الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سعيد المفضلي
1437/11/16 - 2016/08/19 06:17AM
الخطبة الأولى:
لقد امتن الله عز وجل على هذه الأمة المحمدية بأن جعلها من خير الأمم على وجه الأرض. حيث قال تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] فعلل الله سبحانه وتعالى خيرية هذه الأمة بثلاث أمور: أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وإيمانها بالله جل وعلا.
فالخيرية تدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإن أمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، وآمنا بالله كما ينبغي كنا خير أمة، وإن لم نقم بذاك كنا كأي أمة في الأرض.
اخوة الدين: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أصول الدين، فعدّه بعض العلماء رُكناً سادساً من أركان الإسلام، وهو ربع النجاة من الهلاك والخسران قال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } فتؤمن بالله، وتعمل صالحاً، وتدعوا إلى الله، وتصبر على الأذى فيه، هذه أركان النجاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ربع النجاة.
لقد قدّم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الآية السابقة؛ لأن الإيمان لا يستقيم ولا يبقى إن لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وقدمه على الصلاة والزكاة فقال: {وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71] لأنهم إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر لن يستطيعوا أن يقيموا الصلاة، بل قد يمنعوا من إقامتها، بل وتصبح تهمة توجه إليهم.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة الأنبياء الأصفياء صلوات ربي وسلامه عليهم قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ هذا هو الأمر بالمعروف، ﴿ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ وهذا هو إنكار المنكر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سمات المؤمنين، قال تعالى: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ﴾[ سورة التوبة: 112] بينما المنافقون، قال عنهم: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) ﴾[ سورة التوبة: 67].
علّق الله فلاح هذه الأمة على قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]
بل إن النصر الذي يطمح إليه المسلمون في كل بقاع الأرض، وقد فقدوه اليوم، ثمنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾[ سورة الحج].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلث النجوى التي أثنى الله عليها.﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾[ سورة النساء: 114].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب تكفير الذنوب، قال : (( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ... )) [ مسلم ]
بل إن الضرورات الخمس، الحفاظ على الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، قوامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عباد الله: من نتائج عدم الأمر بالعروف والنهي عن المنكر:
1- وقوعُ الهلاك والعذاب ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾[ سورة هود: 117].
2- عدم استجابة الدعاء، قال : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ )) [ الترمذي ].
3- استحقاق اللعنة من الله، قال تعالى:﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾[ سورة المائدة ].
4- ومن نتائج عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسلط الفسّاق والفجار والكفار، وشيوع المنكر واستمرائه، وظهور الجهل واندثار العلم وتخبط الأمة في ظلام حالك لا فجر له.
5- الفرقة والاختلاف قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104، 105] قال ابن عاشور: فيه اشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفضي إلى التفرق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأُمةُ بذلك انشقاقاً شديداً.
أيها الإخوة: إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط ينبغي معرفتها قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي:
1- الإخلاص لله عز وجل.
2- العلم بما تأمر به، أو تنهى عنه؛ لأن بعض المتحمسين قد ينكر على بعض المسلمين في مسائل خلافية يسوغ الاجتهاد فيها، وهذا أمر لا يجوز لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
3- وأن يكون ترك المعروف وفعل المنكر ظاهراً تراه عيناك، أو أخبرت به بطريق صحيح دون تكلف أو تجسس.
4- مراعاة المصالح والمفاسد فتعرف خير الخيرين فتأتيه، وتعرف شر الشرين فتختار أهونهما. قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم". لأن مفسدة شربهم للخمر أقل من مفسدة قتل النفس، وأخذ أموال المسلمين، والاغتصابات، ولذلك أمر بتركهم في سكرهم؛ لأنهم إذا أفاقوا صار إفسادهم أشد.
5- الرفق واللين ومراعاة التدرج في الإنكار.
6- التواضع، والحلم، والصبر. فإنّ هذا طريق الأنبياء ولا بد فيه من البلاء قال تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
7- القدوة في الأفعال قبل الأقوال. {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
وبعد أن عرفنا مكانة هذه الشعيرة العظيمة، وعقوبة تركها، وشروطها، وجب علينا القيام بها، لقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104] ولقوله : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "رواه مسلم .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ...
أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، تبدأ بالقلب، فينتفض إذا عَلِمَ بالمنكر، وبأنه منكَر، فيُؤدّي ذلك إلى التغيير باللسان، فإن لم يُستَجب له غيّر باليد إن استطاع، وقال بعض العلماء بعكس ذلك، يعني أن يُغيّر باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، غير أنه لا يمكن لليد أن تُغيّر إلا إذا كان الإنكار نابِعاً من القلب.
وإنكار القلب أقلّ درجات الإنكار، فإذا كان هناك منكر في مكان مـا، ولم يُغيّر بعد الإنكار وجبت مفارقة المكان.
ويخطئ بعض الناس حينما يقول : أنا أنكرت، وسوف أجلس - يعني في مكان فيه منكَر - ، وقلبي قد أنكر المنكَر، وهو إنما يتّبع هواه وما تُريده نفسه.
فيُقال له : لو أنكر قلبك المنكر وأبغضه لفارقت المكان، كما لو كنت في مكان يُسبّ فيه والدك أو يُسبّ فيه شخصك، فإما أن ترد وتُنافح أو تقوم من ذلك المكان.
وينبغي أن يُعلم أن هناك فرقاً بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الانتصار للنفس إذا لم يُستجب للمنكِر، فليس من شرط الإنكار تغيُّر المنكر وزوالَه.
شبهات وجوابها :
- توهم بعض الناس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدح في الحريات الشخصية، وهذا مجانب للصواب في فهم نصوص الشريعة، بل هو حفظ لحقوق الآخرين من انتهاكها، فلنحذر ازدراء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أو التنقص من قدرهم أو أذيتهم بالفعال أو المقال، فهم حراس الدين وصوان الأعراض، بهم بإذن الله تعلو رتب الفضائل، وتوصد الفتن، ويُدفع البلاء.
- بعض الناس يستدل على تقاعسه وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتلك المقولة الفاسدة دع الخلق للخالق . ولستَ وكيلاً على بني أدم ، وغيرها من الكلمات.
وقـد قام أبو بكر رضي الله عنه خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105] وإنكم تضعونـها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيـروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه. رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وهو صحيح.
قال أبو أمية الشعباني : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بـهذه الآية؟ قال: أيـّة آية ؟ قلت: قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا، سألتُ عنها رسول الله فقال : بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحّـاً مُطاعَاً، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. قيل : يا رسـول الله أجـر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجـر خمسين منكم. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم .
وقال ابن القيم في ذِكْرِ شيء من مكايد إبليس:
"وزيّن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس، وحسن الخُلُق معهم".
لقد امتن الله عز وجل على هذه الأمة المحمدية بأن جعلها من خير الأمم على وجه الأرض. حيث قال تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] فعلل الله سبحانه وتعالى خيرية هذه الأمة بثلاث أمور: أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وإيمانها بالله جل وعلا.
فالخيرية تدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإن أمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، وآمنا بالله كما ينبغي كنا خير أمة، وإن لم نقم بذاك كنا كأي أمة في الأرض.
اخوة الدين: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أصول الدين، فعدّه بعض العلماء رُكناً سادساً من أركان الإسلام، وهو ربع النجاة من الهلاك والخسران قال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } فتؤمن بالله، وتعمل صالحاً، وتدعوا إلى الله، وتصبر على الأذى فيه، هذه أركان النجاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ربع النجاة.
لقد قدّم الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الآية السابقة؛ لأن الإيمان لا يستقيم ولا يبقى إن لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وقدمه على الصلاة والزكاة فقال: {وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71] لأنهم إن لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر لن يستطيعوا أن يقيموا الصلاة، بل قد يمنعوا من إقامتها، بل وتصبح تهمة توجه إليهم.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة الأنبياء الأصفياء صلوات ربي وسلامه عليهم قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ هذا هو الأمر بالمعروف، ﴿ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ وهذا هو إنكار المنكر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سمات المؤمنين، قال تعالى: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ﴾[ سورة التوبة: 112] بينما المنافقون، قال عنهم: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) ﴾[ سورة التوبة: 67].
علّق الله فلاح هذه الأمة على قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]
بل إن النصر الذي يطمح إليه المسلمون في كل بقاع الأرض، وقد فقدوه اليوم، ثمنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾[ سورة الحج].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلث النجوى التي أثنى الله عليها.﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾[ سورة النساء: 114].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب تكفير الذنوب، قال : (( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ... )) [ مسلم ]
بل إن الضرورات الخمس، الحفاظ على الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، قوامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عباد الله: من نتائج عدم الأمر بالعروف والنهي عن المنكر:
1- وقوعُ الهلاك والعذاب ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾[ سورة هود: 117].
2- عدم استجابة الدعاء، قال : (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ )) [ الترمذي ].
3- استحقاق اللعنة من الله، قال تعالى:﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾[ سورة المائدة ].
4- ومن نتائج عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسلط الفسّاق والفجار والكفار، وشيوع المنكر واستمرائه، وظهور الجهل واندثار العلم وتخبط الأمة في ظلام حالك لا فجر له.
5- الفرقة والاختلاف قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104، 105] قال ابن عاشور: فيه اشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفضي إلى التفرق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأُمةُ بذلك انشقاقاً شديداً.
أيها الإخوة: إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط ينبغي معرفتها قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي:
1- الإخلاص لله عز وجل.
2- العلم بما تأمر به، أو تنهى عنه؛ لأن بعض المتحمسين قد ينكر على بعض المسلمين في مسائل خلافية يسوغ الاجتهاد فيها، وهذا أمر لا يجوز لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
3- وأن يكون ترك المعروف وفعل المنكر ظاهراً تراه عيناك، أو أخبرت به بطريق صحيح دون تكلف أو تجسس.
4- مراعاة المصالح والمفاسد فتعرف خير الخيرين فتأتيه، وتعرف شر الشرين فتختار أهونهما. قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم". لأن مفسدة شربهم للخمر أقل من مفسدة قتل النفس، وأخذ أموال المسلمين، والاغتصابات، ولذلك أمر بتركهم في سكرهم؛ لأنهم إذا أفاقوا صار إفسادهم أشد.
5- الرفق واللين ومراعاة التدرج في الإنكار.
6- التواضع، والحلم، والصبر. فإنّ هذا طريق الأنبياء ولا بد فيه من البلاء قال تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
7- القدوة في الأفعال قبل الأقوال. {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
وبعد أن عرفنا مكانة هذه الشعيرة العظيمة، وعقوبة تركها، وشروطها، وجب علينا القيام بها، لقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104] ولقوله : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "رواه مسلم .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ...
أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، تبدأ بالقلب، فينتفض إذا عَلِمَ بالمنكر، وبأنه منكَر، فيُؤدّي ذلك إلى التغيير باللسان، فإن لم يُستَجب له غيّر باليد إن استطاع، وقال بعض العلماء بعكس ذلك، يعني أن يُغيّر باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، غير أنه لا يمكن لليد أن تُغيّر إلا إذا كان الإنكار نابِعاً من القلب.
وإنكار القلب أقلّ درجات الإنكار، فإذا كان هناك منكر في مكان مـا، ولم يُغيّر بعد الإنكار وجبت مفارقة المكان.
ويخطئ بعض الناس حينما يقول : أنا أنكرت، وسوف أجلس - يعني في مكان فيه منكَر - ، وقلبي قد أنكر المنكَر، وهو إنما يتّبع هواه وما تُريده نفسه.
فيُقال له : لو أنكر قلبك المنكر وأبغضه لفارقت المكان، كما لو كنت في مكان يُسبّ فيه والدك أو يُسبّ فيه شخصك، فإما أن ترد وتُنافح أو تقوم من ذلك المكان.
وينبغي أن يُعلم أن هناك فرقاً بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الانتصار للنفس إذا لم يُستجب للمنكِر، فليس من شرط الإنكار تغيُّر المنكر وزوالَه.
شبهات وجوابها :
- توهم بعض الناس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدح في الحريات الشخصية، وهذا مجانب للصواب في فهم نصوص الشريعة، بل هو حفظ لحقوق الآخرين من انتهاكها، فلنحذر ازدراء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أو التنقص من قدرهم أو أذيتهم بالفعال أو المقال، فهم حراس الدين وصوان الأعراض، بهم بإذن الله تعلو رتب الفضائل، وتوصد الفتن، ويُدفع البلاء.
- بعض الناس يستدل على تقاعسه وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتلك المقولة الفاسدة دع الخلق للخالق . ولستَ وكيلاً على بني أدم ، وغيرها من الكلمات.
وقـد قام أبو بكر رضي الله عنه خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105] وإنكم تضعونـها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيـروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه. رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وهو صحيح.
قال أبو أمية الشعباني : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بـهذه الآية؟ قال: أيـّة آية ؟ قلت: قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا، سألتُ عنها رسول الله فقال : بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شُحّـاً مُطاعَاً، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم. قيل : يا رسـول الله أجـر خمسين منا أو منهم ؟ قال : بل أجـر خمسين منكم. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم .
وقال ابن القيم في ذِكْرِ شيء من مكايد إبليس:
"وزيّن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس، وحسن الخُلُق معهم".
المرفقات
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.docx
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.docx