الأسس التربوية والتوعوية في تربية الأطفال أ.د. علي أسعد وطفة
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
1432/02/05 - 2011/01/09 13:14PM
الأسس التربوية والتوعوية في تربية الأطفال
أ.د. علي أسعد وطفة
الطفولة رمز البراءة في الطبيعة وعنوان الطهارة في الإنسان. فيها تتألق أسمى المعاني وبها يتجلى جمال الطبيعة في الإنسان. إنها البوتقة الكونية التي تتكامل فيها أجمل القيم وأصفاها، وتترامى معها أبهى المعاني وأنقاها. بل هي سحر في الطبيعة وإبداع الله في الإنسان، وفي عظمتها يتألق القول "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".
و"الإنسان أثمن وأغلى وأعظم ثروة تملكها الأمم"، تلك هي الحقيقة العلمية التي بدأت تجلجل بقوة في مختلف أركان الكون منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم، وهي الحقيقة التي تجأر في عقول المفكرين وتسطو في أعماق الوعي العلمي عند الباحثين والمبشرين بعالم أفضل. ولا يرتبط هذا القول بشعارات ذات طابع أخلاقي، بل يجسد منظومة من الحقائق العلمية الملموسة الاقتصادية والاجتماعية؛ لقد أصبح الاستثمار في تربية الإنسان هاجس الأمم المتقدمة، وغدا هدفا يتصدر استراتيجياتها التنموية وخططها النهضوية، وينطلق هذا الهاجس من حقيقية علمية قوامها أن توظيف رؤوس الأموال في التنمية البشرية لا يضاهيه في مردوده وعائداته الاقتصادية والاجتماعية أي استثمار آخر في أي حقل من حقول الإبداع والإنتاج الإنسانيين.
لقد ولّدت الثورة المعلوماتية الهائلة إيمانا راسخا بأن تربية الإنسان وتنميته هي منطلق كل نهضة حضارية وكل تطور في مجال المعرفة الإنسانية. وبدأت هذه الحقيقية تضرب جذورها في أعماق الوعي الإنساني منطلقة من أن الإصلاح الاجتماعي والنهوض بالمجتمع حضاريا يجب أن يبدأ بثورة إبيستيمولوجية في ميدان التربية والتعليم، لأن الثورة التربوية في مجال بناء الإنسان وإعداده تشكل منطلق بناء المجتمع وتثويره في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كانت النهضة التربوية هي الشرط الأساسي لعملية الإصلاح التربوي والتغيير الشامل في المجتمع، فإن النهضة التربوية ذاتها يجب أن تنطلق من العمق الاستراتيجي للتربية في المجتمع المتمثل في تربية الأطفال وإعدادهم منذ مرحلة الطفولة المبكرة، لأن الطفولة تشكل شرط الضرورة والكفاية لنهضة تربوية حقيقية.
إن أية محاولة للنهوض بالتربية وتطويرها أو إصلاحها لا تبدأ بمرحلة الطفولة هي محاولة تسير نحو قَدَرَ الإخفاق والفشل. وقد لا نكون مبالغين إذا كلنا بأن الإخفاقات التي تعاقبت وتتابعت في مشاريع النهضة التربوية والإصلاح التربوي في الوطن العربي قد أخفقت لأنها انطلقت من المكان الخطأ والعنوان الخطأ ولم تنطلق من الطفولة العمق الاستراتيجي للإصلاح والنهضة والتطوير في التربية والمجتمع في آن واحد.
لقد آمن أغلب المفكرين منذ عهود بعيدة بأن الثورة التربوية يجب أن تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وأن تنطلق منها، وأن مثل هذه الثورة هي نواة النهوض والتنوير الشامل في مجال الحياة المجتمعية، وذلك لأن مرحلة الطفولة تشكل المنطقة الجيولوجية الأعمق في نسيج الوجود الإنساني، وفي هذا التكوين الأعمق تكمن نفائس الأمم وذخائرها الإنسانية وطاقاتها البشرية الأولية.
إن فكرة إصلاح المجتمع عبر إصلاح الناشئة فيه في مرحلة الطفولة فكرة قديمة قدم التاريخ. لقد أعلن أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد بأن لا يمكن إصلاح مدينة بصغار أفسدهم كبارهم، ومن أجل هذا الإصلاح يقترح أفلاطون في جمهوريته إخراج جميع الأطفال ممن هم دون الخامسة إلى ظاهر المدينة، وتربيتهم في معسكرات خاصة تشرف عليها الدولة تربية عقلية وتربية أخلاقية متميزة، وذلك من أجل إصلاح شؤون المدينة والخروج بها من دائرة الفساد إلى دائرة التنوير والحق والعدالة والحرية.
وتجد فكرة أفلاطون صداها ورجعها في كثير من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. وشواهد الإيمان بأهمية تربية الصغار وإصلاحهم من أجل إصلاح المجتمع تتجاوز حدود العدّ والحصر، ولكن يمكن الإشارة إلى فكرة التربية السلبية الحرة عند روسو التي يرى فيها بوضوح كبير ألا إصلاح للمجتمع إلا من خلال بناء أجيال حرّة قادرة على صنع التاريخ بمعايير تربوية وأخلاقية جديدة.
فالأمم الكبيرة هي الأمم التي وجدت في الأطفال ينبوعا ثرّا للعطاء واستمرارية في القدرة على النهوض والبناء. ويبدو اليوم أن درجة عناية الأمم بأطفالها ورعايتهم لها تحدد درجة كل أمة من هذه الأمم في السلّم الحضاري وفي الموقع المتقدم الذي سجلته في سلم العلم والمعرفة العلمية.
إن الشرارة الأولى التي تنطلق منها النهضة والتنوير والحضارة في أية أمة من الأمم تنقدح شعلتها بداية في عالم الطفولة والأطفال، فيتوهج الوعي المجتمعي بأهمية مرحلة الطفولة ودورها في بناء الحضارة والإنسان. فالطفولة هي العمق الاستراتيجي الإنساني للمجتمع، وهذا العمق يأخذ تجلياته في أبعاد ديموغرافية وبيولوجية وثقافية وإنسانية بالغة التنوع والشمول. وكل بداية حضارية أو نهضوية لا تبدأ من هذا العمق هي بداية سطحية عابرة ومؤقتة ولن تؤتي أكلها أبدا.
وليس في التأكيد على الأهمية الصارخة للعناية بالأطفال وتربيتهم ما يخضع للشعارات الرنانة أو للأيديولوجيات البراقة أو ما يمت بصلة إلى العقائد الغراء. إن الطفولة هي أهم الطبقات في تكوين المجتمعات الإنسانية من حيث خطورتها وأهميتها، وليس في هذا القول ممالأة أو مجانبة للصواب، بل تلك هي الحقيقة التي تنضح بمصداقية علمية تتجاوز حدود الشك وتتعالى على شطحات الوهم والظنون. فالسنوات الخمس الأولى من حياة الفرد تأخذ أهمية فريدة متفردة تقرّها العلوم الإنسانية والتطبيقية بمطلق التأكيد. فالطفولة تشكل الطبقة الأعمق في حياة الفرد منفردا وفي حياة الكيان المجتمعي حيث يتحد الأفراد. وقد حظيت حقيقة الأهمية الكبرى لمرحلة الطفولة على إجماع المفكرين والعلماء والعارفين.
وقد أصبح اليوم، من تحصيل الحاصل ومن بديهيات القول، أن يؤكد جميع الدارسين والباحثين والمفكرين بأن الطفولة والطفولة الأولى هي منطلق البناء التربوي وجذوته. ويمكن للباحث اليوم أن يفرد نسقا يأخذ مداه طولا وعرضا من أسماء العلماء والمفكرين الذين يؤكدون أهمية هذه المرحلة منذ بدء الحضارة الإنسانية حتى اليوم.
فالإصلاح التربوي يجب أن يبدأ من العمق لكي يكون إصلاحا حقيقيا وجوهريا، وهذا العمق الذي يجب أن ينطلق منه هو العمق الاستراتيجي للتربية الذي يتمثل في مرحلة الطفولة المبكرة. ولكي يكون هذا الإصلاح استراتيجيا يجب عليه أن يكون علميا، ومن أجل أن يحقق هذا الطابع العلمي يجب أن ينطلق من بناء فهم علمي يتميز بطابع الشمول والعمق والأصالة لمرحلة الطفولة ذاتها بمعانيها وطبيعتها وقانونياتها الحاكمة. وهذا يعني أنه ومن أجل إحداث التغيير الشامل والمثمر في التربية يجب علينا أن نفهم وندرك طبيعة العملية التربوية في أكثر مراحلها خطورة وأهمية إدراكا علميا يتميز بالرصانة والأصالة والشمول والعمق.
وتأسيسا على هذه المحاكمة يجب أن نقول إن تحقيق الشرط الأساسي للثورة التربوية المجتمعية الشاملة يجب أن يبدأ بتكوين وعي علمي يتصف بالشمول عند طبقة المربية بعامة وعند مربيات الأطفال بشكل خاص. ومن هنا تأخذ التربية في مرحلة الطفولة المبكرة أهمية مركزية واستراتيجية. وبناء على ذلك ومن أجل تحقيق الشرط الأساسي لكل إصلاح أو تثوير تربوي يجب أن نبدأ بإعداد المربيات والأمهات إعدادا علميا يمكنهن من تمثل معطيات المعرفة الإنسانية في مجال تربية الطفولة بما ينطوي عليه هذا الحقل من معارف علمية ونظرياتوممارسات وتجارب. ويجب على هذا التوجه ألا يقف عند حدود المربيات والباحثات في مجالالطفل وشؤون الطفولة بل يجب أن نيّسر ونعزز وعيا تربويا يشمل مختلف المربيين والمربيات في المجتمع على امتداد الساحة الوطنية في أي مجتمع من المجتمعات المعنية. فالمعرفة العلمية بطبيعة الأطفال وأهمية مرحلتهم واستيعاب التجارب العلمية والخبرات والنظريات يشكل الخطوة الأولي في أي إصلاح تربوي جوهري يسعى إلى إصلاح المجتمع وتحقيق نهضته.
فعالم الطفولة عالم لم يكتشف بعد، ولم يتحقق الطموح الإنساني في استكشاف المعالم النهائية لهذا العالم، وأن الإنسانية تحتاج إلى عقود وربما قرون من الزمن للكشف عن ماهية هذه الطفولة بأبعادها الإنسانية والسيكولوجية. فالطفل يمتلك على قوى داخلية هائلة وخفيّة نجهل حدودها وأبعادها وآفاقها منذ لحظة ولادته. والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة الضرورة هنا هو: هل يمكن للمربين أداء دورهم التربوي كما يجب إذا كانوا يجهلون ماهية الطفولة وطبيعة الأطفال ؟ وهنا يجب علينا أن نعترف بأننا على الأغلب ما زلنا نجهل طبيعة الطفولة، وأطفالنا ما زالوا بالنسبة لنا كائنات مجهولة فيما يتعلق ببنيتهم وطاقاتهم الكامنة، ونحن لا نستطيع أن نقدم شيئا مهما للأطفال إذا لم نستطع أن نكتشف فيهم هذه القوى الداخلية لديهم وننميها.
لقد بدأ الاعتراف اليوم بأن الأطفال يمتلكون قدرات خفية هائلة ويجسدون قـدرة نامية يجب أن تحظى بالعناية وأن تخضع لمبدأ الاستثمار. ولا يوجد اليوم ما يمنع الأطفال الصغار من أن يكونـوا تجـريبيين منـدفعين ومتحمسين أو مكتشفين ورواد في مجـال العلـم والمعرفـة.
لقد بدأ اليوم يتشكل وعي جديد ورؤية جديدة حول الطفل، فالطفل ليس كائنا متلقيا وحسب، إنه مبدع منذ البداية، ولو تفحصنا تصوراته للعالم وتعبيراته الانفعالية لوجدناها –على بساطتها- تعبيرات وتصورات مبدعة، إن هذه الأصالة الفطرية هي مفتاح النمو السوي للأطفال وهي- لكي تفصح عن ذاتها إفصاحا كاملا –تقتضي منا معاونة الطفل على الاقتراب التلقائي من العالم والدخول في علاقة حميمة مع البشر والطبيعة، وهي علاقة تربط الطفل بالعالم دون أن تمحو هويته الثقافية أو تشوهها، إن هذه هي مسؤولية الكبار نحو الطفل آباءً كانوا أو معلمين. وإذا غابت هذه الحقيقية عن المربين فإنهم سيكونون على وعي منهم أو من غير وعي أداة لتخريب النمو السوي في الطفل وذلك عبر أفانين غامضة.
إن الخطر الأكبر في حياتنا المجتمعية يتمثل في جهل المربيين بالأصول العلمية لتربية الأطفال ففي التربية، وفي تربية الأطفال قانون صارم هو أنه إذا كنت لا تربي تربية علمية صحيحة فأنت تربي تربية خاطئة، والتربية الخاطئة تؤدي إلى تدمير الأطفال نفسيا وعقليا واجتماعيا. وبناء على هذا القانون التربوي فإن أية تربية نقدمها للطفل تلحق به الأذى وتدمره إذا لم تكن تربية علمية، أي أنها تقوم على وعي علمي رصين ومتكامل وأصيل بمختلف معطيات علم الطفولة وتربية الأطفال.
والسؤال الذي يقفز إلى العقل مباشرة: هل ندمر أطفالنا أم ننميهم عبر الأساليب التربوية التي نعتمدها في تنشئتهم ؟ والجواب سرعان ما يومض بسؤال جديد: هل يمتلك مربونا الوعي العلمي الرصين بأحدث وسائل التربية ونظرياتها في مستوى تربية الأطفال ؟ وبناء على هذين السؤالين يقوم الاستنتاجان التاليان:
- إن تربية الأطفال تربية بنائية نمائية حقّة مرهونة بمستوى وعي المربين بقضايا الطفولة وأصول التربية ونظرياتها وقانونياتها وأصولها السيكولوجية والاجتماعية.
- إن غياب مثل هذا الوعي المتكامل بطبيعة التربية وأصولها في مستوى الطفولة يؤدي إلى نتائج عكسية، أي أن التربية هنا تهدم ولا تبني، تفقر ولا تغني، تأخذ ولا تعطي، وباختصار التربية الجاهلة تتحول إلى عامل هدم وتخلف وانهيار وتراجع إنساني وأخلاقي.
والسؤال الذي يرمي بنفسه هنا هو: إلى أي حدّ ينتشر الوعي التربوي العلمي المتكامل والحديث بين المربين آباء وأمهات ومعلمين في عالمنا العربي ؟ والجواب هو افتراض قوامه أن التربية العربية في مجال الطفولة المبكرة ما زالت تربية تقليدية وتقليدية مغرقة في القدم، وأنها لم تتحول إلى تربية تأخذ بمعاني التربية الحديثة التي تعتمد أفضل السبل العلمية في تنمية الأطفال وفي تحقيق ازدهارهم. ويترتب على ذلك أن التربية السائدة هي تربية تعتمد مبدأ الهدم لا البناء ومبدأ الإفقار لا الإغناء.
وتأسيسا على ما سبق يمكن القول بأنه يتوجب علينا نحن العرب، في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين، مفكرين وسياسيين وعلماء وكتاب ودارسين أن نوجه طاقة احيائية تنويرية في المجتمع تسعى إلى بناء وعي تربوي أصيل ومتقدم في مجال البيداغوجيا والتربية في عالم الطفولة والأطفال. وبناء هذا الوعي يجب أن ينطلق من اعتبارين أساسيين هما:
أولا - اعتبارات ذاتية في الطفولة عينها: حيث يتوجب علينا أن نؤكد من جديد بأن الطفولة يجب أن تكون غاية بذاتها، لا بل يجب أن تكون غاية الغايات ونهاية كل طموح إنساني في مجال التربية والتعليم، وهذا التوجه ينبع من اعتبارات أخلاقية وإنسانية ودينية ووجدانية تتجاوز حدود كل وصف وتصنيف.
ثانيا – اعتبارات حضارية وإنسانية ونهضوية: فالطفولة تشكل نقطة انطلاق كل محاولة نهضوية أو حضارية، لأنها كما أسلفنا، تشكل العمق الاستراتيجي في المجتمع والحياة، والطبقة الأعمق في التكوين الإنساني، ولذلك فإن أي محاولة للنهضة بالمجتمع لا تأخذ هذه التوجه بعين الاعتبار ستمنى بالإخفاق والفشل، وبالتالي فإن أي محاولة أخرى تنطلق بعيدا عن هذه المرحلة لن تحظى بأي نجاح ممكن أو محتمل وبالتالي فإن درجة الإخفاق تكون أكبر كلما كانت المسافة الفاصلة بين مرحلة الطفولة ونقطة الانطلاق أبعد.
وهنا وفي هذا السياق يتوجب أن نذّكر بأن التربية العلمية الحديثة في مستوى الطفولة تشكل الشرط اللازب في كل إصلاح تربوي ممكن ومحتمل، وأن الإصلاح التربوي يشكل العمق الاستراتيجي للإصلاح الاجتماعي برمته، ومن هذا المنطلق يجب أن نقول بأن الرهان الحضاري لوجودنا وحياتنا المجتمعية يتمثل في مدى قدرتنا على إيجاد تحولات عميقة وبنيوية في أساليب تربية الأطفال والعناية بهم وتنشئتهم وفقا لأحدث معطيات المعرفة العلمية والنفسية. ويبقى أن نقول أيضا بأن بناء الوعي التربوي، بأهمية مرحلة الطفولة وبأهمية العلم الحديث والطرائق التربوية في تربية الأطفال، يجب أن يتجاوز حدود التخصص العلمي، وهذا يعني أن الوعي الذي نتحدث عنه هو وعي شامل يغطي مختلف شرائح المربين في المجتمع من آباء وأمهات ومربيات وعاملين وسياسيين. وإذا ما بقي هذا الوعي سجين فئة متخصصة أي إذا لم يستطع أن ينفلت من عقال التخصص ودوائره الضيقة فإننا لن نستطيع أبدا أن نحقق ما تصبو إليه النفوس الطيبة من أمل في أصلاح الإنسان والمجتمع. إن إصلاح المجتمع لا يكون إلا بإصلاح الإنسان وإصلاح الإنسان إلا بإصلاح الطفولة وهذا يعني أن الطفولة تشكل المبتدأ والخ!
بر في كل عملية تربوية تسعى إلى تحقيق الإصلاح في التربية والمجتمع والإنسان.
وبقي أن نقول بأن التربية التي تسود في مجتمعاتنا تعاني من هيمنة أسطورية لمفاهيم وتصورات تقليدية أكل الزمان عليها وشرب، وأصبحت مجرد خرافات وأوهام تربوية، وأنه يجب علينا اليوم أن نحقق ثورة في المفاهيم التي تتصل بالطفولة وتربية الأطفال وعلينا أن نقتلع كل الأعشاب الضارة وخضراء الدمن التي نبتت في تربة التربية التي ننهجها حاليا في تربية الأطفال. وهي تربية تقليدية تدمر وتؤذي وتقتل وتضعف وذلك بدلا من أن تبني وتصلح وتحيي وتقوي، لأنه في التربية الحديثة حكمة تقول: كل ما لا يحيي يميت وكل ما لا يبني يهدم. ومعيار البناء الصحيح وفقا للتربية الحديثة هو الوعي والوعي العلمي بأصول التربية الحديثة ومفاهيمها واتجاهاتها ونظرياتها وأسسها السيكولوجية.
ولا بد لنا بداية وفي اتجاه هذا الوعي النقدي في التربية أن نعمل على كشف جوانب الضعف والقصور في التربية التقليدية التي لا تأخذ بأسباب العلم الحديث ومقومات علم النفس والنظريات التربوية المتعاقبة عبر أطراف الزمان والمكان. وعلى هذا الأساس يجب أن نعمل على تكوين وعي تربوي نشط وناشط وأصيل بأهم معطيات المعرفة العلمية في مجال تربية الأطفال والعناية بهم. ومن أجل هذه الغاية يجب أن تتكاثف الجهود لتقديم صورة عن خصوصية نمو الطفل وقانونيات نمائه جسديا ونفسيا واجتماعيا وعقليا. وعلينا في كلهذا أن نبدأ من حيث يجب أن يبدأ المربي في تكوين فهم شامل ينطلق من مرحلة الجنين إلى نهاية مرحلة الطفولة المبكرة. ومن أجل بناء هذا الوعي يجب أن نحيط علما بنسق النظريات التربوية التي أبدعها رواد التربية في مجال الطفولة بدءا من التربية النبوية والإسلامية وصولا إلى أحدث النظريات التربوية في مجال التربية العقلية عند بياجيه، وبين هذين الطرفين يجب علينا أن ندرك النزعة الطبيعة في التربية بدءا من معطيات الفلسفة العربية عن ابن طفيل الأندلسي في كتابه حي بن يقظان، ومرورا بجان جاك روسو وبستالوتزي وفروبل ومونتسوري ووصولا!
إلى فرويد في مجال التحليل النفسي. وإننا لعلى يقين بأن هذا الجهد سيأخذ بأيدينا إلى ذروة وعي تربوي بأهمية الطفولة وأهمية التربية في هذه المرحلة وسيولد لدينا إيمانا راسخا بأن التربية العلمية في مرحلة الطفولة هي وهي وحدها منطلق النهوض الحضاري الشامل في المجتمع. والله ولي التوفيق.
المصدر: موقع أ.د. علي أسعد وطفة
أ.د. علي أسعد وطفة
الطفولة رمز البراءة في الطبيعة وعنوان الطهارة في الإنسان. فيها تتألق أسمى المعاني وبها يتجلى جمال الطبيعة في الإنسان. إنها البوتقة الكونية التي تتكامل فيها أجمل القيم وأصفاها، وتترامى معها أبهى المعاني وأنقاها. بل هي سحر في الطبيعة وإبداع الله في الإنسان، وفي عظمتها يتألق القول "وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".
و"الإنسان أثمن وأغلى وأعظم ثروة تملكها الأمم"، تلك هي الحقيقة العلمية التي بدأت تجلجل بقوة في مختلف أركان الكون منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم، وهي الحقيقة التي تجأر في عقول المفكرين وتسطو في أعماق الوعي العلمي عند الباحثين والمبشرين بعالم أفضل. ولا يرتبط هذا القول بشعارات ذات طابع أخلاقي، بل يجسد منظومة من الحقائق العلمية الملموسة الاقتصادية والاجتماعية؛ لقد أصبح الاستثمار في تربية الإنسان هاجس الأمم المتقدمة، وغدا هدفا يتصدر استراتيجياتها التنموية وخططها النهضوية، وينطلق هذا الهاجس من حقيقية علمية قوامها أن توظيف رؤوس الأموال في التنمية البشرية لا يضاهيه في مردوده وعائداته الاقتصادية والاجتماعية أي استثمار آخر في أي حقل من حقول الإبداع والإنتاج الإنسانيين.
لقد ولّدت الثورة المعلوماتية الهائلة إيمانا راسخا بأن تربية الإنسان وتنميته هي منطلق كل نهضة حضارية وكل تطور في مجال المعرفة الإنسانية. وبدأت هذه الحقيقية تضرب جذورها في أعماق الوعي الإنساني منطلقة من أن الإصلاح الاجتماعي والنهوض بالمجتمع حضاريا يجب أن يبدأ بثورة إبيستيمولوجية في ميدان التربية والتعليم، لأن الثورة التربوية في مجال بناء الإنسان وإعداده تشكل منطلق بناء المجتمع وتثويره في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كانت النهضة التربوية هي الشرط الأساسي لعملية الإصلاح التربوي والتغيير الشامل في المجتمع، فإن النهضة التربوية ذاتها يجب أن تنطلق من العمق الاستراتيجي للتربية في المجتمع المتمثل في تربية الأطفال وإعدادهم منذ مرحلة الطفولة المبكرة، لأن الطفولة تشكل شرط الضرورة والكفاية لنهضة تربوية حقيقية.
إن أية محاولة للنهوض بالتربية وتطويرها أو إصلاحها لا تبدأ بمرحلة الطفولة هي محاولة تسير نحو قَدَرَ الإخفاق والفشل. وقد لا نكون مبالغين إذا كلنا بأن الإخفاقات التي تعاقبت وتتابعت في مشاريع النهضة التربوية والإصلاح التربوي في الوطن العربي قد أخفقت لأنها انطلقت من المكان الخطأ والعنوان الخطأ ولم تنطلق من الطفولة العمق الاستراتيجي للإصلاح والنهضة والتطوير في التربية والمجتمع في آن واحد.
لقد آمن أغلب المفكرين منذ عهود بعيدة بأن الثورة التربوية يجب أن تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وأن تنطلق منها، وأن مثل هذه الثورة هي نواة النهوض والتنوير الشامل في مجال الحياة المجتمعية، وذلك لأن مرحلة الطفولة تشكل المنطقة الجيولوجية الأعمق في نسيج الوجود الإنساني، وفي هذا التكوين الأعمق تكمن نفائس الأمم وذخائرها الإنسانية وطاقاتها البشرية الأولية.
إن فكرة إصلاح المجتمع عبر إصلاح الناشئة فيه في مرحلة الطفولة فكرة قديمة قدم التاريخ. لقد أعلن أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد بأن لا يمكن إصلاح مدينة بصغار أفسدهم كبارهم، ومن أجل هذا الإصلاح يقترح أفلاطون في جمهوريته إخراج جميع الأطفال ممن هم دون الخامسة إلى ظاهر المدينة، وتربيتهم في معسكرات خاصة تشرف عليها الدولة تربية عقلية وتربية أخلاقية متميزة، وذلك من أجل إصلاح شؤون المدينة والخروج بها من دائرة الفساد إلى دائرة التنوير والحق والعدالة والحرية.
وتجد فكرة أفلاطون صداها ورجعها في كثير من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. وشواهد الإيمان بأهمية تربية الصغار وإصلاحهم من أجل إصلاح المجتمع تتجاوز حدود العدّ والحصر، ولكن يمكن الإشارة إلى فكرة التربية السلبية الحرة عند روسو التي يرى فيها بوضوح كبير ألا إصلاح للمجتمع إلا من خلال بناء أجيال حرّة قادرة على صنع التاريخ بمعايير تربوية وأخلاقية جديدة.
فالأمم الكبيرة هي الأمم التي وجدت في الأطفال ينبوعا ثرّا للعطاء واستمرارية في القدرة على النهوض والبناء. ويبدو اليوم أن درجة عناية الأمم بأطفالها ورعايتهم لها تحدد درجة كل أمة من هذه الأمم في السلّم الحضاري وفي الموقع المتقدم الذي سجلته في سلم العلم والمعرفة العلمية.
إن الشرارة الأولى التي تنطلق منها النهضة والتنوير والحضارة في أية أمة من الأمم تنقدح شعلتها بداية في عالم الطفولة والأطفال، فيتوهج الوعي المجتمعي بأهمية مرحلة الطفولة ودورها في بناء الحضارة والإنسان. فالطفولة هي العمق الاستراتيجي الإنساني للمجتمع، وهذا العمق يأخذ تجلياته في أبعاد ديموغرافية وبيولوجية وثقافية وإنسانية بالغة التنوع والشمول. وكل بداية حضارية أو نهضوية لا تبدأ من هذا العمق هي بداية سطحية عابرة ومؤقتة ولن تؤتي أكلها أبدا.
وليس في التأكيد على الأهمية الصارخة للعناية بالأطفال وتربيتهم ما يخضع للشعارات الرنانة أو للأيديولوجيات البراقة أو ما يمت بصلة إلى العقائد الغراء. إن الطفولة هي أهم الطبقات في تكوين المجتمعات الإنسانية من حيث خطورتها وأهميتها، وليس في هذا القول ممالأة أو مجانبة للصواب، بل تلك هي الحقيقة التي تنضح بمصداقية علمية تتجاوز حدود الشك وتتعالى على شطحات الوهم والظنون. فالسنوات الخمس الأولى من حياة الفرد تأخذ أهمية فريدة متفردة تقرّها العلوم الإنسانية والتطبيقية بمطلق التأكيد. فالطفولة تشكل الطبقة الأعمق في حياة الفرد منفردا وفي حياة الكيان المجتمعي حيث يتحد الأفراد. وقد حظيت حقيقة الأهمية الكبرى لمرحلة الطفولة على إجماع المفكرين والعلماء والعارفين.
وقد أصبح اليوم، من تحصيل الحاصل ومن بديهيات القول، أن يؤكد جميع الدارسين والباحثين والمفكرين بأن الطفولة والطفولة الأولى هي منطلق البناء التربوي وجذوته. ويمكن للباحث اليوم أن يفرد نسقا يأخذ مداه طولا وعرضا من أسماء العلماء والمفكرين الذين يؤكدون أهمية هذه المرحلة منذ بدء الحضارة الإنسانية حتى اليوم.
فالإصلاح التربوي يجب أن يبدأ من العمق لكي يكون إصلاحا حقيقيا وجوهريا، وهذا العمق الذي يجب أن ينطلق منه هو العمق الاستراتيجي للتربية الذي يتمثل في مرحلة الطفولة المبكرة. ولكي يكون هذا الإصلاح استراتيجيا يجب عليه أن يكون علميا، ومن أجل أن يحقق هذا الطابع العلمي يجب أن ينطلق من بناء فهم علمي يتميز بطابع الشمول والعمق والأصالة لمرحلة الطفولة ذاتها بمعانيها وطبيعتها وقانونياتها الحاكمة. وهذا يعني أنه ومن أجل إحداث التغيير الشامل والمثمر في التربية يجب علينا أن نفهم وندرك طبيعة العملية التربوية في أكثر مراحلها خطورة وأهمية إدراكا علميا يتميز بالرصانة والأصالة والشمول والعمق.
وتأسيسا على هذه المحاكمة يجب أن نقول إن تحقيق الشرط الأساسي للثورة التربوية المجتمعية الشاملة يجب أن يبدأ بتكوين وعي علمي يتصف بالشمول عند طبقة المربية بعامة وعند مربيات الأطفال بشكل خاص. ومن هنا تأخذ التربية في مرحلة الطفولة المبكرة أهمية مركزية واستراتيجية. وبناء على ذلك ومن أجل تحقيق الشرط الأساسي لكل إصلاح أو تثوير تربوي يجب أن نبدأ بإعداد المربيات والأمهات إعدادا علميا يمكنهن من تمثل معطيات المعرفة الإنسانية في مجال تربية الطفولة بما ينطوي عليه هذا الحقل من معارف علمية ونظرياتوممارسات وتجارب. ويجب على هذا التوجه ألا يقف عند حدود المربيات والباحثات في مجالالطفل وشؤون الطفولة بل يجب أن نيّسر ونعزز وعيا تربويا يشمل مختلف المربيين والمربيات في المجتمع على امتداد الساحة الوطنية في أي مجتمع من المجتمعات المعنية. فالمعرفة العلمية بطبيعة الأطفال وأهمية مرحلتهم واستيعاب التجارب العلمية والخبرات والنظريات يشكل الخطوة الأولي في أي إصلاح تربوي جوهري يسعى إلى إصلاح المجتمع وتحقيق نهضته.
فعالم الطفولة عالم لم يكتشف بعد، ولم يتحقق الطموح الإنساني في استكشاف المعالم النهائية لهذا العالم، وأن الإنسانية تحتاج إلى عقود وربما قرون من الزمن للكشف عن ماهية هذه الطفولة بأبعادها الإنسانية والسيكولوجية. فالطفل يمتلك على قوى داخلية هائلة وخفيّة نجهل حدودها وأبعادها وآفاقها منذ لحظة ولادته. والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة الضرورة هنا هو: هل يمكن للمربين أداء دورهم التربوي كما يجب إذا كانوا يجهلون ماهية الطفولة وطبيعة الأطفال ؟ وهنا يجب علينا أن نعترف بأننا على الأغلب ما زلنا نجهل طبيعة الطفولة، وأطفالنا ما زالوا بالنسبة لنا كائنات مجهولة فيما يتعلق ببنيتهم وطاقاتهم الكامنة، ونحن لا نستطيع أن نقدم شيئا مهما للأطفال إذا لم نستطع أن نكتشف فيهم هذه القوى الداخلية لديهم وننميها.
لقد بدأ الاعتراف اليوم بأن الأطفال يمتلكون قدرات خفية هائلة ويجسدون قـدرة نامية يجب أن تحظى بالعناية وأن تخضع لمبدأ الاستثمار. ولا يوجد اليوم ما يمنع الأطفال الصغار من أن يكونـوا تجـريبيين منـدفعين ومتحمسين أو مكتشفين ورواد في مجـال العلـم والمعرفـة.
لقد بدأ اليوم يتشكل وعي جديد ورؤية جديدة حول الطفل، فالطفل ليس كائنا متلقيا وحسب، إنه مبدع منذ البداية، ولو تفحصنا تصوراته للعالم وتعبيراته الانفعالية لوجدناها –على بساطتها- تعبيرات وتصورات مبدعة، إن هذه الأصالة الفطرية هي مفتاح النمو السوي للأطفال وهي- لكي تفصح عن ذاتها إفصاحا كاملا –تقتضي منا معاونة الطفل على الاقتراب التلقائي من العالم والدخول في علاقة حميمة مع البشر والطبيعة، وهي علاقة تربط الطفل بالعالم دون أن تمحو هويته الثقافية أو تشوهها، إن هذه هي مسؤولية الكبار نحو الطفل آباءً كانوا أو معلمين. وإذا غابت هذه الحقيقية عن المربين فإنهم سيكونون على وعي منهم أو من غير وعي أداة لتخريب النمو السوي في الطفل وذلك عبر أفانين غامضة.
إن الخطر الأكبر في حياتنا المجتمعية يتمثل في جهل المربيين بالأصول العلمية لتربية الأطفال ففي التربية، وفي تربية الأطفال قانون صارم هو أنه إذا كنت لا تربي تربية علمية صحيحة فأنت تربي تربية خاطئة، والتربية الخاطئة تؤدي إلى تدمير الأطفال نفسيا وعقليا واجتماعيا. وبناء على هذا القانون التربوي فإن أية تربية نقدمها للطفل تلحق به الأذى وتدمره إذا لم تكن تربية علمية، أي أنها تقوم على وعي علمي رصين ومتكامل وأصيل بمختلف معطيات علم الطفولة وتربية الأطفال.
والسؤال الذي يقفز إلى العقل مباشرة: هل ندمر أطفالنا أم ننميهم عبر الأساليب التربوية التي نعتمدها في تنشئتهم ؟ والجواب سرعان ما يومض بسؤال جديد: هل يمتلك مربونا الوعي العلمي الرصين بأحدث وسائل التربية ونظرياتها في مستوى تربية الأطفال ؟ وبناء على هذين السؤالين يقوم الاستنتاجان التاليان:
- إن تربية الأطفال تربية بنائية نمائية حقّة مرهونة بمستوى وعي المربين بقضايا الطفولة وأصول التربية ونظرياتها وقانونياتها وأصولها السيكولوجية والاجتماعية.
- إن غياب مثل هذا الوعي المتكامل بطبيعة التربية وأصولها في مستوى الطفولة يؤدي إلى نتائج عكسية، أي أن التربية هنا تهدم ولا تبني، تفقر ولا تغني، تأخذ ولا تعطي، وباختصار التربية الجاهلة تتحول إلى عامل هدم وتخلف وانهيار وتراجع إنساني وأخلاقي.
والسؤال الذي يرمي بنفسه هنا هو: إلى أي حدّ ينتشر الوعي التربوي العلمي المتكامل والحديث بين المربين آباء وأمهات ومعلمين في عالمنا العربي ؟ والجواب هو افتراض قوامه أن التربية العربية في مجال الطفولة المبكرة ما زالت تربية تقليدية وتقليدية مغرقة في القدم، وأنها لم تتحول إلى تربية تأخذ بمعاني التربية الحديثة التي تعتمد أفضل السبل العلمية في تنمية الأطفال وفي تحقيق ازدهارهم. ويترتب على ذلك أن التربية السائدة هي تربية تعتمد مبدأ الهدم لا البناء ومبدأ الإفقار لا الإغناء.
وتأسيسا على ما سبق يمكن القول بأنه يتوجب علينا نحن العرب، في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين، مفكرين وسياسيين وعلماء وكتاب ودارسين أن نوجه طاقة احيائية تنويرية في المجتمع تسعى إلى بناء وعي تربوي أصيل ومتقدم في مجال البيداغوجيا والتربية في عالم الطفولة والأطفال. وبناء هذا الوعي يجب أن ينطلق من اعتبارين أساسيين هما:
أولا - اعتبارات ذاتية في الطفولة عينها: حيث يتوجب علينا أن نؤكد من جديد بأن الطفولة يجب أن تكون غاية بذاتها، لا بل يجب أن تكون غاية الغايات ونهاية كل طموح إنساني في مجال التربية والتعليم، وهذا التوجه ينبع من اعتبارات أخلاقية وإنسانية ودينية ووجدانية تتجاوز حدود كل وصف وتصنيف.
ثانيا – اعتبارات حضارية وإنسانية ونهضوية: فالطفولة تشكل نقطة انطلاق كل محاولة نهضوية أو حضارية، لأنها كما أسلفنا، تشكل العمق الاستراتيجي في المجتمع والحياة، والطبقة الأعمق في التكوين الإنساني، ولذلك فإن أي محاولة للنهضة بالمجتمع لا تأخذ هذه التوجه بعين الاعتبار ستمنى بالإخفاق والفشل، وبالتالي فإن أي محاولة أخرى تنطلق بعيدا عن هذه المرحلة لن تحظى بأي نجاح ممكن أو محتمل وبالتالي فإن درجة الإخفاق تكون أكبر كلما كانت المسافة الفاصلة بين مرحلة الطفولة ونقطة الانطلاق أبعد.
وهنا وفي هذا السياق يتوجب أن نذّكر بأن التربية العلمية الحديثة في مستوى الطفولة تشكل الشرط اللازب في كل إصلاح تربوي ممكن ومحتمل، وأن الإصلاح التربوي يشكل العمق الاستراتيجي للإصلاح الاجتماعي برمته، ومن هذا المنطلق يجب أن نقول بأن الرهان الحضاري لوجودنا وحياتنا المجتمعية يتمثل في مدى قدرتنا على إيجاد تحولات عميقة وبنيوية في أساليب تربية الأطفال والعناية بهم وتنشئتهم وفقا لأحدث معطيات المعرفة العلمية والنفسية. ويبقى أن نقول أيضا بأن بناء الوعي التربوي، بأهمية مرحلة الطفولة وبأهمية العلم الحديث والطرائق التربوية في تربية الأطفال، يجب أن يتجاوز حدود التخصص العلمي، وهذا يعني أن الوعي الذي نتحدث عنه هو وعي شامل يغطي مختلف شرائح المربين في المجتمع من آباء وأمهات ومربيات وعاملين وسياسيين. وإذا ما بقي هذا الوعي سجين فئة متخصصة أي إذا لم يستطع أن ينفلت من عقال التخصص ودوائره الضيقة فإننا لن نستطيع أبدا أن نحقق ما تصبو إليه النفوس الطيبة من أمل في أصلاح الإنسان والمجتمع. إن إصلاح المجتمع لا يكون إلا بإصلاح الإنسان وإصلاح الإنسان إلا بإصلاح الطفولة وهذا يعني أن الطفولة تشكل المبتدأ والخ!
بر في كل عملية تربوية تسعى إلى تحقيق الإصلاح في التربية والمجتمع والإنسان.
وبقي أن نقول بأن التربية التي تسود في مجتمعاتنا تعاني من هيمنة أسطورية لمفاهيم وتصورات تقليدية أكل الزمان عليها وشرب، وأصبحت مجرد خرافات وأوهام تربوية، وأنه يجب علينا اليوم أن نحقق ثورة في المفاهيم التي تتصل بالطفولة وتربية الأطفال وعلينا أن نقتلع كل الأعشاب الضارة وخضراء الدمن التي نبتت في تربة التربية التي ننهجها حاليا في تربية الأطفال. وهي تربية تقليدية تدمر وتؤذي وتقتل وتضعف وذلك بدلا من أن تبني وتصلح وتحيي وتقوي، لأنه في التربية الحديثة حكمة تقول: كل ما لا يحيي يميت وكل ما لا يبني يهدم. ومعيار البناء الصحيح وفقا للتربية الحديثة هو الوعي والوعي العلمي بأصول التربية الحديثة ومفاهيمها واتجاهاتها ونظرياتها وأسسها السيكولوجية.
ولا بد لنا بداية وفي اتجاه هذا الوعي النقدي في التربية أن نعمل على كشف جوانب الضعف والقصور في التربية التقليدية التي لا تأخذ بأسباب العلم الحديث ومقومات علم النفس والنظريات التربوية المتعاقبة عبر أطراف الزمان والمكان. وعلى هذا الأساس يجب أن نعمل على تكوين وعي تربوي نشط وناشط وأصيل بأهم معطيات المعرفة العلمية في مجال تربية الأطفال والعناية بهم. ومن أجل هذه الغاية يجب أن تتكاثف الجهود لتقديم صورة عن خصوصية نمو الطفل وقانونيات نمائه جسديا ونفسيا واجتماعيا وعقليا. وعلينا في كلهذا أن نبدأ من حيث يجب أن يبدأ المربي في تكوين فهم شامل ينطلق من مرحلة الجنين إلى نهاية مرحلة الطفولة المبكرة. ومن أجل بناء هذا الوعي يجب أن نحيط علما بنسق النظريات التربوية التي أبدعها رواد التربية في مجال الطفولة بدءا من التربية النبوية والإسلامية وصولا إلى أحدث النظريات التربوية في مجال التربية العقلية عند بياجيه، وبين هذين الطرفين يجب علينا أن ندرك النزعة الطبيعة في التربية بدءا من معطيات الفلسفة العربية عن ابن طفيل الأندلسي في كتابه حي بن يقظان، ومرورا بجان جاك روسو وبستالوتزي وفروبل ومونتسوري ووصولا!
إلى فرويد في مجال التحليل النفسي. وإننا لعلى يقين بأن هذا الجهد سيأخذ بأيدينا إلى ذروة وعي تربوي بأهمية الطفولة وأهمية التربية في هذه المرحلة وسيولد لدينا إيمانا راسخا بأن التربية العلمية في مرحلة الطفولة هي وهي وحدها منطلق النهوض الحضاري الشامل في المجتمع. والله ولي التوفيق.
المصدر: موقع أ.د. علي أسعد وطفة
المشاهدات 4255 | التعليقات 3
من واقع الحياة
إذا عاش الطفل في جو من التشجيع .. تعلم الثقة بالنفس
إذا عاش الطفل في جو من التحمل .. تعلم الصبر
إذا عاش الطفل في جو من المديح .. تعلم التقدير
إذا عاش الطفل في جو من الرضا .. تعلم المحبة
إذا عاش الطفل في جو من التقدير .. تعلم الرضا عن النفس
إذا عاش الطفل في جو من المشاركة .. تعلم الكرم
إذا عاش الطفل في جو من النزاهة .. تعلم الصدق
إذا عاش الطفل في جو من الإنصاف .. تعلم العدل
إذا عاش الطفل في جو من الطيبة والمراعاة .. تعلم احترام المشاعر
إذا عاش الطفل في جو من الأمن .. تعلم الاستقرار
إذا عاش الطفل في جو من الانتقاد .. تعلم الإدانة
إذا عاش الطفل في جو من العداوة .. تعلم العنف
إذا عاش الطفل في جو من الخوف .. تعلم القلق
إذا عاش الطفل في جو من الشفقة .. تعلم الانطواء
إذا عاش الطفل في جو من السخرية .. تعلم الخجل
إذا عاش الطفل في جو من الغيرة .. تعلم الحسد
إذا عاش الطفل في جو من العار .. تعلم الشعور بالذنب
إذا عاش الطفل في جو من المودة والرحمة .. تعلم بأن هذا العالم مكان يليق بالحياة السعيدة
إذًا ماذا ستختار لطفلك
عطيتنا الزبدة يا شيخ عبدالله فجزاك الله خيرا
عبدالله البصري
كلام طويل ينسي آخره أوله ، وتقضي صعوبته على عذوبته ، وتحول بعض مصطلحاته العلمية البحتة دون فهم دقيق أو تصور عميق له .
الذي فهمته أنه يجب أن يحرص على التربية في سنوات الطفولة الأولى أو الطفولة المبكرة . وهذا صحيح .
وإنه لمن المؤسف حقًّا أننا قد نغفل كثيرًا عن أن التربية الصحيحة النافعة المؤثرة تبدأ في سن مبكرة ، بل في وقت أبكر مما قد لا يتصوره أغلبنا ، بل لا يبالغ من قال إنها تبدأ قبل الزواج !!
فاختيار الزوجة الصالحة هو أساس تربية الأبناء التربية الصحيحة ، وهو اللبنة الأولى التي يجب أن تختار بعناية فائقة ، وتثبت بشكل يجعلها تتحمل ما سيعلوها من لبنات ، ومن ثم فإن أي هشاشة تكون في تلك اللبنة أو خطأ في تثبيتها سيحدث شرخًا كبيرًا في بناء التربية من بعد .
وبعد اختيار الزوجة فإن التربية تبدأ والجنين في بطنها بأن يتعرف الوالدان أصول التربية ويتعمقا في الأساليب التربوية الناجحة ، وتكون لديهما المعرفة التامة بما تتطلبه كل مرحلة عمرية بحسب خصائصها التي تميزها ومشكلاتها التي تواكبها ، وكيف يتم التعامل مع الولد أو البنت في كل مرحلة ، وما الأساليب الناجعة في حل ما يواجههما من مشكلات ... إلخ .
وإذا فعل الوالدان هذا الأمر وجعلاه لهما همًّا ، فإنه لا يولد لهما مولود إلا وقد اتفقا على خطة تربيته ووضعا لهما أهدافًا واضحة وغايات محددة ، ومن ثم يسيران في خط واحد وإلى هدف واحد في اتجاه واحد ، لا أن يشرق أحدهما ويغرب الآخر ، كما يحصل في كثير من بيوتنا .
اللهم أصلحنا وأصلح لنا وبنا ، واجعلنا هداة مهتدين ، وهب من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا .
تعديل التعليق