الأمر بالصلاة
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1435/06/23 - 2014/04/23 18:44PM
عَمُودُ الْإِسْلَامِ (10)
الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ
25/6/1435هـ
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ؛ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَرْزَاقُ الْعِبَادِ وَآجَالهُمْ بِيَدَيْهِ، وَلَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَظَّمَ أَمْرَ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَتْ رَاحَتَهُ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ، وَغَرْغَرَ بِهَا فِي احْتِضَارِهِ، وَكَانَتْ آخِرَ وَصِيَّتِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى؛ فَإِنَّكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى رَاجِعُونَ، وَعَلَى أَعْمَالِكُمْ مُحَاسَبُونَ، وَأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، وَإِنَّ إِصْلَاحَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِإِحْسَانِ الْوُضُوءِ لَهَا، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى جَمَاعَتِهَا، وَإِتْمَامِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وَالْحِرْصِ عَلَى سُنَنِهَا، وَمُجَاهَدَةِ الْقَلْبِ عَلَى الْخُشُوعِ فِيهَا، وَإِتْبَاعِهَا بِنَوَافِلِهَا. وَإِنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِالتَّقْصِيرِ فِي طَهَارَتِهَا، وَالتَّخَلُّفِ عَنْ جَمَاعَتِهَا، وَبَخْسِ أَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وَتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَهِيَ الْقَاصِمَةُ الَّتِي تَقْصِمُ عَمَلَ الْعَبْدِ، حِينَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي تَأْخِيرِهَا، فَتُرَدُّ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَمَا أَكْثَرَ الْوَاقِعِينَ فِي هَذَا الْإِثْمِ الْعَظِيمِ، وَالذَّنْبِ الْكَبِيرِ!
أَيُّهَا النَّاسُ: الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ التَّشْرِيعِ، وَهَذَا يَلْفِتُ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدِّينِ. ثُمَّ تَتَابَعَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ لِتُؤَكِّدَ ذَلِكَ، وَتَدُلَّ عَلَيْهِ.
وَلَوْ نَظَرْنَا فِي الْقُرْآنِ لَوَجْدَنَا الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ كُرِّرَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً، فَتَارَةً يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِذَلِكَ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]. وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِلْقُرْآنِ وَمُسْتَمِعٍ لَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ هَذَا الْأَمْرَ الرَّبَّانِيَّ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فَإِنَّهُ كُرِّرَ فِي الْقُرْآنِ تِسْعَ مَرَّاتٍ. وَفِي أَمْرٍ رَبَّانِيٍّ آخَرَ ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 29].
وَأَحْيَانًا يُؤْمَرُ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، وَالْأَمْرُ لَهُ أَمْرٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُمَّتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [الإسراء: 78]، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [العنكبوت: 45]، فَلْيَتَخَيَّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَقَدْ بَلَغَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُخَاطِبُهُ بِهَا فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي أَقِمِ الصَّلَاةَ. إِنَّهُ لَشَرَفٌ مَا بَعْدَهُ شَرَفٌ أَنْ يَأْمُرَكَ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُحْيِي المُمِيتُ بِأَمْرٍ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْلِكُ مَصِيرَكَ المَاضِي وَالْحَاضِرَ وَالمُسْتَقْبَلَ، وَحَيَاتَكَ كُلَّهَا، وَبَعْثَكَ بَعْدَ المَوْتِ، وَسَعَادَتَكَ الْأَبَدِيَّةَ أَوْ شَقَاءَكَ الْأَبَدِيَّ، فَكُلُّ ذَلِكَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا نَعْلَمُ حَجْمَ جُرْمِ مَنْ يَأْمُرُهُ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، فَلَا يُقِيمُهَا؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِتِجَارَةٍ أَوْ لَهْوٍ أَوْ مُحَادَثَةٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَنُدْرِكُ فَدَاحَةَ خَسَارَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمَعَ أَنَّ جُمْلَةَ (أَقيمُوا الصَّلَاةَ) يَدْخُلُ فِيهَا النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ؛ إِلَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَصَّ النِّسَاءَ بِخِطَابٍ خَاصٍّ لَهُنَّ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ﴾ [الأحزاب: 33] وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، وَفَخَامَةِ قَدْرِهَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَا يَقْتَصِرُ الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، بَلْ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ إِقَامَتِهَا؛ إِذْ يَتَضَمَّنُ المُحَافَظَةَ عَلَى وَقْتِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَخُشُوعِهَا ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238].
وَيَأْمُرُنَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ فِي المُلِمَّاتِ ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ عَمَلِيٍّ تَعَبُّدِيٍّ بَلَّغَهُ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ الصَّلَاةُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ قَبْلَ الْجَهْرِ بِالدَّعْوَةِ يُصَلُّونَ مُسْتَخْفِينَ، وَكَانَتْ صَلَاتَيْنِ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، كَمَا فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا فِي حَادِثَةِ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ نَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالصَّلَاةِ مُبَاشَرَةً، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَلَكِنْ كَمَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلتَّأْكِيدِ؛ وَلِبَيَانِ عَظَمَةِ الصَّلَاةِ وَقَدْرِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ فَهُوَ أَيْضًا شَرْعٌ جَدِيدٌ لِخَمْسِ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَدَلَ صَلَاتَيْنِ فَقَطْ، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ تَخْفِيفِهَا إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً».
وَمِنْ شِدَّةِ عَظَمَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكْتَفِ بِأَمْرِهِ إِيَّانَا بِهَا حَتَّى أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَأْمُرَنَا بِهَا ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: 31]. فَأَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ، وَأَمْرٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَأَمْرٌ ثَالِثٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يَأْمُرَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ بِهَا، وَأَنْ يَصْطَبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً وَرَهَقًا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَمَلُّ وَيَتْعَبُ فَيَتْرُكُ أَمْرَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ بِالصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاصْطِبَارِ عَلَى ذَلِكَ ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُكَرِّرُ دَعْوَتَهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مِنْ أَسَاسَاتِ الدَّعْوَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ لمَّا قَابَلُوا النَّجَاشِيَّ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ لَمْ يَسْجُدُوا لَهُ عَلَى عَادَةِ مَنْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ يُحَيُّونَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ؛ وَفِي قِصَّةِ دُخُولِهمْ عَلَيْهِ قَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أنا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ. فَاتَّبَعُوهُ، فَسَلَّمَ ولم يَسْجُدْ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ؟ قَالَ: إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ ﷺ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ...» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
بَلْ إِنَّ أَمْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالصَّلَاةِ لَمْ يَعْلَمْهُ المُؤْمِنُونَ فَقَطْ، بَلْ عَلِمَهُ المُشْرِكُونَ أَيْضًا؛ إِمَّا لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ مَا أَمَرَ بِهَا المُؤْمِنِينَ حَتَّى بَلَغَ أَمْرُهُ بِهَا المُشْرِكِينَ؛ وَلِذَا لمَّا قَابَلَ المُشْرِكُونَ هِرَقْلَ عَظِيمَ الرُّومِ لِيُحَرِّضُوهَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَتْبَاعِهِ سَأَلَهُمْ هِرَقْلُ عَمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَقَالُوا: «يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ...» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنَ الْإِغْرَاءِ بِالصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَصَّ عَلَيْنَا أَخْبَارَ أَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ مَنْ كَانُوا قَبْلَنَا؛ لِيُحَفِّزَنَا إِلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَلِنَأْمُرَ بِهَا غَيْرَنَا؛ فَحَكَى لَنَا سُبْحَانَهُ تَشْرِيفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ فِي الْوَادِي المُقَدَّسِ طُوًى، فَكَانَ كَلَامُهُ تَعَالَى لَهُ مُتَضَمِّنًا أَمْرَهُ إِيَّاهُ بِالصَّلَاةِ ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14].
وَيَا لَلْعَجَبِ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ فَأَمَرَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَرَ بِهَا مُحَمَّدًا ﷺ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، فَهَلْ يُفَرِّطُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَيَقْرَؤُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟!
وَلمَّا أُوذِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ لَمْ تَسْقُطِ الصَّلَاةُ عَنْهُمْ، بَلْ أُمِرُوا أَنْ يَسْتَخْفُوا بِهَا فِي بُيُوتِهِمْ ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [يونس: 87].
وَالمِيثَاقُ هُوَ الْعَهْدُ المُغَلَّظُ المُؤَكَّدُ، وَقَدْ أُخِذَ المِيثَاقُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَضَمِّنًا أَمْرَهُمْ بِالصَّلَاةِ.
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَمْرِهِ جَمْعًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: 73].
وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لمَّا نَطَقَ فِي المَهْدِ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31].
وَفِي قِصَّةٍ عَظِيمَةٍ بَيْنَ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ حَاضِرًا فِيهَا، حَدَّثَ بِهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ تَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أُبَلِّغَهُنَّ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي، إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ، أَوْ يُخْسَفَ بِي، قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، حَتَّى امْتَلَأَ المَسْجِدُ، وَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ...»، وَكَانَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ المَأْمُورِ بِهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا...» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا أَخْبَارَ الْآمِرِينَ بِالصَّلَاةِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؛ فَأَثْنَى عَلَى أَبِينَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: 55].
وَقَصَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا مُحَاوَرَةَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، وَكَانَ مِنْهَا ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [لقمان: 17]، وَاشْتُهِرَ لُقْمَانُ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَالْحَكِيمُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَنْفَعُ المَأْمُورَ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَأَهْلَنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَجِيرَانَنَا، وَأَنْ يَهْدِيَ المُقَصِّرِينَ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ، حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 72].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لِمَا لِلصَّلَاةِ مِنْ مَنْزِلَةٍ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَلِمَكَانَتِهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ فِي المَسْجِدِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا الصُّبْحَ، فَقَالَ: أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى المُنَافِقِينَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ ...» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أُمِرَ بِهَا الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِلَّا الصَّلَاةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعَظَمَتِهَا؛ وَحَتَّى تَرْتَاضَ نَفْسُهُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ مَنِ اعْتَادَ الصَّلَاةَ صَغِيرًا حَافَظَ عَلَيْهَا كَبِيرًا. قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا...»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: قَالَ ﷺ: «إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرًا ضُرِبَ عَلَيْهَا» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حَافِظُوا عَلَى أَبْنَائِكُمْ فِي الصَّلَاةِ».
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ الصَّلاَةَ إذَا عَرَفَ يَمِينَهُ من شِمَالِهِ».
وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ الصَّلَاةِ، وَتَعْلِيمِهَا الصِّبْيَانَ، وَحَمْلِ الْعِيَالِ عَلَيْهَا، وَأَمْرِ الْأَهْلِ بِهَا.
هَذَا غَيْرُ الْأَوَامِرِ الْكَثِيرَةِ المُنَوَّعَةِ بِالصَّلَاةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَنَا وَلِلْأُمَمِ قَبْلَنَا، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ نُفَرِّطَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ نُقَصِّرَ فِي أَمْرِ غَيْرِنَا بِهَا؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَخْرُجَ الْوَاحِدُ مِنَّا مِنْ بَيْتِهِ إِلَى المَسْجِدِ وَأَوْلَادُهُ أَوْ إِخْوَانُهُ فِي الْبَيْتِ وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ؟
إِنَّنَا نَعِيشُ حَالَةً مُزْرِيَةً مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ؛ فَمِنَّا مَنْ لَا يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَا يُعَاتِبُهُمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِيهَا، بَيْنَمَا لَوْ قَصَّرُوا فِي دِرَاسَتِهِمْ قَلِيلًا لَقَامَتِ الدُّنْيَا وَلَمْ تَقْعُدْ. وَيَتَخَلَّفُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنِ المَسْجِدِ فَرْضًا وَفَرْضَيْنِ، أَوْ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، وَلَا يُحَرِّكُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ بَعْضِنَا شَيْئًا. بَيْنَمَا لَوْ تَغَيَّبَ عَنْ دِرَاسَتِهِ، أَوْ تَأَخَّرَ عَنْ وَظِيفَتِهِ؛ لَحَلَّ عَلَيْهِ الْغَضَبُ وَالْعِتَابُ، وَبُودِرَ بِاللَّوْمِ وَالْعِقَابِ.
يَسْتَحِيي الْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَأْمُرَ جِيرَانَهُ بِهَا، وَهُوَ يُجَالِسُهُمْ وَيُحَادِثُهُمْ، وَرُبَّمَا فَارَقَهُمْ إِلَى المَسْجِدِ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِهَا، وَلَا يَمْنَعُهُ تَخَلُّفُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَنْ يُجَالِسَهُمْ وَيُحَادِثَهُمْ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ.
وَيُفَارِقُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ مَكْتَبَهُ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ، وَزَمِيلُهُ بِجِوَارِهِ فَلَا يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ، وَيَمْكُثُونَ سِنِينَ عَلَى هَذَا الْحَالِ.
فَهَلْ هَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَأَمَرَ المُرْسَلِينَ أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِهَا، وَأَمَرَ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْمُرُوا أَهْلَهُمْ وَوَلَدَهُمْ وَغَيْرَهُمْ بِهَا؟
فَلْنُحْيِ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ بَيْنَنَا، وَنَأْمُرْ بِهَا كُلَّ مَنْ رَأَيْنَا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عَوْنًا لِلْمُقَصِّرِينَ فِيهَا، وَإِنْقَاذًا لَهُمْ مِنْ عُقُوبَاتِ التَّخَلُّفِ عَنْهَا، وَلَوْ كَثُرَ الْآمِرُونَ بِالصَّلَاةِ وَتَآزَرُوا لمَا بَقِيَ فِي الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ أَحَدٌ لَا يُصَلِّي، وَلَخَلَتْ مَكَاتِبُ الْوَظَائِفِ وَالشَّرِكَاتِ مِنْ مُوَظَّفِيهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَلَامْتَلَأَتِ المَسَاجِدُ بِالمُصَلِّينَ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ
25/6/1435هـ
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ؛ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَرْزَاقُ الْعِبَادِ وَآجَالهُمْ بِيَدَيْهِ، وَلَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَظَّمَ أَمْرَ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَتْ رَاحَتَهُ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ، وَغَرْغَرَ بِهَا فِي احْتِضَارِهِ، وَكَانَتْ آخِرَ وَصِيَّتِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ التَّقْوَى؛ فَإِنَّكُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى رَاجِعُونَ، وَعَلَى أَعْمَالِكُمْ مُحَاسَبُونَ، وَأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، وَإِنَّ إِصْلَاحَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِإِحْسَانِ الْوُضُوءِ لَهَا، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى جَمَاعَتِهَا، وَإِتْمَامِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وَالْحِرْصِ عَلَى سُنَنِهَا، وَمُجَاهَدَةِ الْقَلْبِ عَلَى الْخُشُوعِ فِيهَا، وَإِتْبَاعِهَا بِنَوَافِلِهَا. وَإِنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِالتَّقْصِيرِ فِي طَهَارَتِهَا، وَالتَّخَلُّفِ عَنْ جَمَاعَتِهَا، وَبَخْسِ أَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وَتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَهِيَ الْقَاصِمَةُ الَّتِي تَقْصِمُ عَمَلَ الْعَبْدِ، حِينَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي تَأْخِيرِهَا، فَتُرَدُّ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَمَا أَكْثَرَ الْوَاقِعِينَ فِي هَذَا الْإِثْمِ الْعَظِيمِ، وَالذَّنْبِ الْكَبِيرِ!
أَيُّهَا النَّاسُ: الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ التَّشْرِيعِ، وَهَذَا يَلْفِتُ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدِّينِ. ثُمَّ تَتَابَعَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ لِتُؤَكِّدَ ذَلِكَ، وَتَدُلَّ عَلَيْهِ.
وَلَوْ نَظَرْنَا فِي الْقُرْآنِ لَوَجْدَنَا الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ كُرِّرَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً، فَتَارَةً يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِذَلِكَ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]. وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِلْقُرْآنِ وَمُسْتَمِعٍ لَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ هَذَا الْأَمْرَ الرَّبَّانِيَّ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فَإِنَّهُ كُرِّرَ فِي الْقُرْآنِ تِسْعَ مَرَّاتٍ. وَفِي أَمْرٍ رَبَّانِيٍّ آخَرَ ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 29].
وَأَحْيَانًا يُؤْمَرُ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، وَالْأَمْرُ لَهُ أَمْرٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أُمَّتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [الإسراء: 78]، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [العنكبوت: 45]، فَلْيَتَخَيَّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَقَدْ بَلَغَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُخَاطِبُهُ بِهَا فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي أَقِمِ الصَّلَاةَ. إِنَّهُ لَشَرَفٌ مَا بَعْدَهُ شَرَفٌ أَنْ يَأْمُرَكَ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُحْيِي المُمِيتُ بِأَمْرٍ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْلِكُ مَصِيرَكَ المَاضِي وَالْحَاضِرَ وَالمُسْتَقْبَلَ، وَحَيَاتَكَ كُلَّهَا، وَبَعْثَكَ بَعْدَ المَوْتِ، وَسَعَادَتَكَ الْأَبَدِيَّةَ أَوْ شَقَاءَكَ الْأَبَدِيَّ، فَكُلُّ ذَلِكَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَبِهَذَا نَعْلَمُ حَجْمَ جُرْمِ مَنْ يَأْمُرُهُ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، فَلَا يُقِيمُهَا؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِتِجَارَةٍ أَوْ لَهْوٍ أَوْ مُحَادَثَةٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَنُدْرِكُ فَدَاحَةَ خَسَارَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمَعَ أَنَّ جُمْلَةَ (أَقيمُوا الصَّلَاةَ) يَدْخُلُ فِيهَا النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ؛ إِلَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَصَّ النِّسَاءَ بِخِطَابٍ خَاصٍّ لَهُنَّ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ﴾ [الأحزاب: 33] وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَهَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، وَفَخَامَةِ قَدْرِهَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَا يَقْتَصِرُ الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، بَلْ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ إِقَامَتِهَا؛ إِذْ يَتَضَمَّنُ المُحَافَظَةَ عَلَى وَقْتِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَخُشُوعِهَا ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238].
وَيَأْمُرُنَا رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ فِي المُلِمَّاتِ ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ عَمَلِيٍّ تَعَبُّدِيٍّ بَلَّغَهُ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ الصَّلَاةُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ قَبْلَ الْجَهْرِ بِالدَّعْوَةِ يُصَلُّونَ مُسْتَخْفِينَ، وَكَانَتْ صَلَاتَيْنِ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، كَمَا فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ.
ثُمَّ إِذَا نَظَرْنَا فِي حَادِثَةِ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ نَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالصَّلَاةِ مُبَاشَرَةً، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ، وَلَكِنْ كَمَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلتَّأْكِيدِ؛ وَلِبَيَانِ عَظَمَةِ الصَّلَاةِ وَقَدْرِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ فَهُوَ أَيْضًا شَرْعٌ جَدِيدٌ لِخَمْسِ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَدَلَ صَلَاتَيْنِ فَقَطْ، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ تَخْفِيفِهَا إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً».
وَمِنْ شِدَّةِ عَظَمَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكْتَفِ بِأَمْرِهِ إِيَّانَا بِهَا حَتَّى أَمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَأْمُرَنَا بِهَا ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: 31]. فَأَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ، وَأَمْرٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَأَمْرٌ ثَالِثٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يَأْمُرَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ بِهَا، وَأَنْ يَصْطَبِرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً وَرَهَقًا، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَمَلُّ وَيَتْعَبُ فَيَتْرُكُ أَمْرَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ بِالصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاصْطِبَارِ عَلَى ذَلِكَ ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132].
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُكَرِّرُ دَعْوَتَهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مِنْ أَسَاسَاتِ الدَّعْوَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ لمَّا قَابَلُوا النَّجَاشِيَّ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ لَمْ يَسْجُدُوا لَهُ عَلَى عَادَةِ مَنْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ يُحَيُّونَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ؛ وَفِي قِصَّةِ دُخُولِهمْ عَلَيْهِ قَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أنا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ. فَاتَّبَعُوهُ، فَسَلَّمَ ولم يَسْجُدْ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ؟ قَالَ: إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ ﷺ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ...» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
بَلْ إِنَّ أَمْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالصَّلَاةِ لَمْ يَعْلَمْهُ المُؤْمِنُونَ فَقَطْ، بَلْ عَلِمَهُ المُشْرِكُونَ أَيْضًا؛ إِمَّا لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ مَا أَمَرَ بِهَا المُؤْمِنِينَ حَتَّى بَلَغَ أَمْرُهُ بِهَا المُشْرِكِينَ؛ وَلِذَا لمَّا قَابَلَ المُشْرِكُونَ هِرَقْلَ عَظِيمَ الرُّومِ لِيُحَرِّضُوهَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَتْبَاعِهِ سَأَلَهُمْ هِرَقْلُ عَمَّا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، فَقَالُوا: «يَقُولُ: اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ...» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنَ الْإِغْرَاءِ بِالصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَصَّ عَلَيْنَا أَخْبَارَ أَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ مَنْ كَانُوا قَبْلَنَا؛ لِيُحَفِّزَنَا إِلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَلِنَأْمُرَ بِهَا غَيْرَنَا؛ فَحَكَى لَنَا سُبْحَانَهُ تَشْرِيفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَكْلِيمِهِ إِيَّاهُ فِي الْوَادِي المُقَدَّسِ طُوًى، فَكَانَ كَلَامُهُ تَعَالَى لَهُ مُتَضَمِّنًا أَمْرَهُ إِيَّاهُ بِالصَّلَاةِ ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14].
وَيَا لَلْعَجَبِ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ فَأَمَرَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَرَ بِهَا مُحَمَّدًا ﷺ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، فَهَلْ يُفَرِّطُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَيَقْرَؤُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؟!
وَلمَّا أُوذِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي دِينِهِمْ لَمْ تَسْقُطِ الصَّلَاةُ عَنْهُمْ، بَلْ أُمِرُوا أَنْ يَسْتَخْفُوا بِهَا فِي بُيُوتِهِمْ ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [يونس: 87].
وَالمِيثَاقُ هُوَ الْعَهْدُ المُغَلَّظُ المُؤَكَّدُ، وَقَدْ أُخِذَ المِيثَاقُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَضَمِّنًا أَمْرَهُمْ بِالصَّلَاةِ.
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أَمْرِهِ جَمْعًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ [الأنبياء: 73].
وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لمَّا نَطَقَ فِي المَهْدِ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31].
وَفِي قِصَّةٍ عَظِيمَةٍ بَيْنَ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ حَاضِرًا فِيهَا، حَدَّثَ بِهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ تَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أُبَلِّغَهُنَّ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي، إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ، أَوْ يُخْسَفَ بِي، قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، حَتَّى امْتَلَأَ المَسْجِدُ، وَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ...»، وَكَانَ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ المَأْمُورِ بِهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا...» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا أَخْبَارَ الْآمِرِينَ بِالصَّلَاةِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؛ فَأَثْنَى عَلَى أَبِينَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾ [مريم: 55].
وَقَصَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا مُحَاوَرَةَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، وَكَانَ مِنْهَا ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ [لقمان: 17]، وَاشْتُهِرَ لُقْمَانُ بِأَنَّهُ حَكِيمٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَالْحَكِيمُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يَنْفَعُ المَأْمُورَ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَأَهْلَنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَجِيرَانَنَا، وَأَنْ يَهْدِيَ المُقَصِّرِينَ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ، حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 72].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لِمَا لِلصَّلَاةِ مِنْ مَنْزِلَةٍ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَلِمَكَانَتِهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ فِي المَسْجِدِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا الصُّبْحَ، فَقَالَ: أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى المُنَافِقِينَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ ...» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ أُمِرَ بِهَا الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِلَّا الصَّلَاةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِعَظَمَتِهَا؛ وَحَتَّى تَرْتَاضَ نَفْسُهُ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ مَنِ اعْتَادَ الصَّلَاةَ صَغِيرًا حَافَظَ عَلَيْهَا كَبِيرًا. قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا...»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: قَالَ ﷺ: «إِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرًا ضُرِبَ عَلَيْهَا» رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «حَافِظُوا عَلَى أَبْنَائِكُمْ فِي الصَّلَاةِ».
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ الصَّلاَةَ إذَا عَرَفَ يَمِينَهُ من شِمَالِهِ».
وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَعْظِيمِ أَمْرِ الصَّلَاةِ، وَتَعْلِيمِهَا الصِّبْيَانَ، وَحَمْلِ الْعِيَالِ عَلَيْهَا، وَأَمْرِ الْأَهْلِ بِهَا.
هَذَا غَيْرُ الْأَوَامِرِ الْكَثِيرَةِ المُنَوَّعَةِ بِالصَّلَاةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَنَا وَلِلْأُمَمِ قَبْلَنَا، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ نُفَرِّطَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ نُقَصِّرَ فِي أَمْرِ غَيْرِنَا بِهَا؟ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَخْرُجَ الْوَاحِدُ مِنَّا مِنْ بَيْتِهِ إِلَى المَسْجِدِ وَأَوْلَادُهُ أَوْ إِخْوَانُهُ فِي الْبَيْتِ وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ؟
إِنَّنَا نَعِيشُ حَالَةً مُزْرِيَةً مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ؛ فَمِنَّا مَنْ لَا يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَا يُعَاتِبُهُمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِيهَا، بَيْنَمَا لَوْ قَصَّرُوا فِي دِرَاسَتِهِمْ قَلِيلًا لَقَامَتِ الدُّنْيَا وَلَمْ تَقْعُدْ. وَيَتَخَلَّفُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنِ المَسْجِدِ فَرْضًا وَفَرْضَيْنِ، أَوْ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، أَوْ أُسْبُوعًا أَوْ شَهْرًا، وَلَا يُحَرِّكُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ بَعْضِنَا شَيْئًا. بَيْنَمَا لَوْ تَغَيَّبَ عَنْ دِرَاسَتِهِ، أَوْ تَأَخَّرَ عَنْ وَظِيفَتِهِ؛ لَحَلَّ عَلَيْهِ الْغَضَبُ وَالْعِتَابُ، وَبُودِرَ بِاللَّوْمِ وَالْعِقَابِ.
يَسْتَحِيي الْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَأْمُرَ جِيرَانَهُ بِهَا، وَهُوَ يُجَالِسُهُمْ وَيُحَادِثُهُمْ، وَرُبَّمَا فَارَقَهُمْ إِلَى المَسْجِدِ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا يَأْمُرُهُمْ بِهَا، وَلَا يَمْنَعُهُ تَخَلُّفُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَنْ يُجَالِسَهُمْ وَيُحَادِثَهُمْ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ.
وَيُفَارِقُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ مَكْتَبَهُ لِأَدَاءِ فَرْضِهِ، وَزَمِيلُهُ بِجِوَارِهِ فَلَا يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاةِ، وَيَمْكُثُونَ سِنِينَ عَلَى هَذَا الْحَالِ.
فَهَلْ هَانَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَأَمَرَ المُرْسَلِينَ أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِهَا، وَأَمَرَ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْمُرُوا أَهْلَهُمْ وَوَلَدَهُمْ وَغَيْرَهُمْ بِهَا؟
فَلْنُحْيِ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ بَيْنَنَا، وَنَأْمُرْ بِهَا كُلَّ مَنْ رَأَيْنَا؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عَوْنًا لِلْمُقَصِّرِينَ فِيهَا، وَإِنْقَاذًا لَهُمْ مِنْ عُقُوبَاتِ التَّخَلُّفِ عَنْهَا، وَلَوْ كَثُرَ الْآمِرُونَ بِالصَّلَاةِ وَتَآزَرُوا لمَا بَقِيَ فِي الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ أَحَدٌ لَا يُصَلِّي، وَلَخَلَتْ مَكَاتِبُ الْوَظَائِفِ وَالشَّرِكَاتِ مِنْ مُوَظَّفِيهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَلَامْتَلَأَتِ المَسَاجِدُ بِالمُصَلِّينَ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
عمود الإسلام 10.doc
عمود الإسلام 10.doc
عَمُودُ الْإِسْلَامِ.doc
عَمُودُ الْإِسْلَامِ.doc
المشاهدات 4357 | التعليقات 6
بارك الله فيك يا شيخ إبراهيم ونفع بك الإسلام والمسلمين وجعل ذلك في مزان حسناتك
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله عنا خير الجزاء شيخنا المبارك ..,,
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
شكر الله تعالى لكم أيها المشايخ الفضلاء مروركم وتعليقكم وتقبل دعواتكم
جزاك الله خيرا وأحسن إليك وبارك لك وفيك .
أكتب هنا الآن لرفع الموضوع ؛ إذ أن من المحزن أن كثيرا من الناس تغير نمط حياتهم وأبناءهم لما بدأت الدراسة وأما الصلاة ...
ابو عبدالله التميمي
بارك الله فيك يا شيخ .خطبة موفقة. تحكي الواقع.
تعديل التعليق