الأموال والأولاد .. حكم وأسرار
ناصر محمد الأحمد
1437/05/14 - 2016/02/23 03:17AM
الأموال والأولاد .. حكم وأسرار
17/5/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير، فكلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب، فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يُسرّي عنه.
وقد تكون الأموال والأولاد نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحوّل حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويُتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه في ما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا، ويشقى بهم إذا صحُوا.
وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب! وهؤلاء الذين يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يُعجبُ الناس ظاهرُها، وهي لهم عذاب.
عباد الله: لقد قرن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بين الأموال والأولاد في أربعة وعشرين موضعاً قُدمت فيها الأموال على الأولاد، وفي موضعين قُدم الأولاد على الأموال، فما الحكمة والسر في ذلك؟. الحكم والأسرار المطلقة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن سوف نذكر ما فتح الله به على بعض المفسرين من حكم وأسرار. وهذه وقفات مع الآيات:
الوقفة الأولى: المال والبنون زينة وتفاخر في الحياة الدنيا:
قال الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف : 46)، وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَد) (الحديد : 20)، وقال تعالى: (أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا) (مريم : 77).
إنما كان المال والبنون زينةُ الحياة الدنيا، لأن في المال جمالاً ونفعاً، وفي البنين قوة ودفعاً، فصارا زينةُ الحياة الدنيا. وأخبر تعالى أن المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا، أي: ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسرُّه: الباقيات الصالحات. فالمال والبنون زينة الحياة، والإسلام لا ينهى عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات، ولكنه يعطيهما القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد.
إنهما زينة ولكنهما ليستا قيمة، فما يجوز أن يوزنُ بهما الناس ولا أن يُقَدّروا على أساسهما في الحياة، إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات.
الوقفة الثانية: الأموال والأولاد استدراج وإملاء للكافرين ليزدادوا إثماً:
قال الله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون) (المؤمنون : 55-56). هؤلاء القوم مكر الله جل وتعالى بهم في أموالهم وأولادهم، لذا فلا يعتبر الناس بالأموال والأولاد، وإنما اعتبارهم بالإيمان والعمل الصالح. وذلك لأنهم استخدموا أموالهم وأولادهم لأجل الطغيان والاستكبار عن الحق، كما قال تعالى: (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِين) (القلم : 14)، وأغروا بهما الناس وصدُوهم عن سبيل الله، كما قال تعالى عن قوم نوح: (وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا) (نوح : 21)، ذكر الله جل وتعالى عن قوم نوح أنهم كانوا أهل أموال وأولاد، لكن هذه الأموال وهؤلاء الأولاد زادوهم خسارا، والسبب أنهم لم يسخروهما فيما أمر الله، فأنفقوا الأموال لتعبيد الناس لهم، واستخدموا الأولاد لإرهاب الناس بهم، فصارت الأموال والأولاد وبالاً عليهم، إذ لو لم تكن لهم أموال ولا أولاد لكانوا أقل ارتكاباً للفساد.
الوقفة الثالثة: الأموال والأولاد اختبار وامتحان في الدنيا:
قال الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم) (الأنفال : 28) هذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرء حبُ المال، وهي خيانة الغلول وغيرها، فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام. وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة فإن غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لأبنائهم من بعدهم.
وجعْلُ نفس الأموال والأولاد فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جرّاء أحوالهما، مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة. وعطف قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم) (الأنفال : 28) على قوله: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَة) (الأنفال : 28) للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد.
وقد شاهدنا وشاهدتم وسمعنا وسمعتم عن أناس شغلهم الكسب والتجارة في أموالهم حتى إنهم يُصلّون كثيراً من الصلوات الخمس فائتة.
وهناك من كان موصوفاً عند الناس بالديانة والورع، فحين لاح له منصب وتولاه، استناب من يلوذ به من أولاده وأقاربه، وإن كان بعض من استنابه قليل العلم سيئ الطريقة.
ونعوذ بالله من الفتن. والفتنة ليست مذمومة في ذاتها، لأن معناها اختبار وامتحان، وقد يمر الإنسان بالفتنة وينجح، كأن يكون عنده الأموال والأولاد، وهم فتنة بالفعل فلا يغرُّه المال، بل إنه استعمله في الخير، والأولاد لم يصيبوه بالغرور بل علّمهم حمل منهج الله، وجعلهم يَنشؤون على النماذج السلوكية في الدين، لذلك فساعة يَسمع الإنسان أي أمر فيه فتنة فلا يظن أنها أمر سيئ، بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلاء وامتحان، وعلى الإنسان أن ينجح مع هذه الفتنة، فالفتنة إنما تضر من يُخفق ويضعُف عند مواجهتها.
ومن يغتر بالمال أو الأولاد في الحياة يأتي يوم القيامة ويجد أمواله وأولاده حسرة عليه، لماذا ؟ لأنه كلما تذكر أن المال والأولاد أبعداه عما يؤهله لهذا الموقف فهو يعاني من الأسى ويقع في الحسرة.
إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوي الألباب، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته، ودفع كثير من المكاره عنه، من أجل ذلك يتكلف في كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغبه في القصد والاعتدال، ويتكلف العناء في حفظها، وتتنازعه الأهواء في إنفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقاً معينة وغير معينة: كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم.
وأما الأولاد فحبُهم مما أودع في الفطرة، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم: من مال وصحة وراحة.
فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام في سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم، وكل ذلك قد يؤدي إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين، وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة.
وعلى الجملة ففتنة الأولاد أكثر من فتنة الأموال، فالرجل يكسب المال الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل الأولاد.
فيجب على المؤمن أن يتقي الفتنتين، فيتقي الأُولى بكسب المال من الحلال وإنفاقه في سبيل البر والإحسان، ويتقى خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال ونحوه.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: الوقفة الرابعة: الأموال والأولاد قد تُقعد المسلم عن العمل لدين الله:
نعم: إن الأموال والأولاد قد تقعد الناس عن الاستجابة خوفاً وبخلاً. والحياة التي يدعو إليها الإسلام حياة كريمة، لا بد لها من تكاليف، ولا بد لها من تضحيات، لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد، فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان، وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان، ومن التخلف عن دعوة الجهاد وعن تكاليف الأمانة والعهد، واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض، وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل، ومع هذا التحذير والتذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجُح الأموال والأولاد، التي قد تُقعد الناس عن التضحية والبذل لدين الله.
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة والاحتياط، أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة.
ومن أجل ذلك حذّر الله المؤمنين من الاشتغال بالأموال والأولاد عن ذكره فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُون) (المنافقون : 9) خص الأموال والأولاد بتوجُه النهي عن الاشتغال بها اشتغالاً يلهي عن ذكر الله، لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها، بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد.
وأما ذكر الأولاد فهو إدماج، لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكُر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة، فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما.
وهنا تساؤل: هل طلبُ المال والولد مذمومٌ لما يحدث من وجودهما من آفات ومفاسد؟.
الجواب: ليس على إطلاقه، فلا بأس من طلب المال والولد لكن مع التحرز، فإن سنة الأنبياء والفضلاء التحرز في الدعاء بطلب الولد: فهذا زكريا عليه الصلاة والسلام تحرز فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) (آل عمران : 38)، وتحرز إبراهيم عليه السلام فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين) (الصافات : 100)، وتحرز المؤمنون فقالوا: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان : 74). وتحرز الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لأنس بن مالك رضي الله عنه، فدعا له بالبركة في ماله وولده فقال: "اللهُم أكْثرْ مالهُ وولدهُ وباركْ لهُ في ما أعْطيْتهُ". رواه البخاري.
فالولد إذا كان بهذه الصفة كان نفْعاً لأبويه في الدنيا والآخرة، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة.
وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده، ونجاته في أُولاه وأُخراه اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والفضلاء.
اللهم ..