى-, دَعُوهُ", فتركوه حتى بالَ، ثم نادى عليه وقالَ له: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ-عزَّ وجلَّ- وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ", فقالَ الأعرابيُ: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال له النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-: "لقد حَجَّرْتَ واسعًا-ضيقتَ رحمةَ اللهِ التي وسعتْ كلَّ شيءٍ-"
هكذا كانت أخلاقُه-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، إنَّ المنهجَ النظريَّ في التربيةِ والأخلاقِ سيظلُ حِبرًا على ورقٍ، لا يستفيدُ الناسُ منه، إذا لمْ يتحولْ إلى واقعٍ عمليٍّ ومنهجٍ سلوكيٍّ في حياة الناس، أستغفرَ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
أما بعد: فلماذا يبغضُ كثيرُ من الكفارِ الإسلامَ؟
تقدَّم في القصةِ أنَّ ثُمامةَ-رضي اللهُ عنه-قَبْل إسلامِه كانَ مبغضًا النبيَّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-والإسلامَ، فما سببُ بغضِ كثيرُ من الكفارِ للإسلامِ؟، الكفارُ المبغضونَ ليسوا سواءً، هناك فئةٌ جاحدةٌ معاندةٌ، تعرفُ الإسلامَ جيدًا، وتعاديِه وتعادي المسلمينَ قصدًا وعدوانًا، وتمسكًا بعقائدِها المنحرفةِ, ومصالحِها الدنيويةِ، وهناك فئةٌ أخرى تعادي الإسلامَ لأنها لم تعرفْ حقيقةَ الإسلامِ، فصورةُ الإسلامِ عندها مشوهةٌ مُحرَّفةٌ، بسببِ الدعاياتِ الإعلاميةِ المغرضةِ، وحملاتِ التشويهِ العالميةِ للإسلامِ.
إنه لا بد من تغييرِ هذه الصورةِ المزيفةِ، وتصحيحِ المفاهيمِ، وتقديمِ الصورةِ الحقيقيةِ للإسلامِ بسماحتِه وعدالتِه، دونَ تَمييعٍ أو تنازلٍ, بأنْ نعودَ-نحنُ المسلمينِ-إلى الإسلامِ، ونحوِّلَه بسموِه وعظمتِه إلى منهجِ حياةٍ بتطبيقِه في الواقعِ، ونقولَ لكلِّ الناسِ بحالنِا وأخلاقِنا-دون كلامٍ-: هذا هو ديننا، فإن القول يصبح زورًا وكذبًا إذا خالفَ الواقعَ والعملَ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، إنَّ ما فعله النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-مع ثمامةَ من رفقٍ وطيبِ لسانِ، وعفوٍ وإحسانٍ، كانَ كفيلًا أن يُذهِبَ كلَّ البُغضِ والكراهيةِ في نفسِ ثمامةَ، لتتحولَ إلى حُبٍ جارفٍ وقناعةٍ تامةٍ، وقبولٍ لهذا الدينِ.
وأخيرًا: البشارة للتائبين: فقدْ بشَّرَ النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-ثُمامةَ لما أسلمَ، بشرهُ بخيري الدنيا والآخرةِ، وبشَّره بالجنة، ومحوِ ذنوبِه وسيئاتِه، فما أعظمَ هذه البشارةَ، وما أعظمَ التوبةَ التي حوَّلت هذا السيدَ الأميرَ، ثُمامةَ بنَ أُثالٍ، من عدوٍ مبغضٍ للهِ ورسولِه-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-ودينِه، إلى صحابيٍ جليلٍ، لم يزلْ على إسلامِه، وثبتَ عليه لما ارتدَ كثيرٌ من قومِه من أهلِ اليمامةِ بعدَ وفاةِ النبيِّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، ثم ارتحلَ هو ومن أطاعَه من قومَه فلحقوا بالعلاءِ بنِ الحضرميِ-رضي اللهُ عنهم-فقاتلَ معه المرتدينَ من أهلِ البحرينِ-المَنْطِقَةِ الشرقيةِ-حتى قُتلَ.
فالتوبةَ التوبةَ أيها المذنبون، وكلُّنا مذنبون, يامنْ أثقلتْه الذنوبُ, وصدَّتْه عن اللهِ-علامِ الغيوبِ-, تُبْ إلى اللهِ توبةً نصوحًا دائمًا وأبدًا، وأبشرْ بالعفوِ والمغفرةِ, وأبشرْ بخيري الدنيا والآخرةِ, وأبشرْ بدخولِ الجناتِ، وغفرانِ السيئاتِ، وتبديلِها حسناتٍ, (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
[/align]
أما بعدُ: فالحديثُ اليومَ عن (الأميرِ الأسيرِ).
فمن هو هذا الأميرُ؟ ولماذا أُسِرَ؟ وكيف كان حالُه في الأسرِ؟
بعثَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-خيلًا قِبَل نجدٍ-أرسلَ سريةً استطلاعيةً ناحيةَ نجدٍ-بقيادةِ محمدِ بنِ مسلمةَ-رضي اللهُ عنه-، فمرَّت السريةُ برجلٍ من بني حنيفةَ يُقال له: ثُمامةُ بنُ أُثالٍ، كان في طريقِه إلى العمرةِ وهو على الشركِ، فقبضتِ السريةُ عليه، وأُحضرَ إلى المدينةِ، وربطه الصحابةُ في ساريةِ من سواري المسجدِ-عمودٍ-وهم لا يعرفونه، فلما دخل النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-المسجدَ عرف ثُمامةَ، فقال لهم: أَلاَ تَعرِفُونَ مَنْ هَذَا؟!، إِنِّهَ ثُمَامةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ اليَمَامَة، وأمر-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-أصحابَه أنْ يُحسنوا إليه.
ومرَّ النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-بثُمامةَ فقال له: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامةُ؟", فقال: عندي يا محمدُ خيرٌ، إنْ تَقْتلْ تَقْتلْ ذا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكرٍ-إنْ قتلْتني فلن يضيعَ دمي، فأنا أمير، وأهلي وقبيلتي سيأخذون بثأري، وإنْ عفوتَ عني فلنْ أنسى معروفَك وإحسانَك-وإنْ كنتَ تريدُ المالَ فسلْ تُعْطَ منه ما شئتَ، فتركه النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-حتى كانَ الغدُ, فقال له: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ؟", فقالَ له مثلَ ما قالَ، فتركه رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، حتى كانَ اليومُ الثالثُ فقالَ له مثلَ ما قالَ، فقالَ النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-: "أَطْلِقُوا ثُمَامةُ"، فأطلقه الصحابةُ، فانطلقَ ثمامةُ إلى نخلٍ قريبٍ من المسجدِ النَّبويِ، فاغتسلَ، ثم دخلَ المسجدَ، وقالَ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، يا رسولَ اللهِ، واللهِ ما كانَ على الأرضِ وجهٌ أبغضَ إليَّ من وجهِك، فقدْ أصبحَ وجهُك أحبَّ الوجوهِ كُلِّها إليِّ، واللهِ ما كانَ من دينٍ أبغضَ إليَّ من دينِك، فأصبحَ دينُك أحبَّ الدينِ كلِّهِ إليَّ، واللهِ ما كانَ مِنْ بلدٍ أبغضَ إليَّ مِنْ بلدِك، فأصبحَ بلدُك أحبَّ البلادِ كلِّها إليَّ، وإنَّ خيلَك أخذتْني وأنا أريدُ العمرةَ فماذا تأمرُني؟, فبشره النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-وأمرَه أنْ يعتمرَ، فلما قدمَ مكةَ، قالَ له قائلٌ: أصبوتَ؟ قالَ: "لا, ولكنى أسلمتُ مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، واللهِ لا يأتيكم من اليمامةِ حبةُ حِنطةٍ حتى يأذنَ فيها رسولُ الله-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-".
قصَّةٌ عظيمةٌ، وحادثةٌ مؤثرةٌ، فيها الكثير من الدروس والعبر، ومنها:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، هكذا كانَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-رحمةً ونعمةً، لا للموحِّدين فحسبُ، بل لكلِّ العالمينَ، فلمْ يكُنْ متجبرًا ولا متسلطًا، ولا متعطشًا لسفكِ الدماءِ، ولم يكُنْ ينتقمُ لنفسِه، أو يتشفَّى من خصمِه-ولو كان أسيرًا مربوطًا بين يديه-بل كان همهُ الأولُ أنْ يُنقذَ اللهُ به العبادَ من النارِ، وأنْ تُؤمنَ نفوسُهم باللهِ الواحدِ القهارِ، قالَ ابنُ عباسٍ-رضيَ اللهُ عنهما-: "رسولُ اللهِ رحمةٌ للبَّرِ والفاجرِ، فمنْ آمنَ به تمتْ له النعمةُ، وتمتْ له الرحمةُ في الدنيا والآخرةِ، ومن كفرَ به أَمِنَ من عذابِ الدنيا حتى يلقى اللهَ في الآخرةِ؛ تصديقًا لقولِ الله-تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)".
الرفقُ والإحسانُ مفتاحُ القلوبِ: تدبروا كيف حَوَّل رفقُه وإحسانُه-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-البُغضَ في قلبِ ثُمامةَ إلى حبٍ جيَّاشٍ فياضٍ، ما أحْوَجَنا إلى أن نعيَ هذا الدرسَ, إنَّ العُنْفَ يهدمُ ولا يبنى، والشِّدةَ تُفسدُ ولا تُصلحُ, إنَّ الرفقَ والإحسانَ هو الذي يفتحُ القلوبَ، ويُؤَثِّرُ في النفوسِ.
فيا أيها المسلمُ المبتعثُ أو المسافرُ إلى بلادِ الكفارِ: إياكَّ أنْ تَصدَّ الناسَ عن دينِ اللهِ بسوءِ خُلقِكَ وتعاملِك.
ويا أيها الشابُ المهتدي الذي شرحَ اللهُ صدرَه للدينِ: عليك بالرفقِ والإحسانِ، وإياكَ والعنفَ والإساءةَ إلى والديك أو أهلِك أو أقاربِك، وإن كانوا بعيدين عن الدينِ، وتذكر أنَّ دعوةَ الناسِ إلى الخيرِ تحتاجُ إلى الحلمِ والصبرِ، والحكمةِ والرحمةِ.
لقد قرأَ قتادةُ-رحمه الله-قولَه تعالى-: "(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، فبكى وقال: سبحانَك ما أحلمَك، أنْ كنتَ تأمرُ موسى وهارونَ أن يقولا لفرعونَ قولًا لينًا، فإنْ كانَ هذا هو حلمُك بفرعونَ الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، فكيف يكونُ حلمُك بعبدٍ قال: سبحانَ ربيَ الأعلى؟!".
عن معاويةَ بنِ الحكمِ-رضي اللهُ عنه-قالَ: "بينما أنا أُصلي مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-إذ عطسَ رجلٌ من القومِ فقلتُ: يرحمُك اللهُ, فرماني القومُ بأبصارِهم فقلتُ: وَاثُكْلَ أُميَاه!، ما شأنُكم تنظرونَ إليَّ، فجعلوا يضربونَ بأيدِهم على أفخاذِهم، فلما رأيتُهم يُصَمِّتُونَني سَكَتُ، فلما صلى رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-بأبي هو وأمي، ما رأيتَ مُعَلِّمًا قبلَه ولا بعدَه أحسنَ منه تعليمًا، فواللهِ ما كَهَرَنَي ولا ضَرَبَني ولا شَتَمنَي وإنما قالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ".
وعن أبي هريرةَ وأنسٍ-رضي اللهُ عنهما-قالا: "بينما نحنُ في المسجدِ مع رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-إذ جاءَ أعرابيٌ فقامَ يبولَ في المسجدِ فقالَ الصحابةُ: مهْ مهْ-ماذا تصنعُ؟-فقال-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-: "لَا تُزْرِمُوهُ-لا تقطعوا عليه بولَه فيتأذى-, دَعُوهُ", فتركوه حتى بالَ، ثم نادى عليه وقالَ له: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ-عزَّ وجلَّ- وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ", فقالَ الأعرابيُ: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال له النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-: "لقد حَجَّرْتَ واسعًا-ضيقتَ رحمةَ اللهِ التي وسعتْ كلَّ شيءٍ-"
هكذا كانت أخلاقُه-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، إنَّ المنهجَ النظريَّ في التربيةِ والأخلاقِ سيظلُ حِبرًا على ورقٍ، لا يستفيدُ الناسُ منه، إذا لمْ يتحولْ إلى واقعٍ عمليٍّ ومنهجٍ سلوكيٍّ في حياة الناس، أستغفرَ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
أما بعد: فلماذا يبغضُ كثيرُ من الكفارِ الإسلامَ؟
تقدَّم في القصةِ أنَّ ثُمامةَ-رضي اللهُ عنه-قَبْل إسلامِه كانَ مبغضًا النبيَّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-والإسلامَ، فما سببُ بغضِ كثيرُ من الكفارِ للإسلامِ؟، الكفارُ المبغضونَ ليسوا سواءً، هناك فئةٌ جاحدةٌ معاندةٌ، تعرفُ الإسلامَ جيدًا، وتعاديِه وتعادي المسلمينَ قصدًا وعدوانًا، وتمسكًا بعقائدِها المنحرفةِ, ومصالحِها الدنيويةِ، وهناك فئةٌ أخرى تعادي الإسلامَ لأنها لم تعرفْ حقيقةَ الإسلامِ، فصورةُ الإسلامِ عندها مشوهةٌ مُحرَّفةٌ، بسببِ الدعاياتِ الإعلاميةِ المغرضةِ، وحملاتِ التشويهِ العالميةِ للإسلامِ.
إنه لا بد من تغييرِ هذه الصورةِ المزيفةِ، وتصحيحِ المفاهيمِ، وتقديمِ الصورةِ الحقيقيةِ للإسلامِ بسماحتِه وعدالتِه، دونَ تَمييعٍ أو تنازلٍ, بأنْ نعودَ-نحنُ المسلمينِ-إلى الإسلامِ، ونحوِّلَه بسموِه وعظمتِه إلى منهجِ حياةٍ بتطبيقِه في الواقعِ، ونقولَ لكلِّ الناسِ بحالنِا وأخلاقِنا-دون كلامٍ-: هذا هو ديننا، فإن القول يصبح زورًا وكذبًا إذا خالفَ الواقعَ والعملَ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، إنَّ ما فعله النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-مع ثمامةَ من رفقٍ وطيبِ لسانِ، وعفوٍ وإحسانٍ، كانَ كفيلًا أن يُذهِبَ كلَّ البُغضِ والكراهيةِ في نفسِ ثمامةَ، لتتحولَ إلى حُبٍ جارفٍ وقناعةٍ تامةٍ، وقبولٍ لهذا الدينِ.
وأخيرًا: البشارة للتائبين: فقدْ بشَّرَ النبيُّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-ثُمامةَ لما أسلمَ، بشرهُ بخيري الدنيا والآخرةِ، وبشَّره بالجنة، ومحوِ ذنوبِه وسيئاتِه، فما أعظمَ هذه البشارةَ، وما أعظمَ التوبةَ التي حوَّلت هذا السيدَ الأميرَ، ثُمامةَ بنَ أُثالٍ، من عدوٍ مبغضٍ للهِ ورسولِه-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-ودينِه، إلى صحابيٍ جليلٍ، لم يزلْ على إسلامِه، وثبتَ عليه لما ارتدَ كثيرٌ من قومِه من أهلِ اليمامةِ بعدَ وفاةِ النبيِّ-صلى اللهُ عليه وآلهِ وسلمَّ-، ثم ارتحلَ هو ومن أطاعَه من قومَه فلحقوا بالعلاءِ بنِ الحضرميِ-رضي اللهُ عنهم-فقاتلَ معه المرتدينَ من أهلِ البحرينِ-المَنْطِقَةِ الشرقيةِ-حتى قُتلَ.
فالتوبةَ التوبةَ أيها المذنبون، وكلُّنا مذنبون, يامنْ أثقلتْه الذنوبُ, وصدَّتْه عن اللهِ-علامِ الغيوبِ-, تُبْ إلى اللهِ توبةً نصوحًا دائمًا وأبدًا، وأبشرْ بالعفوِ والمغفرةِ, وأبشرْ بخيري الدنيا والآخرةِ, وأبشرْ بدخولِ الجناتِ، وغفرانِ السيئاتِ، وتبديلِها حسناتٍ, (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
[/align]
المرفقات
الأمير الأسير-10-7-1438ه-سامي الحمود-الملتقى-بتصرف.docx
الأمير الأسير-10-7-1438ه-سامي الحمود-الملتقى-بتصرف.docx
المشاهدات 1218 | التعليقات 2
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد يكون العنوان واحدا، ولكن معالجة الموضوع تختلف، والقصد هنا الإفادة من إخواني مع تصرف في الموضوع، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي.
شكرا لاهتمامك ومرورك، بارك الله لك في أهلك ومالك، وأصلح لك شأنك كله.
أبو اليسر
https://khutabaa.com/forums/موضوع/151240
تعديل التعليق