الأضحية وعرفة

هلال الهاجري
1445/12/06 - 2024/06/12 13:54PM

الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أما بعد:

(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، والخُلَّةُ هِي َأَعْلَى أَنْوَاعِ المَحَبَّةِ ولا تَكُونُ إلا لِشَخصٍ وَاحدٍ فَقَط، وإِنَّمَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إِلَّا مَلَأَتْهُ؛ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي *** وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا

فدعا الخليلُ إبراهيمُ عليه السَّلامُ ربَّه عزَّ وجلَّ أن يَهِبَه ولداً ينفعُه في حياتِه وبعدَ مماتِه، فقالَ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، فاستجابَ اللهُ تعالى له، وجاءَتهُ البُشارةُ بإسماعيلَ عليه السَّلامُ (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)، فما أجملَها من بُشارةٍ بغلامٍ ذكرٍ، جَاءَهُ عَلى كِبَرٍ، وحليمٌ ذو خُلُقٍ وصَبرٍ، وعندما وُلدَ الغُلامُ، وأحبَّه أبوهُ محبةً شديدةً، كانَ لا بُدَّ من الاختبارِ لإبراهيمَ: هل محبةُ الولدِ زاحَمتْ محبةَ اللهِ تعالى في قلبِ الخليلِ؟.

فجاءَ الاختبارُ الأولُ: أُمرَ إبراهيمُ بتركِ ابنِه وزوجتِه هاجرَ في مكانٍ قَفرٍ ليسَ فيه ماءٌ ولا أحدٌ، فَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ وَلَيْسَ بِها يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟، تقولُها مِرَارًا، وهو لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ.

ما أعظمَ هذا التَّسليمَ، شَيخٌ كَبيرٌ مَقطوعٌ من الأهلِ والقَرابةِ، مُهاجرٌ إلى اللهِ، جاءَه غلامٌ حليمٌ بعدَ طُولِ عُمرِ وإلحاحِ دُعاءِ، يضعُ ابنَه وزوجتَه الضُّعفاءَ، في مكانٍ ليسَ فيه إنسٌ ولا ماءٌ، ليسَ بينَهم وبينَ الموتِ إلا أن ينفدَ ما في الجرابِ من تمرٍ وما في السِّقاءِ من ماءٍ، لا لشيءٍ إلا لأنَّ اللهَ أمرَه بذلكَ، ثُمَّ ماذا كانتْ النَّتيجةُ؟: فجَّرَ اللهُ تعالى من تحتِ قَدميِّ الغُلامِ عَينَ زَمزَمَ المُباركةَ إلى يومِ القيامةِ، وكانَ هو وأَبوهُ من بنى الكعبةَ بيتَ اللهِ تعالى الذي تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ، وجُعلَ سعيُ هاجرَ من مناسكِ الحجِّ والعمرةِ تخليداً لذكرِها إلى يومِ القيامةِ، وبعثَ اللهُ في هذا الوادي من نسلِه خاتمَ وخيرَ الرُّسلِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.

ثُمَّ لما كَبُرَ الغلامُ، جاءَ الاختبارُ الثَّاني: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)، وبَلغَ سِنَّاً يَكونُ في الغَالبِ، أَحبُّ ما يَكونُ لوالديهِ، قد ذَهبتْ مَشقتُه، وأَقبلتْ منفعتُه، وعادةُ قلوبِ الآباءِ أن تتعلَّقَ بأبنائهم في مِثلِ هذه السِّنِ، كيفَ بقلبِ الأبِّ الرحيمِ، بابنِه الوحيدِ الحليمِ، فأرادَ اللهُ أن يختبرَ قلبَ خليلِه برؤيا في المنامِ، ورؤيا الأنبياءِ حقٌ.

(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، رأى الرُّؤيا فما ناقشَ في أمرِ اللهِ العليمِ الخبيرِ، ولم يسألْ عن الحكمةِ من ذَبحِ ولدِه الصَّغيرِ، ولم يعترضْ: لماذا يجبُ أن يذبحَه بيدِه وهو الأبُّ الكسيرُ؟، ولا قالَ كيفَ سيكونُ حالُ أمِّه صاحبةِ القلبِ الكبيرِ؟، وحُقَّ لمثلِه أن يكونَ خليلَ اللهِ تعالى السَّميعِ البصيرِ.

(فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ)، أخبرَه ليتهيأَ لأمرِ اللهِ تعالى، فماذا كانَ جوابُ الابنِ؟، ما هو جوابُ الشَّابِ الصَّغيرِ الذي يُحبُ الحياةَ؟، ما هو موقفُ غُلامٍ صَغيرٍ وهو يُخبرُ أنَّه سيُذبحُ بيدِ أبيه؟.

(قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، اللهُ أكبرُ .. لم يقل: افعل ما تُريدُ، أو افعل ما تحبُّ، بل كأنَّه يقولُ: يا أبتِ هذا أمرٌ من اللهِ تعالى، ليسَ لي ولا لكَ فيه نظرٌ، وإنما هو المبادرةُ واحتسابُ الأجرِ، (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، فلن أزيدَ حُزنَك بالجزعِ والبُكاءِ، ولا التَّوسلِ إليكَ بعدمِ الذَّبحِ والدُّعاءِ، ولأنَّ الأمرَ أمرٌ عصيبٌ، قالَ: (إِن شَاءَ اللَّهُ)، لأنَّه لا ثباتَ في مِثلِ هذه المواقفِ إلا بتثبيتِ اللهِ تعالى.

(فَلَمَّا أَسْلَمَا) بالرِّضا والطَّاعةِ والثِّقةِ والطُمأنينةِ والانقيادِ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، أضجعَه على وجهِه لئلا ينظرَ إليه وقتَ الذَّبحِ، وحتى لا تأخذه رأفةُ الأبوَّةِ، فوضَعَ السِّكينَ؛ ليَشرعَ في الذَّبحِ، ولكَ أن تتخيلَ حالَهما في تلكَ اللَّحظةِ من البَلاءِ، فإذا بالنِّداءِ الرَّحيمِ يأتي من السَّماءِ، (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، قد حصلَ المقصودُ من هذا الاختبارِ، وظهرَ صِدقُ تسليمِكَ للعزيزِ الجبَّارِ، وكانَ هذا من أعظمِ اختباراتِ العَالَمينَ، كما قالَ سُبحَانَهُ: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).

ثُمَّ قالَ تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، ففداهُ اللهُ تعالى بذِبحٍ من الغنمِ عظيمٍ، وأصبحَ سُنَّةً وقُربةً إلى يومِ القيامةِ، (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)، فهيَ سُنةُ الأضحيةِ تكونُ في عيدِ الأضحى ويتقرَّبُ بها المسلمونَ إلى ربِّهم تعالى إلى يوم يُبعثونَ، وَيَتَذكَّرونَ قصةَ الاستسلامِ العظيمةِ، الذي كانتْ خلفَ هذه الشَّعيرةِ الكريمةِ.

أَقولُ قَولي هذا، وأَستغفرُ اللهَ العَظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من جَميعِ الذُّنوبِ، فاستغفروه وَتُوبوا إليه، إنَّ ربي لغفورٌ رَحيمٌ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليماً، أما بعد:

عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إِلَى عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُنَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لاتّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيداً، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟، قَالَ: (الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) فَقَالَ عُمَرُ: إِنّي لأَعْلَمُ الْيَومَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ بِعَرَفَة.

سبحانَ اللهِ .. حتى اليهودَ عَلِموا فَضلَ يومِ عرفةَ، بل هو من الأيامِ العَظيمةِ المَشهودةِ، وَيُعتقُ اللهُ تعالى فيه خَلْقاً عظيماً من النارِ، كما قَالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي المَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ، اشْهَدُوا مَلاَئِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ).

كانَ حكيمُ بنُ حزامٍ يقفُ بعرفةَ ومعه مَائةُ رَقبةٍ، فيُعتقُ رقيقَه، فيضجُ الناسُ بالبُكاءِ والدعاءِ يقولونَ: (ربنا هذا عبدُك قد أعتقَ عبيدَه، ونحن عبيدُك فأعتقْنا)، فمَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ.

عبادَ اللهِ .. عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)، صيامُ يومٍ، وتكفيرُ سنتينِ، معادلةٌ تعجَزُ عنها القَوانينُ، ولا تكونُ إلا في موازينِ أرحمِ الراحمينَ، فيا من لم يقفْ يومَ عرفةَ في ذلك الموقفِ العظيمِ، فلا يفوتَك هذا المقامَ الكريمَ، مقامَ الصائمِ، الذي تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه للهِ تعالى، فَجَلَسَ بَعدَ عَصرِ يومِ عرفةَ، عِندَما يَدنو اللهُ تعالى مِن عِبَادِهِ، رافعاً يديه، خاشعاً، تائباً، خائفاً، راجياً، خافِتَ الصوتِ يناجي رَبَّاً يُجيبُ الدُّعاءَ، ويُجزِلُ العَطَاءَ، فَخَيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ عَرفةَ.

اللهم يسِّر للحُجَّاجِ حجَّهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم وأحسِن مُنقلبَهم، وأعِدهم إلى ديارِهم سالمينَ غانمينَ مقبولينَ، بمنِّك وجودِك يا أكرمَ الأكرمينَ، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنِا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِ خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كلِ شرٍّ، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلامِ والمسلمينَ، وألبِسه لباسَ الصِّحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمرِه على طاعتِك، اللهم وفِّقه ووَليَّ عَهدِهِ وأعوانَه والقائمينَ على أمرِ البيتِ الحرامِ والحُجَّاجِ لما تحبُ وترضى، وخُذ بنواصيهم للبرِّ والتَّقوى، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار).

المرفقات

1718189637_الأضحية وعرفة.docx

1718189648_الأضحية وعرفة.pdf

المشاهدات 1053 | التعليقات 0