الأمـــانة وجريمة التلاعب بالمال العام

فهد عبدالله الصالح
1439/02/27 - 2017/11/16 07:39AM

                                                

يقول الله في محكم التنزيل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).

الأمانة يا عباد الله : أمرنا الله بحفظها ورعايتها والقيام بها وأدائها إلى أصحابها , وجعلها من صفات المؤمنين (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم  أن أداءها والقيام بها إيمان , وأن تضييعها والاستهتار بها وخيانتها نفاق وعصيان فقال (لا إيمان لمن لا أمانة له) فمن حرم الأمانة فقد حرم كمال الدين , وعكس الأمانة الخيانة ومن تلبس بها فبئس البطانة ، وأن فيه خصلة من خصال المنافقين , قال صلى الله عليه وسلم  (آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان)رواه البخاري , وإذا ضاعت الأمانة سفكت الدماء , وانتهكت الأعراض , وأكلت أموال المسلمين بالباطل , وأعظم ما تكون به خيانة الأمانات إذا كانت خيانة لله ورسوله ولمصلحة المسلمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ), نزلت هذه الآية في أحد الصحابة ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم  أمراً فقصر فيه , وهكذا تضيع الأمانة من قبل من وكلت إليهم المسؤوليات والمشاريع , فإذا هم خونة للأمانة , وغششه للراعي والرعية , وهذا من أعظم الذنوب .

أيها المؤمنون : نجد الأمانة في تنظم شئون الحياة كلها , من عقيدة وعبادة وأدب ومعاملة , وتكافل اجتماعي , وخلق كريم , والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود سر سعادة الأمم , ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس ، استدان ابن لعمر بن الخطاب من أبى موسى الأشعري رضي الله عنهما حين كان والياً على الكوفة أموالاً من خزينة الدولة ليتاجر بها على أن يردها بعد ذلك كاملة غير منقوصة , واتجر ولد عمر فربح , فبلغ ذلك عمر فقال له : إنك حين اشتريت انقص لك البائعون في الثمن , ولما بعت زاد لك المشترون في الثمن , لأنك ابن أمير المؤمنين , فلا جرم إن كان للمسلمين نصيب فيما ربحت , فقاسمه نصف الربح , واسترد منه القرض , وعنفه على ما فعل , واشتد في العقاب على أبى موسى لأنه أسرف من أموال الأمة ما لا يصح أن يقع مثله .

إن الأمانة هي الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها , ويستعينون بالله على حفظها , كما ورد في الدعاء للمسافر (استودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك), وعن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلا قال (لا إيمان لمن لا أمانة له , ولا دين لمن لا عهد له) رواه احمد , بل كان يستعيذ من ضياعها , كما روى أبو داود أنه كان يقول (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع , وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئس البطانة).

الأمانة أيها المسلمون : في نظر الشرع صفة واسعة الدلالة , هي بإيجاز: شعور المرء بمسئوليته في كل أمر يوكل إليه , وبعض الناس يقصرون فهم الأمانة في أضيق معانيها , وهو حفظ الودائع , وحقيقتها في دين الله أضخم وأجل .

فمن معاني الأمانة وضع الشيء في المكان الجدير به واللائق له فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبات والقرابات , انظروا إلى أبى ذر حين قال يا رسول الله , ألا تستعملني ؟ قال : فضرب يده على منكبي , ثم قال : يا أبا ذر , إنك ضعيف وإنها أمانة , وإنها يوم القيامة خزي وندامة , إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)رواه مسلم .

ومن معاني الأمانة : أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملاً في العمل المنوط به , وأن يحسن فيه تمام الإحسان ويجتهد على حقوق الناس التي وضعت بين يديه , فكل من كان والياً على شيء خاص أو عام فهو أمين عليه يجب أن يؤدى الأمانة فيه , فالقاضي أمين والأمير أمين ورؤساء الدوائر ومديروها والمعلمون والأطباء والمهندسون أمناء يجب عليهم أن يتصرفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن , وفيما ولوا عليه حسبما يستطيعون , أولياء اليتامى وناظروا الأوقاف وأوصياء الوصايا كل هؤلاء أمناء يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن ,يقول النبي صلى الله عليه وسلم  (إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فيقال : هذا غدره فلان , وفي رواية , لكل غادر لواء يرفع له بقدر غدرته , إلا ولا غادر أعظم من أمير عامة) رواه البخاري .

ومن معاني الأمانة أيضاً : أن لا يستغل الرجل منصبه لجر منفعة إلى شخصه أو قرابته , فان التشبع من المال العام جريمة , قال صلى الله عليه وسلم  (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) رواه أبو داود .

أما الذي يلتزم حدود الله في وظيفته , ويأنف من خيانة الواجب الذي طوقه فهو عند الله من المجاهدين لنصرة دينه وأعلا كلمته , قال صلى الله عليه وسلم  (العامل إذا استعمل فأخذ الحق وأعطى الحق , لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته) رواه الطبراني .

وقد شدد الإسلام في ضرورة التعفف عن استغلال المنصب , وشدد في رفض المكاسب المشبوهة , فعن عدي بن عمير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوق كان غلولاً يأتي به يوم القيامة) رواه مسلم .

إنه الحفاظ على المال العام , إنه الحرص على المال الذي يشارك فيه الفقير والمسكين , والضعيف واليتيم والأرملة , انه الأمر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم  (أحرج حق الضعيفين : الأرملة والمسكين).

والأمانة تدعوا إلى رعاية الحقوق , وتعظيم النفس واحترام الناس ولا تكون إلا إذا استقرت في وجدان المرء وحافظ عليها .

هذه إخوتي في الله – بعض معاني الأمانة التي نحتاج إحياءها وتمثلها في مجتمعنا ومسئولياتنا , وهي قضية ضخمة , لا يستطيع حملها الرجال المهازيل , وقد ضرب الله المثل لضخامتها , فأبان أنها تثقل كاهل الوجود كله , فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها , أو يفرط في حقها , ومع كل ذلك فقد تحملها الإنسان .

فالواجب على كل مسلم القيام بحق الأمانة وحملها كما أمر الله تعالى ومراقبة الله في كل تكليف تحمله أو مسئولية أنيطت به أو مال دخل في حوزته والواجب ـ أيضا ـ التعاون على البر والتقوى في القيام بها ومن ذلك إبلاغ الجهات المختصة عن مراقبة المال والشأن العام عن أي سرقات أو تجاوزات أو استغلال لمنصب أو استلام لمشاريع خلافاً للعقود المبرمة ومن هذه الجهات المسئولة هيئة الرقابة والتحقيق , والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد , وجمعية حقوق الإنسان ونحوها من الجهات ذات العلاقة .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك , وأغننا بفضلك عمن سواك , يا ذا الفضل العظيم .

المشاهدات 841 | التعليقات 0