الأمن (مستفادة بتصرف)

أبو عبد السلام الروقي
1446/03/16 - 2024/09/19 01:23AM

(الأمن ثمرة الإيمان)

الحمد لله، الحمد لله الذي له المحامدُ فمن ذا يُحيطُ بحمده، والشكرُ له فالفضلُ كل الفضل من عنده، وتمجَّدَ الله فأعظِم بالله وأعظِم بمجده، وتبارك الله وعزَّ الله وتقدَّس الله وتعالى الله، لا يهتدي من الخلق أحدٌ إلا من يهدِه، ولا يضِلُّ منهم إلا من يُشقِه الله ويُردِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سقانا الله من حوضه ووِردِه، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المسلمون: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فهي الحِرزُ المكين، والحبلُ المتين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

عباد الله: ونحن في مُنسلَخ النصف الأول من القرن الخامس عشر من الهجرة، وفي وسط جزيرة العرب وقصبة بلاد المسلمين على هذه الأرض؛ حيث انزلَقَت من ها هنا أزمِنةٌ وقرون مرَّت ثم لحِقَت بالماضي البعيد، طَوَت تلك الأزمنةُ والقرون أممًا ودولاً، وأحداثًا وحروبًا، وغٍنًى وفقرًا، وأمنًا وخوفًا، ثم انتهت تلك الأزمنة، وانطوَت تلك القرون لتُولَد هنا على هذه الأرض بلادٌ شِعارُها التوحيد، ونِظامُها الشريعة، وتحمِلُ اسم المملكة العربية السعودية، قامت في زمن غُربة الدين، وتَقَهقُرِ شأن المسلمين، في زمنٍ كانت أكثرُ دول الإسلام تحت نَيْر الاستعمار، وسيطرة فكر المُستعمِر، قامت باسم الله، والتزَمَت بشرع الله، وحمَلَت على عاقتها همَّ الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تنسَ نصيبَها من الدنيا، ورماها الشرقُ والغربُ بكيده على مدى ثلاثة قرون، وفي مراحلها الثلاث فتعود في كل مرةٍ أقوى مما كانت، وأكثر عزيمةً وإصرارًا على تمسُّكها بمبادئها التي قامت عليها.

وخلال فترة حكمها الطويل كتبَ من كتبَ، وأرجَفَ من أرجَف، وراهَن من راهَن على عدم صمودها وما علم الجاهل أن هذه الدولة شامخة على أساس متين وهو الدين.

 

ويشاء الله في هذه الحقبة أن تهبَّ العواصِفُ على بلاد العرب، وتميل بمن تميل، ولما اقتربت العاصفةُ من حِمَى هذه البلاد إذا هي نسيمٌ رقراقٌ رخِيّ، وإذا أهلُ هذه البلاد أشدُّ لُحمةً وأقوى تماسُكًا، ويفخرُ حاكمُها بشعبه، ويغتبِطُ الشعبُ بحاكمه، وفي صحيح مسلم: "خِيارُ أئمتكم الذين تُحبُّونهم ويُحبُّونكم، ويُصلُّون عليكم وتُصلُّون عليهم، وشِرار أئمتكم الذين تُبغِضونهم ويُبغِضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم".

عباد الله: قامت هذه الدولة أول ما قامت بقيام عالمٍ، وثبَتَت بثبات علماء، والحُكَّام فيما بين ذلك يقومون بدورهم على بصيرةٍ من الله، وعلى هديٍ من كتابه.

أيها المسلمون: وبعد ثلاثة قرونٍ من قيام الدولة السعودية؛ هلُمَّ لنتساءل: لماذا بقِيَت هذه البلادُ آمنةً في زمن الخوف، ولماذا اغتنَت وهي في صحراء قَفْر وأرضٍ فقر، ولماذا اجتمع الناسُ فيها وائتلفوا في زمن التفرُّق والخلاف؟!

إن لذلك أسبابًا شرعية تردُفها أخرى دنيوية: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].

 

لقد وفَّق الله هذه البلاد -ومنذ أن قامت في دورها الأول- بلزوم جماعة المسلمين والتمسُّك بالإسلام الذي جاء به نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن رب العالمين، وقَفوا أثر آل البيت وعموم الصحابة والتابعين؛ مما جعل للإسلام في هذه الديار بقاءً بنَقاء، وهيمنةً بصفاء، وستبقى هذه البلاد قائمةً ما أقامت التوحيد، منصورةً ما نصرَت السنة، عاليةً ما أعلنَت العدل، ولن نخافَ عليها من نقصٍ إلا إذا نقَصَت من عُرَى الدين، ولن نخشى إلا ذنوبنا وتقصيرنا مع ربنا.

إن الإسلام الذي قامت عليه هذه البلاد هو الإسلام الذي قبِلَته أجيالُ الأمة على مرِّ القرون، يُسلِمُه سلفُهم إلى خلفِهم، وعلماؤهم إلى مُتعلِّمِهم، نافين عنه تحريفَ الغالين، وانتِحال المُبطِلين، ولأجل هذا كانت هذه البلاد بحُكَّامها وعلمائها في مرمَى سهام المُتربِّصين، وإفكِ الكاذبين.

لقد نالَ علماءَ هذه البلاد الكثيرُ من الطعن والتكفير، كما نالَ حُكَّامَه صنوفٌ من اللَّمز والتشكيك في المواقف السياسية، والمُبادرات والقرارات، في محاولةٍ للحدِّ من تأثيرها الإيجابي في العالم، ولإقصائها عن الرِّيادة في أمور الدين وفضاء السياسة، وهو الأمرُ الذي هو قدْرُها وقدَرُها، ويُملِيه عليها مكانُها ومكانتُها، وتتطلَّعُ إليه قلوبُ المستضعفين قبل عيونهم أملاً في لملَمة شمل، وتطلُّعًا لمُداواة جُرح، ورغبةً في سد حاجة، ومواقفُها وسيرتها شاهدةً على الجمع لا على التفريق، ورأْب الصدع لا شق الصفوف.

 

وإن أي زحزحةٍ لها عن هذا النهج هو إضافةً إلى أنه خللٌ ديني فهو خيانةٌ وطنية، وتفكيكٌ للعُقدة التي ربطَت الراعي بالرعية، وهو توهيةٌ للحبل الممدود إلى السماء، وإلى الله في عليائه؛ حيث نستلهِمُ منه الصبرَ والنصر، والحفظَ والعون في زمنٍ كثُرَت عواصِفُه وعواديه، وحُسَّادُه وأعاديه؛ فهل يعِي ذلك من يُريد تحريكَ مركب الوطن ليُجافِي شاطئَ الاهتداء؟! حفِظَها الله قائمةً بالإسلام منافحةً عنه.

أيها المسلمون: وعودًا على العلماء وطلبة العلم، وعلى ما وفَّق الله إليه خادم الحرمين الشريفين من حفظِ جنابهم، وإجلال مكانتهم، وحمايتهم من السُّفهاء وضعيفِي البصيرة؛ فإن دورهم يتأكَّدُ في استمرارهم في حِراسة الدين والدولة؛ ذلك أن أكثر ما بزَغَ من فتنٍ داخلية على مدى القرن الماضي كان سببُه انحرافٌ في المُعتقَد، تبِعَه ارتباطٌ مشبوهٌ بالخارج، ثم يجِدُ العدو في بعض ضِعاف نفوس أولئك من يمتطيه ويستخدمُه في زعزعة الأمن، والاستنجاد بقوىً أجنبية، ويُزيِّنُ له الاستمداد من مرجعياتٍ طامعةٍ ببلاد العرب كارهةٍ للعروبة.

أيها المسلمون: ويُزيِّنُ الباطلُ للمُغفَّلين تمزيقَ المجتمع إلى أشياعٍ وأحزاب وفرقٍ ومِزَع، والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام: 159]، ويقول سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31، 32].

أيها المسلمون: ونحن في بلاد الحرمين الشريفين في المملكة العربية السعودية لسنا في معزلٍ عن العالم، ولا بُعدٍ عن الحُسَّاد والأعادي، وليست الأحوال واحدة، ولا المواطن مُتماثلة، وإن كان في العامة مَنْ قد يجهل أو يُستغلّ؛ فإن هذه الظروف تستدعي العزمَ والحزمَ، والتصريحَ دون التلميح، أن جناب الأمن والدولة والدين والوطن والاجتماع ووحدة الصف ليست مجالاً للمُساومة، ولا عُرضةً للمُناقشة، إنها ليست مجرد خطوطٍ حمراء؛ بل هي خنادقُ مَنْ تعرَّض لها فيجبُ أن يحترق، فما دون الحناجر إلا الأيادي، ولنا فيمن حولنا عِبرة، والعاقلُ من اتَّعَظ بغيره.

بلادُنا -بحمد الله- أُسِّسَت على تقوى من الله، وشريعةٍ من كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهما دستورنا المستور، ومنهاجنا المأثور، وفي كل مناسبةٍ يُؤكِّدُ ولاةُ أمرنا على التمسُّك بهما والالتزام بمنهاجهما.

ولا شك أن الخطأ واردٌ، والتقصير حاصل، لكن الخطأ لا يُعالَج بالخطأ، والمُنكر لا يُزالُ بما هو أشد منه نُكْرًا، والإصلاحُ لا يكون بسلوك سبيل المُفسدين.

وقد منَّ الله علينا برَغَد العيش، والأمن في الأوطان، والسلامة في الأديان، وفجَّر كنوز الأرض، وأسبغ علينا نِعَمه الظاهرة والباطنة بما لا يكاد يُشبِهُه شيءٌ على وجه الأرض: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة: 211].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

الخطبة الثانية:

 الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)

أيها المسلمون: لا يخفى ما يمُرُّ به العالمُ اليوم -وبلادُنا الإسلامية خاصةً- من حِراكاتٍ سياسية، واضطراباتٍ شعبية، وفتنٍ مُتلاطمة تتشابه صورها، وتختلفُ أسبابُها وأهدافها، تتدافَع الحوادث وتتسابق حتى يقضِيَ الله أمرًا كان مفعولاً.

والله وحده يعلمُ مآلات الأمور ومصائر الأمم وخبايا الدهور، ظروفٌ وأحوال تتسارَعُ أحداثُها، وتتسابقُ أخبارُها، وتدعُ الحليمَ حيرانًا، والمُعافَى من عافاه الله، فتنٌ لا يدري القاتلُ فيها لمَ قتَل، ولا المقتولُ فيمَ قُتِل، هَرْجٌ ومرْج، وخوفٌ وقلق، يستدعي من العقلاء حزمًا، ومن العامة فِطنةً وفهمًا، وكم من خائضٍ بلا علم، ومُتكلِّمٍ بلا فهم، قد يُذكِي نار الفتنة وهو لا يشعر.

الفتنُ -أيها المسلمون- تُقبِلُ أول ما تُقبِل ثائرةَ الغُبار، كثيرة الضجيج، مُشتبهةَ الحقائق، مُختلطة الوقائع، لا يتبينُ فيها الطريقَ إلا من نوَّر اللهُ بصيرَته، وأصلَح سريرَته، والتزَمَ منهاج النبوة في التعاطي مع الأحداث، والله يحبُّ البصرَ النافذَ عند ورود الشُّبهات، والعقلَ الكاملَ عند ورود الشهوات.

وفي الفتن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العبادةُ في الهرْج كهجرةٍ إليَّ". رواه مسلم.

والدعاءُ مطلبٌ مُلِحّ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن"، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خافَ قومًا قال: "اللهم إنا نجعلُك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شرورهم". رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.

وقد نهى الله عن نشر الشائعات، وأمر بردِّ الأمور إلى الشريعة والعلماء، فقال سبحانه: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].

عباد الله: الواجبُ الصبر والمُصابرة، ولزوم جماعة المسلمين، والمحافظة على أمن بلاد المسلمين ووحدتها، وأن لا يكون المسلم مِعولَ هدمٍ يُوقِعُ الفتنةَ من حيث يشعُرُ أو لا يشعُر.

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة.

اللهم اشف مرضانا وعاف مبتلانا، وارحم موتانا وانصرنا على من عادانا يا رب العالمين، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

المرفقات

1726698183_خطبة الأمن ثمرة الإيمان.pdf

1726698185_خطبة الأمن ثمرة الإيمان.docx

المشاهدات 595 | التعليقات 0