الأمانة كما يصورها القرآن الكريم... الشيخ السيد طه أحمد

Sheikh Sayed2019
1444/05/08 - 2022/12/02 22:45PM

الأمانة كما يصورها القرآن الكريم

إعداد:

الشيخ السيد طه أحمد

الحمد لله رب العالمين، خلق الكون ووضع كل شيء في موضعه بنظام دقيق، واستأمن الإنسان على هذا الكون وحمله الأمانة العظمى بعدما عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحمله الإنسان، فقال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير؛ جعل الأمانة من أخلاقه العظيمة، فهو القائل: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64].

وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربَّى أتباعه على الصدق والأمانة فربط بين الإيمان والأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)؛ رواه أحمد.

فاللهم صل على سينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

أمَّا بعدُ: فيا أيها المؤمنون..

 لقد أعطتنا الهجرة درسًا عظيمًا في التمسك بالأخلاق العالية في أحلك المواقف ومع أعدى الأعداء، وهي أنَّ المبادئ لا تتجزَّأ، وأنَّ الالتزامَ بها ضرورةٌ لأهل العقيدة، رغمَ كلِّ الظروف، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان حريصًا على أداءِ الأمانات التي كانتْ مودعةً لديه إلى أهلها، وهو القائِل: (أدِّ الأمانةَ لمَن ائتمنَك، ولا تَخُن مَن خانك)، فترَك على بنَ أبي طالِب رضي الله عنه في فِراشه، وهو أمرٌ عجيب، هؤلاءِ الناس استباحوا دمَه، وأرادوا قتْلَه، بل أدْمَوه وآذوه وطردوه، لكنَّه لم يشأْ قتلَهم، ولم يستبِحْ أموالهم، ولو كلَّفه ذلك بالمخاطرةِ بابن عمِّه، وصَدَق الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].

لذلك رأينا أن نربي أنفسنا وأولادنا على خلق الأمانة حتى يسعد المجتمع ويسعد معه أفراده جميعا وتنهض الأمة من كبوتها، لذلك كان حديثنا عن (الأمانة كما يصورها القرآن الكريم)، وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية، وهي:

1- تعريف الأمانة.

2- مكانة الأمانة في الإسلام.

3- حاجة الأمة إلى الأمانة.

4- مجالات الأمانة في الحياة.

5- أثر الأمانة على الفرد والمجتمع.

6- كيفية اكتساب خلق الأمانة.

العنصر الأول: تعريف الأمانة:

الأمانةُ ضد الخيانة وهي صفة جميلة، وهي وضع كل شيء في موضعه، وهي أداء الحقوق، والمحافظة عليها، فالمسلم يعطي كل ذي حق حقه.

ورأينا في القرآن الكريم مخايل الأمانة على نبي الله موسى عليه السلام، حين سقى لابنتي الشيخ الكبير ورفق بهما، واحترم أنوثتهما وكان معهما شريفًا عفيفًا، قال تعالى: }فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ (24) فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (25) قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا يَٰٓأَبَتِ ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ (26)){ القصص.

وهنا يظهر لنا في تعريف الأمانة أنها:

1- عفة الأمين عما ليس له به حق.

2- تأدية الأمين ما يجب من حق لغيره.

3- اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه من حقوق وعدم التفريط بها والتهاون بشأنها.

 

 العنصر الثاني: مكانة الأمانة في الإسلام:

الأمانة خلق جليل من أخلاق الإسلام، وأساس من أسسه، فهي فريضة عظيمة حملها الإنسان، بينما رفضت السموات والأرض والجبال أن يحملنها لعظمها وثقلها، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]

1- الأمانة خلق من أخلاق الله عز وجل، فإنه إذا استودع شيئًا حفظه، وإذا أئتمن على شيء رعاه حق الرعاية؛ حيث يقول ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ يوسف.

2- الأمانة خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين.

3- من أخص خصائص المجتمع الإيماني ولقد أثنى الله على عباده المؤمنين بحفظهم للأمانة، فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].

فالأمانة هي الصفة المميزة للمجتمع الإسلامي بل هي أخص خصائصه وسبب فلاحه في الدنيا حيث تصان حقوق الناس وتحفظ أموالهم وسبب فلاحه في الآخرة إذ جعل الله رعاية الأمانة وحفظها وأدائها ضمن الصفات الإيمانية التي تثمر الفلاح للمؤمنين والفوز بجنة الفردوس؛ قال تعالى في بداية المؤمنون ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، وبعد أن عدد صفاتهم وجعل منها الأمانة: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، قال في النهاية: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 10، 11].

4- الأمانة دليل على إيمان العبد بالله تعالى، والخيانة دليل نفاقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان) البخاري.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)؛ حديث صحيح رواه أحمد في مسنده.

5- إنها من أغلى ما يرزقه الله للعبد، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا، كما جاء في

الحديث (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن

 الخلق، وعفة مطعم) صحيح الترغيب.

6- سر السعادة في الدنيا والآخرة:

ولما كانت السعادة القصوى أن يوقى الإنسان شقاء العيش في الدنيا وسوء المنقلب في الآخرة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في استعاذته بين الحالين معا إذ قال ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)).

7- تؤدي للبر والفاجر:

قال ميمون بن مهران: (ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم ).

لذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليا في فراشه ليلة الهجرة المباركة لأداء الأمانات ورد الودائع إلى أهلها برغم ما فعلوه معه ومع أصحابه الكرام من اضطهاد وإيذاء.

ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا أن قيم الإسلام ثابتة لا تتجزأ ولا تتغير.

8- لا يحملها الرجال أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة، وهي فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، بل إنها تُثقِل كاهل الوجود كله، ومن ثَم فلا ينبغي لإنسان أن يستهين بها، أو يُفْرِط في حقِّها، ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السموات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ﴾ [الأحزاب: 72].

9- سبب من أسباب نيل محبة الله عز وجل لمحبة الله قال صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدَّث، وليؤد أمانته إذا ائتمن)؛ رواه البيهقي وحسنه الألباني.

10- الأمانة يعلو بها شأن الرجال وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم شأن أبي عبيدة رضي الله عنه، فيقول: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)؛ رواه البخاري.

العنصر الثالث: حاجة الأمة إلى الأمانة:

إن الأمة في أمس الحاجة إلى الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والوفاء؛ لأن الأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها، وتلفت الأنظار لها، ويتحير أعداؤها فيها، وبقدر ما تنحط أخلاقها، وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم، وكم سادت أمة ولو كانت كافرة وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق، فإذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح أمن الناس، وحفظت الحقوق، وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع، وقلت الرذيلة، وزادت الفضيلة، وقويت شوكة الإسلام، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب، والخيانة، والظلم، والغش، فسد المجتمع واختل الأمن، وضاعت الحقوق، وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع، وضعفت الشريعة في نفوس أهلها، وانقلبت الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)؛ رواه أحمد.

 

 

العنصر الرابع: مجالات الأمانة في الحياة:

الأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، وهي ترمز إلى معانٍ شتَّى مناطها جميعًا شعور المرء بتبعيته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربِّه، فالعوام يقصرون الأمانة في أضيق معانيها وآخرها ترتيبًا وهو حفظ الودائع مع أن حقيقتها في دين الله أضخم وأثقل، إنها الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، حتى إنه عندما يكون أحدهم على أهبة سفر يقول له أخوه استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، وقد أمر الشارع بحفظ الأمانة وأدائها، وذم الخيانة، وحذر منها في نصوص كثيرة؛ منها:

 ‌قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ {النساء:58}.

ذكر ابن كثير رحمه الله أنها عامة في جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، وهي نوعان: حقوق الله تعالى من صلاة وصيام وغيرهما وحقوق العباد كالودائع وغيرها.

والأمانة مع ثقلها إلا أنها ليست مستحيلة، بل تتوج بها عباد الله الصالحين، حتى وصفهم الله بها فقال تعالى: "﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾"{المؤمنون:8}.

والتفت إلى هذا التناغم اللفظي والمعنوي بين الإيمان والأمانة، في قول الحبيب: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ {الأنفال:27}.

‌وقال صلى الله عليه وسلم في الأمر بردِّ الأمانة: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)؛ أبو داود والترمذي.

ومجالات الأمانة متعددة، وهي:

1- الأمانة على دين الله تعالى:

وتلك أعلى مراتب الأمانة؛ لأن أعز ما يملكه الإنسان وأثمن شيء وأغلاه، دين الله وهو أتم النعم وأسبغها على المسلم: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

والإسلام تمام النعمة وما رضيه الله لنا وهو تاج الرؤوس ووسام الصدور؛ لأنه تسمية الله تعالى لنا: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ (78) الحج.

والأمانة على دين الله تتمثل في فهمه ووعيه واستيعابه والالتزام به والدعوة إليه وتسخير جميع الطاقات والامكانات الفردية والجماعية لنشرة في ربوع العالمين.

فمن الأمانة أن يلتزم المسلم بالتكاليف، فيؤدي فروض التي افترضها الله عليه على أتم وجه قاصدًا بها وجه الله تعالى.

2- الأمانة في المسؤولية والقيادة:

من معاني الأمانة وضع كل شيء في المكان الجدير به واللائق له فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها واعتبار الولايات والأعمال العامة أمانات ثابت من وجوه كثيرة،

فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله، ألا تستعملني؟- معنى الاستعمال هنا أن يجعله عاملًا، واليًا، حاكمًا، موظفا كبيرًا، رجل مسؤولية،- قال: فضرب بيده على منكبي- تحببًا، وترفقًا، وتلطفًا- ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف- أي القيادة تحتاج إلى خصائص- وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)؛ [أخرجه مسلم في الصحيح، وأبو داود والنسائي في سننهما عن أبي ذر].

إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح النفس قد يكون الرجل رضي السيرة حسن الإيمان ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينة.

ألا ترى إلى سيدنا يوسف الصديق إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب بل بحفظه وعلمه أيضا ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55].

وأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول جلدا لها فحذره منها والأمانة تقتضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها فإذا ملنا إلى غيره بهوي أو رشوة أو قرابة فقد ارتكبا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإسْنَادِ.

وعن يزيد بن أبي سفيان: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفًا ولا عدلا حتى يدخله جهنم)؛ رواه مسلم.

والأُمَة التي لا أمانة فيها هي الأُمَة التي تعبث فيها الشفاعاتُ بالمصالح المقرَّرة، وتطيش بأقدار الرجال الأكْفَاء؛ لتهملهم وتُقَدم مَنْ دونهم، وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذي يقع آخر الزمان؛

فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: جاء رجل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة! فقال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: ((إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)؛ رواه البخاري.

والوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه، وهو مسؤول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده، وهو مسؤول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)؛ أخرجاه في الصحيحين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة)؛ رواه مسلم،

ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل: السلام عليك: أيها الأمير، فقال السلام أيها الأجير، فقالوا: قل: أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل: الأمير، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم، فإنه أعلم بما يقول، فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها، وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها، عاقبك سيدها.

وهذا ظاهر الاعتبار، فإن الخلق عباد الله، الولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على أنفسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلاً، وترك من هو أصلح للتجارة أو المقارب منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن، فقد خان صاحبه، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قربة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه.

3- الأمانة في حفظ الجوارح:

وعلى المسلم أن يعلم أن الجوارح والأعضاء كلها أمانات، يجب عليه أن يحافظ عليها، ولا يستعملها فيما يغضب الله، وأن تنظر إلى حواسك التي أنعم الله بها عليك وإلى المواهب التي خصك به، وإلى ما حُبيت من أموال وأولاد، فتدرك أنها ودائع الله الغالية عندك، فيجب أن تسخرها في قرباته، وأن تستخدمها في مرضاته، فإن امتحنت بنقص شيء منها، فلا يستخفنك الجزع متوهمًا أن ملكك المحض قد سُلِب منك، فالله أولى بك منك، وأولى بما أفاء عليك، وله ما أخذ وله ما أعطى! وإن امتحنت ببقائها، فما ينبغي أن تجبن بها عن جهاد أو تفتتن بها عن طاعة، أو تستقوي بها على معصية؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 27، 28].

4- أمانة المجالس:

ومن معاني الأماني أن تحفظ حقوق المجالس التي تشارك فيها، فلا تدع لسانك يفشي أسرارها ويسرد أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس وذكرهم ما يدور فيه من كلام منسوبًا إلى قائله، أو غير منسوب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث رجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة).

وحرمات المجالس تُصان ما دام الذي يجري فيها مضبوطًا بقوانين الأدب وشرائع الدين، وإلا فليس لها حُرمة، وعلى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم؛ ليلحقوا به الأذى- أن يسارع إلى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته؛ قال رسول الله: (المجلس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق).

5- أمانة الكلمة:

يقول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم24-27].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ (18){ ق.

ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالًا من رضوان الله، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم)؛ رواه البخاري، ومسلم.

كم من كلمة أفرحت وأخرى أحزنت، وكم من كلمة انشرح لها الصدر، وأنس بها الفؤاد، وأحس بسببها سعة الدنيا، وأخرى انقبضت لها النفس، واستوحشها القلب، وألقت قائلها أو سامعها في ضيق أو ضنك، فضاقت الدنيا على رحبها، وكم من كلمة آست جروحًا، وأخرى نكأت، وأحدثت حروقًا وآلامًا، والكلمة في الإسلام ليست حركات يؤديها المرء، دون شعور يتبعها، بل إن الانضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصادقين، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ * الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 1-3].

والمؤمن الحق يشعر بقيمة كلمته؛ حيث يعرف أنها معراج للطهر وسبيل إلى الصلاح، وفي ذلك أجمل عزاء حينما تنازعه نفسه؛ ليحارب أرباب الكلام في كثرته وتفلته، دون حسيب أو رقيب؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].

قال ابن كثير رحمه الله: "يقول الله تعالى آمرًا عباده المؤمنون بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولًا سديدًا؛ أي: مستقيمًا لا اعوجاج فيه، ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم؛ أي: يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم ذنوبهم الماضية، وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منه"؛ تفسير ابن كثير.

ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم: (والكلمة الطيبة صدقة)؛ رواه مسلم.

وإن سلامة الإيمان مرتبطة بنزاهة اللسان؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)؛ رواه البخاري، ومسلم.

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تتبعوا عورات الناس، فمن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، وفضحه ولو في بيته)؛ رواه البيهقي بلفظ ونحوه.

فعلى المسلم أن ينزه لسانه من كل قبيح، وما أجمل أن يجري على لسانه الذكر والتسبيح والتحميد والاستغفار وكلمة الحق، وما أقبح أن يجري على لسانه كلمة زور أو كذب أو غيبة أو نميمة، أو استهزاء واستخفاف بالناس، أو لعن أو إفشاء سر أخيه عند الخصومة، وعلى المسلم أن يضبط لسانه عند الكلام أثناء الغضب أو الجدال، فربَّما طلق زوجته أثناء الغضب، فيكون قد أذى نفسه وأسرته ويندم ولات ساعة مندم.

6- أمانة العلاقة الزوجية:

وللعلاقات الزوجية في نظر الإسلام قداسة، فما يضمه البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يُطوى في أستار مسبلة، فلا يطلع عليه أحد مهما قرب، والسفهاء من العامة يُثرثرون بما يقع بينهم وبين أهلهم من أمور، وهذا وقاحة حرمها الله،

فعن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال: (لعل رجلاً يقول: ما فعل بأهله، ولعل امرأة تُخبرها بما فعلت مع زوجها)، فأزَمَّ القوم- سكتوا وجلين- فقلت: أى والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلنَ! قال: فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك شيطان لقِي شيطانة، فغَشِيها والناس ينظرون)،

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها).

7- أمانة الودائع:

والودائع التي تدفع إلينا لنحفظها حينًا ثم نردها إلى ذويها حين يطلبونها، هي من الأمانات

 التي نُسأل عنها؟

وقد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها، مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، لكن الشريف لا يتضع مع الصغار، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة عن ابن جريج؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]،

 قال: نزلت في عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قَبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاحَ الكعبة، ودخلَ به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، قال ميمون بن مهران: "ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة والعهد وصلة الرحم".

واعتبار الوديعة غنيمة باردة هو ضرب من السرقة الفاجرة؛

عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "القتل في سبيل الله يُكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يُؤتي بالعبد يوم القيامة وإن قُتل في سبيل الله، فيُقال: أدِّ أمانتك! فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيُقال: انطلقوا به إلى الهاوية وتُمثل له أمانته كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يُدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظنه أنه خارج زلَّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الأبدين، ثم قال: الصلاة أمانة والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع"، قال راوي الحديث: فأتيتُ البراء بن عازب، فقلتُ: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا! قال البراء: صدق، أما سمعت الله يقول: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".

وقد أُلْحِق بالودائع الديون؛ لأن المدين بقرض أو سلم أو بيع لأجَلٍ؛ إما أن يكون قد أخذ أموال الناس يريد أداءها، وإما أن يكون قد أخذها يريد إتلافها، وآخذها يريد أداءها فقد أدى الأمانة، وإلا فقد خان الأمانة،

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ))؛ (البخاري، ابن ماجه، أحمد)، وقال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ (283) البقرة.

وقد جاء في الحديث الصحيح نموذجًا لمن يؤدي الأمانة ويوفي ما عليه؛ روي البخاري رحمه الله تعالى بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: (إن رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إلى بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا).

العنصر الخامس: أثر الأمانة على الفرد والمجتمع:

1- إن الله يحب الأمناء ويحبهم رسول الله، ثم يحبهم الناس لذلك.

2- شيوع الثقة والتعاون بين أفراد المجتمع.

3- وجود الطمأنينة وراحة البال وسهولة التعامل بين الناس.

4- تورث الذكر الجميل بين الناس.

فالأمانة يسعد المجتمع، فتعم المودة والمحبة والإيثار، ونبذ الأنانية وحب الذات، ويتنافس كل فرد في المجتمع في التفاني في إسعاد الجميع، وهذه بعض النماذج العالية التي تبيِّن أثر الأمانة على الفرد والمجتمع؛ قال صلى الله عليه وسلم وهو يحكي لأصحابه رضي الله عنهم: (اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم ابتع منك الذهب، فقال الذي شرى الأرض- (أي: الذي باعها): إنما بعتك الأرض وما فيها، قال: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام بالجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدَّقا".

وهذا يونس بن عبيد كان من أكابر السلف الصالح، كان يبيع الثياب في محله، وقد رتبها بحسب أسعارها؛ نوع بأربعمائة درهم، ونوع بمائتين، خلف ابن أخيه في الدكان، فجاء رجل، وطلب ثوبًا بأربعمائة، فعرض عليه ثوب المائتين، فاستحسنه، وطلبه، واشتراه ومشى به، ووضعه على يده، فاستقبله يونس، فعرف ثوبه، فسأله: بكم اشتريت هذا الثوب؟ قال: بأربعمائة، قال هذا لا يساوي أكثر من مائتين، فارجع حتى نرده، قال: يا هذا، هذا يساوي في بلدنا خمسمائة وأنا ارتضيته، فقال يونس: انصرف إلى الدكان؛ لنعيد لك فرق الثمن، فإن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها، ثم أخذه إلى المحل ورد عليه المائتين، وخاصم ابن أخيه، وقال له، أما استحييت! أما اتقيت الله عز وجل! تربح مثل الثمن، وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذه إلا ورضِي به، قال فهلا رضيتَ له ما ترضاه لنفسك!

وهذا العالم الجليل الإمام أبو حنيفة النعمان، كان تاجر قماش، جاءته امرأة بثوب حرير تبيعه له، فقال: كم ثمنه؟ قالت: مائة، فقال أبو حنيفة، هو خير من مائة، بكم تقولين؟ فزادت: مائة، قال: هو خير من مائتين، فكم تقولين؟ قالت: أربعمائة، قال: هو خير من ذلك، قالت: أتهزأ بي، وظنت أنه يهزأ بها، قال: لا والله، هاتِ رجلًا يقومه، فجاءت برجل فاشتراه بخمسمائة، وها هو أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى جاءته امرأة ضعيفة فقيرة، وإنها أمانة، بعني هذا الثوب بما يقوم عليك، فقال: خذيه بأربعة دراهم، قالت: لا تسخر مني، وأنا عجوز، قال: إني اشتريت ثوبين، فبعتُ أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، بقي هذا الثوب عليّ بأربعة دراهم، فخذيه بهم.

أيها الإخوة الكرام، لن نصل إلى ما نريد حتى نضبط كل شؤون حياتنا وَفق شرع الله عز وجل.

العنصر السادس: كيفية اكتساب خلق الأمانة:

1- تذكر المسؤولية والموقف أمام الله يوم القيامة، والأمانة التي تدعو إلى رعاية الحقوق وتعصم عن الدنايا لا تكون بهذه المثابة، إلا إذا استقرت في وجدان المرء ورست في أعماقه وهيمنت على الداني والقاصي من مشاعره!

وذلك معنى حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله: (إن الأمانة نزلت في جذر قُلُوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة).

والعلم بالشريعة لا يغني عن العمل بها، والأمانة ضمير حي إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة، فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة، فما يغني عن المرء ترديد للآيات، ولا دراسة السنن؟

وأدعياء الإسلام يزعمون للناس وقد يزعمون لأنفسهم أنهم أُمناء، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق!

ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه لتسرُّب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، فيروى عن الرسول: (ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: ينامُ الرجل النومة، فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت- وهو الأثر المغاير كالنقطة على الصحيفة- ثم ينام الرجل النومة، فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل- كالثبور التي تظهر في اليد مثلاً في استخدام الأدوات الخشنة- ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يُقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، وحتى يُقال للرجل:

ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان).

والحديث يصوِّر انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرًا محرجًا، فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة، تمر بها وليست منها، وقد تترك من مرها أثرًا لاذعًا، بيد أنها لا تحيي ضميرًا مات، وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته، غير مكترث بكفر أو إيمان!

2- التعود والتنشئة، وتعظيم مكانتها في نفس المسلم منذ الصغر.

3- السعي لحسن الذكر في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة بفضل الله، ثم بالتحلي بالأخلاق الحميدة، ومنها الأمانة.

4- تذكر عاقبة الخيانة وأنها دليل على النفاق.

5- الاستفادة من سيرة السلف الصالح وحالهم مع الأمانة.

وفي الختام:

أيها المؤمنون، إن الأمانة بهذا المعنى شاملة لكل ما استحفظ عليه العبد من حقوق؛ سواء كانت لله أو لخلقه، وخيانتها من صفات أهل الكفر والنفاق، فهيَّا معًا لنحيي خُلقًا عظيمًا من أخلاق الإسلام، ولنجاهد أنفسنا عليه؛ لننال عظيم الأجر من الله جل وعز، والله الموفق والمستعان.

انتهت بفضل الله وبتوفيقه

المرفقات

1670010304_الأمانة كما يصورها القرآن الكريم.pdf

المشاهدات 485 | التعليقات 0