الأمانة

محمد بن إبراهيم النعيم
1438/02/17 - 2016/11/17 10:48AM
خطبة د. محمد بن إبراهيم النعيم-رحمه الله- 11/7/1433هـ


الحمد لله ....

الأمانة كلمة عظيمة شاملة لعبادات كثيرة، ولا تقتصر على أداء الأمانات والودائع كما يظن البعض، قَالَ الإِمَام اِبْن الأَثِير فِي النِّهَايَة : الأَمَانَة تَقَع عَلَى الطَّاعَة وَالْعِبَادَة وَالْوَدِيعَة وَالثِّقَة وَالأَمَان, وَقَدْ جَاءَ فِي كُلّ مِنْهَا حَدِيث.
وقد جاء عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، ثم قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أد أمانتك، فيقول: أي رب كيف وقد ذهبت الدنيا؟ قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها، فيعرفها، فيهوي في أثرها، حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا نظر، ظن أنه خارج، زلت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عدها، وأشد ذلك الودائع، قال زاذان: فأتيت البراء بن عازب فقلت ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا، قال: كذا. قال صدق، أما سمعتَ الله يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها رواه البيهقي موقوفا
ولقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يكرر ويحذر في خطبه أنه لا إيمان لمن لم يتخلق بالأمانة، فقد روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ قَالَ: (لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ) رواه أحمد.

وبين –صلى الله عليه وسلم- أن خير ما يملكه المرء في دنياه من خلق أن يكون أمينا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنْ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُهْرٍ) رواه الأمام أحمد.

وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيامِ بحقوقها الدرجات العلى من الجنة فقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَواتِهِمْ يُحَـافِظُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ)

ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: (اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ، اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) رواه أحمد.

أيها الأخوة في الله:
يقول الحق تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فهذه الآية تدل على أن الأمانة باعتبار متعلقِها تنقسم إلى قسمين:
أمانة تتعلق بحق الله على عباده وحق رسوله –صلى الله عليه وسلم-، والقسم الثاني أمانة تتعلق بحقوق الناس.
أما ما يتعلق بحق الله تبارك وتعالى وحق رسوله –صلى الله عليه وسلم- فيتمثل في إخلاص العبادة لله، بامتثال أوامره والبعد عن نواهيه، فأعظم الأمانة توحيد الله وأعظم الخيانة الإشراك بالله، وكذلك طاعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- فيما أمر.

وأما ما يتعلق بحق الناس فهناك أمانة تتعلق بحق الوالدين، وأمانةٌ تتعلق بحق الأبناء، وأمانة تتعلق بحق الجيران، وأمانة تتعلق بحق التجار، والموظفون مؤتمنون والمعلمون مؤتمنون، وكل في مجاله مؤتمن.

وبهذا يتبين أن الأمانة لا تختصُّ بأداء الودائع إلى أهلها، وإنما هي أشمل من ذلك.
فالمطلوب من المسلم أن يكون أمينا في كل شيء:
أن يكون أمينا في كتم الأسرار وعدم نشرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما المجالس بالأمانة) صحيح الجامع، وقال أيضا: (إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة) أحمد وأبو داود.

والمطلوب من المسلم أن يكون أمينا في حياته الزوجية، فإن أعظم الخيانة أن ينشر المسلم أسرار زوجته لأهله أو لأصدقائه، فعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها) رواه مسلم.

أي أعظم خيانة للأمانة أن يقوم الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها والعياذ بالله.

والإمارة والمنصب أمانة ومسؤولية عظيمة، فهي ليست تشريفا فحسب، وإنما هي مسؤولية، ولذلك عندما طلب أبو ذر الغفاري –رضي الله عنه- أن يكون مسئولا كبيرا في الدولة قال لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا) رواه مسلم.

‌والعجيب من الناس أنهم يفرحون أن يشار لهم بالبنان أنهم من كبار المسئولين في المجتمع، وما علموا عظم هذه الكلمة، وأنها تعني أنهم سيكونون من كبار المسئولين ومن كبار المحاسبين أمام الله تعالى عما اؤتمنوا عليه، ولذلك قال النبي  محذرا (إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ) رواه البخاري.

ولذلك من ولي مسؤولية مالية، فيجب عليه أن يتق الله في هذا المال وأن يكون أمينا عليه، فعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ –رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: (وَمَا لَكَ)؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ، مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) رواه مسلم.

فأين الذين يلعبون بمئات الملايين بل بالمليارات في مشاريع إما فاشلة أو مُبالغ في تكاليفها، فأين أمانتهم.
إن الخيانة في الأمانة من خصال المنافقين فقد قال –صلى الله عليه وسلم- : (آية المنافق ثلاث -وذكر منها- وإذا ائتُمن خان) متفق عليه.

وينبغي للمسلم أن يكون أمينا مع كل الناس، حتى مع من خانوه، وأن لا يعاملهم بالمثل، فقد روى التابعي الجليل يوسف بن ماهك المكي رحمه الله تعالى قال: كُنْتُ أَكْتُبُ لِفُلانٍ نَفَقَةَ أَيْتَامٍ كَانَ وَلِيَّهُمْ، فَغَالَطُوهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدَّاهَا إِلَيْهِمْ، - أي أداها الولي من جيبه الخاص - فَأَدْرَكْتُ لَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ مِثْلَيْهَا، قَالَ: قُلْتُ – أي قال يوسف لولي الأيتام - أَقْبِضُ الأَلْفَ الَّذِي ذَهَبُوا بِهِ مِنْكَ؟ قَالَ: لا، حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ –صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ) رواه أبو داود.

أسأل الله تعالى أن يعيننا على حمل الأمانة، وأن نؤديها على الوجه الذي يرضي ربنا، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية


الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أن قلة الأمانة في المجتمع نذير شر، وعلامة من علامات قرب الساعة، لما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: (أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ)؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ)، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ) رواها البخاري.

لقد استشرى تضييع الأمانة في كثير من المجتمعات بعد القرون الثلاثة المفضلة، وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك حيث قال: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أَدْرِي قَالَ النَّبِيُّ  بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، (ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ) متفق عليه.

ولذلك بين –صلى الله عليه وسلم- أن (أول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى) وفي حديث آخر قال (أول ما تفتقدون من دينكم الأمانة) رواه الطبراني.

فلنحذر التفريط في الأمانات التي حُمِّلنا إياها، ولنعلم أن لعظم الأمانة عند الله تعالى أنها الوحيدة مع الرحم ممن سيقف على الصراط، وهو أخطر كرب سيمر على الناس يوم القيامة، ولعلها ستقف هناك تنتظر من فرط فيها لتأخذ بحقها منه، فتقذفه في النار، وتعين من أداها على جواز الصراط: فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: (وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا فيمر أولكم كالبرق... الحديث) رواه مسلم.

أيها الأخوة في الله:

وبالرغم من عظم الأمانة عند الله عز وجل، إلا أنه لا يجوز الحلف بها لقوله –صلى الله عليه وسلم- (مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا) رواه أبو داود.


اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا== اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت== اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا== اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا== اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا،

المرفقات

1196.doc

المشاهدات 967 | التعليقات 0