(الأشهر الحرم, والحج بأعداد قليلة)
د. منصور الصقعوب
الحمدُ لله، الحمدُ لله العليِّ الأعلى، خلقَ فسوَّى، وقدَّر فهدَى، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، له الحمدُ كلُّه، وبيدِه الخيرُ كلُّه، وإليه يُرجعُ الأمرُ كلُّه، يخلُقُ ما يشاءُ ويختار، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين:
أما بعد: قال الله تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)
قام النبي ق في حجته خطيباً فقال: " إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ "
ينتهي موسم ويبدأ آخر من مواسم الخيرات, وها نحن في الأشهر الحرم, أشهرٌ عظّم قدرها ربنا, وقرر ذلك نبينا ق, ومن توفيق الله لعبده أن يجعله معظِّماً لما يعظمه ربه وخالقه.
عُظِّمَتْ هذه الأشهرُ صيانة لحقّ الحج, حتى يؤدي الحجاج حجهم بأمنٍ, يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم, والمولى عز وجل قال { وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ }
وَقَالَ: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }
ومن تعظيم الحرمات في هذه الأشهر: الكفُّ عن الظلم والمعاصي, فالمعصية في الأشهر الحرم أعظمُ منها في غيرها, وفي التنزيل { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قال ابنُ زَيدٍ: الظُّلْمُ: العَمَلُ بِمَعَاصِي اللهِ، وَالتَّرْكُ لِطَاعَتِهِ.
وقال قتادة: الظُّلم فِي الشَّهْر الْحَرَام أعظم خَطِيئَة ووزراً من الظُّلم فِيمَا سواهُ وَإِن كَانَ الظُّلم على كل حَال عَظِيما وَلَكِن الله يعظم من أمره مَا شَاءَ
لذا يا مبارك: ترك الذنب مطلب على الدوام, ولكنه يتأكد في الشهر الحرام, وأنت حينها تترك العصيان, وتراقب الديان, طاعةً للرحمن, وإعظاماً له, وطلباً لرضاه, والأمر ليس معصية تتركها بلا شعور واعتبار, بل تتركها شكراً لمن للخير هداك, وللدين اصطفاك, تترك الذنب لأن من نهاك يراك.
وهل يليق بعبدٍ يوقن بعظمة الله, ويستشعر اطلاعه, أن يعصيه- ولا سيما في أشهرٍ وأيامٍ قال عنها (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ألا وإن هذه الأشهر فرصة لترك الذنوب, والإكثار من الطاعات, وكفاك حادياً, وللخير مرغباً, أن العمر قليل, وأن الخير أبواب بعضها بالفعل وبعضها بالاجتناب, وأن التعبد لله يكون بترك الذنب كما يكون بفعل الطاعة
اللهم اعصمنا من العصيان.
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
وقف النبي ق في المدينة يوماً فقال "إن الله فرض عليكم الحج فحجوا, فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلت نعم لوجبت, ولما استطعتم, الحج مرة فما زاد فهو تطوع"
صلوات ربي عليه ما أرفقه بأمته, وحمداً لك ربنا أن لم توجب الحج علينا كل عام, إذاً لَعَسُرَ علينا.
وكلما قرب موسم الحج, كلما خفقت قلوب المسلمين في كل مكان شوقاً لتلك المشاعر, ولكن الأمر في هذه السنة مختلفاً, فقد قدّر الله وقضى مع هذه الجائحة أن يقام الموسم بأعدادٍ يسيرة جداً, وهذا نظرٌ من حكومة هذه البلاد وفقهم الله لكل خير, وهو حرص أن لا يعطل الحج, وتحرز أن يُفتَح بأعدادٍ كبيرة خشيةً من هذا الوباء, فاللهم اجزهم واجز كل عامل وساعٍ لمصالح المسلمين خيراً, واحفظ عبادك المقيمين منهم والحجاج.
وإني أقول لمن اعتاد أن يكون مع الحجيج, أو من كان قد عزم في هذه السنة أن يلحق بركبهم, ثم حيل بينه وبين ذلك, أبشر, فثواب الله يُكتَبُ لمن صدق العزم والقصد, ولو حيل بينه وبين العمل, وقد قال ق للصحابة وهم في تبوك «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلاَ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» أخرجه البخاري.
وهمسةٌ لمن كان الناس يُرغِّبونهم بالحج كل عام, ويذكِّرونهم بمقول الرسول ق " منْ أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الرَّاحِلَةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ, وهم يتعذرون ويسوفون, ها قد عرضت الحاجة, والله أسأل أن يجعل زوالها سريعاً.
ها أنت ترى الموسم يمرّ, وأنت لا تقدر على الحج, فهلا جعلنا هذا واعظاً لنا, كي نبادر لإداء ما فرض علينا, قبل أن يأتي المانع المستمر, وهو الموت, فاليوم اعزم على التدارك, وتب مما مضى من التأخير والتقصير, وسل الله أن يمد في عمرك حتى ييسر لك الحج وأنت في صحة وعافية وأمان.
اللهم اكشف الكربة عن المسلمين, واكتبنا مع الحجاج ثواباً وأجراً, ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك عنا