الأمنُ مِنّةٌ مِن اللهِ عظيمَةٌ (موافقة للتعميم)
عبدالمحسن بن محمد العامر
إنَّ الحمدَ للهِ نَحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سَيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهدِه اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُه ورسولُه.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً"
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً"
أمَّا بعدُ: فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ.
معاشرَ المؤمنينّ: الأمنُ مِنّةٌ مِن اللهِ عظيمَةٌ، ونِعْمَةٌ ظاهِرَةٌ جليلةٌّ؛ ذكّرَ اللهُ بها عبادَهُ في سِياقِ أمرِهم بعبادَتِه؛ قالَ تعالى: "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" قالَ ابنُ كثيرٍ رحمه اللهُ: (تَفَضَّلَ عليهم بالأمنِ والرُّخْصِ فَليُفْرِدُوهُ بالعبادةِ وحدَه لا شريكَ له، ولا يَعبُدوا مِنْ دُونِه صَنَمَاً ولا ندَّاً ولا وَثَنَاً؛ ولِهذَا مَنِ استجابَ لِهذا الأمرِ جَمَعَ اللهُ لَه بَيْنَ أمْنِ الدُّنيا وأَمْنِ الآخرةِ، وَمَنْ عَصَاهُ سَلَبَهمَا مِنْهُ) انتهى كلامُه.
وكذلك ذََكرَه اللهُ مِنَّةً عليهم في غزوةِ بَدْرٍ ويومَ أحُدٍ إذْ قالَ سبحانَه: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ" قالَ القرطبيُّ رحمَه اللهُ: "والنعاسُ حَالةَ الآمِنِ الذي لا يَخَافُ، وكانَ هذا النُّعَاسُ فِي الّليْلةِ التي كانَ القِتَالُ مِنْ غَدِهَا؛ فكانَ النَّومُ عَجِيْبَاً مَعَ مَا كانَ بَيْنَ أَيْدِيْهمْ مِنَ الأَمْرِ المُهِمِّ، ولكنَّ اللهَ رَبَطَ جأَشَهُمْ" انتهى كلامُه.
والأمْنُ نِعمَةٌ بشّرَ بها النّبيُّ أُمْتَهُ؛ فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" رواهُ البخاريُّ عن خَبّابِ بنِ الأرتِّ رضيَ اللهُ عنه.
إنَّ للأمنِ مفهوماً شاملاً؛ يُسْهِمُ فيه كلُّ فردٍ مِن أفرادِ المجتمعِ، فاللهُ عزّ وجلّ قالَ في محكم التّنزيلِ: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ" وأعظمُ الظُّلمِ الشركُ؛ فعَنْ عبدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، قالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، شَقَّ ذلكَ علَى أصْحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ليسَ كما تَظُنُّونَ؛ إنَّما هو كما قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}" رواه البخاريُّ، وينْدرجُ بعدَ ظُلْمِ النَّفسِ بالشركِ؛ ظُلمها بالمعاصي، كما قالَ تعالى: "وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا" قالَ ابنُ عثيمينَ رحمه الله: ( "أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ" يَعني بالمعاصي؛ لأنَّ المعاصيَ ُظلمٌ للنّفْسِ؛ إذْ إنَّ النَّفَسَ عندكَ أَمَانَةٌ يَجبُ عَليْكَ أنْ تَرْعَاهَا حقَّ رِعايَتِها، فإذا عَصَيْتَ اللهَ فَقَدْ ظَلمْتَها) انتهى كلامُه رَحمَه اللهُ. فكلّما وقعَ العبدُ بمعصيةٍ انْتُزعَ مِنْ قلبِه الأمْنُ، وحلَّ فيه الخوفُ؛ هذا موسى رسولُ اللهِ، وأحدُ أُولِي العزمِ مِن الرُّسلِ؛ وهو الشّجاعُ الذي لا يَهَابُ، والقويُّ الذي لا يُهزمُ؛ قالَ اللهُ عنه لمّا قَتَلَ نفساً لَمْ يُؤمَرْ بقتْلِها: "فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"
وعندما يَخافُ الإنسانُ؛ فإنه لا ينامُ ولا يهنأُ بعيشٍ، ولا يَطمَئنُّ على نفسِه وحياتِه، ولا على مالِه وممتلكاتِه؛ قالَ تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ"
وقالتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: "أَرِقَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقالَ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِن أصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ إذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ، قالَ: مَن هذا؟، قالَ سَعْدٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، جِئْتُ أحْرُسُكَ، فَنَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
عبادَ اللهِ: إنّ الأمْنَ نِعْمَةٌ تستوجبُ الشكرَ للهِ والثناءَ عليه، قولاً وعملاً؛ بتحقيقِ التّوحيدِ الخالصِ للهِ وحدَه، ونبذِ الشّرْكِ ومظاهِرهِ كُلِّها، والحَذَرِ منها، والتّحْذيْرِ عنها، وبفعلِ الطاعاتِ، وتركِ المعاصي والمنكراتِ، قالَ تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما فيهما من العبرِ والحكمَةِ.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنّه كان غفاراً.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على كلِّ نعمَةٍ، والشكرُ لهُ على كلِّ مِنْحَةٍ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، نبيُّ الرَّحمَةِ، صلى اللهُ وسلّم عليه وعلى آله وأصحابه أحسنِ القرونِ سُمْعَةٍ، وعلى التّابعينَ ومِنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ البعثِ والنّفْخَةِ.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى: " وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ"
معاشرَ المؤمنينَ: مِمَّا يحفظُ الأمْنَ ويُبقيهِ نِعْمةً دائمةً؛ امتثالُ أمرِ اللهِ ورسولِه بالسمعِ والطاعةِ لولاةِ أمرِ المسلمينَ؛ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ" وقالَ صلى اللهُ عليه وسلَّم: "عَلَيْكَ السَّمْعُ والطَّاعَةُ في عُسْرِكَ ويُسْرِكَ، ومَنْشَطِكَ ومَكْرَهِكَ، وأَثَرَةٍ عَلَيْكَ" رواهُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه، ففي طاعَتِهم سَلامَةٌ وَرَحْمَةٌ، وبقاءٌ لِلْلُحمَةِ الوطنيَّةِ، وتحقيقٌ لاجتماعِ الكلمةِ، ووحْدَةِ الصَّفِّ.
عبادَ اللهِ: ممّا يُقّوِّضُ الأمْنَ، ويُثِرُ الفتنَ التي تُقْلِقُ النّاسَ على أنفسِهم، وأموالِهم، وأعْراضِهم؛ الشائعاتُ المُغرِضةُ، وتناقُلِها، ونَشْرُها، وقد وجّهَنَا اللهُ حِيَالَها تَوجيهاً شرعيّاً شافيَاً حيثُ يقولُ: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا" قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: (إنكارٌ على مَنْ يُبَادِرُ إلى الأمورِ قَبْلَ تَحقُّقِها، فَيُخْبِرُ بِها ويُفْشِيْهَا ويَنْشُرُها، وقَدْ لا يِكوْنُ لها صِحَّةٌ (
وقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: "بئسَ مطيَّةُ الرجلِ زعَموا" رواه أبو داودَ عن أبي قلابةَ رضيَ اللهُ عنه، وصحّحَه الألبانيُّ.
ألا فاستشعروا هذه النّعمةَ التي ترفلونَ بها؛ فإنكم مغبوطونَ عليها؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلم: "مَن أصبحَ منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسدِهِ عندَهُ قوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا" رواهُ الترمذيُّ عن عبداللهِ بن مِحْصَنٍ رضيَ اللهُ عنه.
واحذروا زوالَها؛ فَإِنَّ النِّعمَةَ إذا زالتْ عنْ قومٍ قَلَّمَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ.
نسألُ اللهَ أنْ يحفظَ علينا أمْنَنَا وإيمَانَنَا ووطنَنَا وولاةَ أمرنا.
للَّهُمَّ أَصْلِحْ لنا دِينَنَا الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لنَا دُنْيَانا الَّتي فِيهَا معاشُنَا، وَأَصْلِحْ لنَا آخِرَتنَا الَّتي فِيهَا معادُنَا، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لنَا في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لنا مِن كُلِّ شَرٍّ.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله .....