الأسرة الناجحة
هلال الهاجري
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، أَمَّا بَعْدُ:
في التَّقريرِ الصَّادرِ عَنْ هَيئةِ الأُمَّمِ المُتحِدَةِ في عَامِ 1975 للمِيلادِ، وبمُنَاسبةِ اليَومِ العَالميِّ للمَرأةِ، جَاءَ فِيهِ هَذهِ العِبَارةُ: (إنَّ الأُسرَةَ بِمَعنَاهَا الإنسَانيِّ المُتَحَضِّرِ، لم يَعِدْ لَها وُجُودٌ إلا في المُجتَمَعَاتِ الإسلاميَّةِ، رُغْمَ التَّخَلفِ الذي تَشهَدُهُ هَذهِ المُجتَمَعَاتُ في شَتَّى المَجَالاتِ الأُخرَى(، وَهَذا الإعلانُ الصَّادِرُ عن هَذهِ الجِهَةِ الرَّسمِّيةِ قَبلَ خَمسِينَ عَامٍ تَقرِيباً، يُعطِي انطِبَاعَاً لِجَميعِ العَالمِ أنَّ استِقرَارَ الأُسرَةِ المَسلِمَةِ، هُو في حَدِّ ذَاتِهِ حَضَارةٌ تُحَافِظُ عَلَى هَويَّةِ وحَضَارةِ المَجتَمعِ، حَتى لَو لَمْ يَكُنْ في البِلادِ تَطَوِّرٌ أو رُقِيٌّ بِالمَعنى الذي يُريدونَ.
ولا شَكَ أنَّ هَذا الإعلانَ عَلى المَلأِ مِن النَّاسِ سَيَكونُ لَهُ رَدَّةَ فِعلٍ مَعَاكِسةً مِمن لا يُحبونَ للإسلامِ والمُسلِمينَ أيَّ خَيرٍ أو ثَناءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، فَمَكَروا وَخَطَّطوا مِن أَجلِ هَدمِ الأُسرةِ المَسلِمَةِ بِكُلِّ وَسيلةٍ، وبأَي طَريقةٍ، فَهَل استَطَاعَ الأعدَاءُ، بِكُلِّ ما أوتوا مِن مَكرٍ ودَهَاءٍ، أن يَهدِموا البِناءَ؟.
والحَقِيقةُ أنَّ الحَديثَ عَن الأُسرةِ المُسلِمَةِ كَثُرَ فِيهِ الخِصامُ، وَعَظُمَ فِيهِ الصِّدَامِ، وأَصبَحَ رَبُّ الأُسرةِ يَبحَثُ عَن الزِّمَامِ، ويَا لَيتَنَا رَدَدنا الأَمرَ إلى شَريعَةِ الإسلامِ، لَعَرَفنَا مُقَوِّمَاتِ الأُسرةِ المُسلِمَةِ في أَخصَرِ الكَلامِ.
وَبَعيداً عَن التَّفَاصِيلِ المُمِلَةِ، احفَظوا هَذِهِ المُعَادَلةَ السَّهلَةَ:
الأُسرَةُ المُسلِمَةُ النَّاجِحَةُ = اختِيَارٌ حَسَنٌ + مَعَامَلةٌ حَسَنَةٌ + تَربيَةٌ حَسَنَة
فالاختِيارُ الحَسَنُ: كَما قَالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ في المَرأة: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)، وَقَالَ في الرَّجلِ: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)، فَهَذا الأَساسُ الذي تَقُومُ عَليهِ الأُسرةُ المُسلِمَةُ لِيَتَحقَّقَ فِيها قَولُ اللهِ تَعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً).
والمُعَامَلةُ الحَسَنَةُ: وَصيَّةُ اللهِ تَعَالى لَكَ أيَّها الرَّجلُ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وكَمَا وَصَّاكَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)، فَأَفضَلُ الأخلاقِ وأَفضَلُ العَطاءِ هو مَا تُعطيهِ لأهلِكَ، لا مَا تُعطِيهِ للنَّاسِ، وأَنتِ أيُّتها الزَّوجةُ، اسمَعي إلى أَسهَلِ العَمَلِ، وأَعظَمِ الأجرِ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إذا صلَّتِ المرأةُ خَمْسَها، وَصَامَتْ شَهرَهَا، وَحَصَّنَتْ فَرجَهَا، وأَطَاعَتْ زَوجَهَا، قِيلَ لها: ادخُلي الجنَّةَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِئتِ).
والتَّربيَّةُ الحَسَنَةُ: تَربيَةُ الزَّوجةِ والأولادِ عَلى طَاعةِ اللهِ تَعالى، والعَملِ الصَّالحِ الذي يُدخِلُ الجَّنَّةَ ويُبَاعِدُ عَن النَّارِ، كَمَا قَالَ سُبحَانَه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، وأَعظَمَ التَّربيَّةَ هُو الأمرُ بالصَّلاةِ والصَّبرِ عَلى ذَلكَ، كَمَا قَالَ تَعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)، فإذا أَقَاموها حَفِظَتهُم من الفَحشَاءِ والمُنكَرِ، كَما قَالَ عَزَّ وَجلَّ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)، وَيَكونُ بِكَثرةِ الدُّعاءِ، كَمَا هُو حَالُ عِبَادِ الرَّحمَنِ: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)، ويَكونُ بِالقُدوةِ الحَسَنةِ كَمَا هُو مَنهَجُ الأنبياءِ، (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، أو سَتَكونُ تَربيَتُكَ خَاويَةٌ لَيسَ لَها أَثرٌ عَلى الذُّريَّةِ، وتَكُونُ سُخطَاً عَليكَ مِن رَبِّ البَريَّةِ: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).
وبِاختِصَارٍ أن تَستَعِّدَ للسُّؤالِ: (كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكم مَسؤولٌ عَنْ رَعيتِهِ، وَالرَّجلُ رَاعٍ عَلى أَهلِ بَيتِهِ وَهو مَسؤولٌ عَنهُم).
أَستغفرُ اللهَ العَظيمَ لي وَلَكم، ولِسَائرِ المسلمينَ، مِنْ كُلِّ خَطيئةٍ وإثمٍ، فَاستغفروه وتُوبوا إليه، إنَّ رَبي لغَفورٌ رَحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ، (خَلَقَ فَسَوَّى)، (وقَدَّرَ فَهَدَى)، وَأَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأَشهدُ أنَّ نَبيَّنا مُحمداً عَبدُهُ وَرَسولُهُ، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى)، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وَصحبِهِ أَهلِّ الخَيرِ وَالوَفَا، أَمَّا بَعدُ:
وَهَكَذا أيَّها الأحبَّةُ إذا تَوَفَرَّتْ مُقَوِّماتُ نَجاحِ الأسرَةِ المُسلِمَةِ وَقَامَ كُلُّ فَردٍ مِنَ الأُسرةِ بِدَورِهِ، فَالأبُّ لِلسَّعيِّ والقِوَامَةِ ومَصدَرِ الأَمانِ، والأمُّ لِلتَّربيَّةِ والخِدمَةِ وَمَنبَعِ الحَنانِ، حِينَها سَيَشعُرُ الأبناءُ والبَنَاتُ بالاستِقرَارِ والاطمِئنانِ، وسَيَعرِفونَ قَدرَ هَذهِ النِّعمَةِ التي لا تُقَدَّرُ بِالأثمَانِ، وسَيَتَمنَى كُلُّ واحدٍ مِنهُم أن يَبنيَ أُسرةً مِثلَ أُسرتِهِ السَّعِيدةِ، ويَستَمِرُ النَّجاحُ والفَلاحُ في الأُسرةِ الإسلاميَّةِ الجَديدةِ.
وأَمَا إذا حَصَلَ التَّفريطُ من الأبِّ والأمِّ، ولَمْ يَقُمْ كَلٌّ مِنهُمَا بِالحُقُوقِ التي تَنبَغي عَليهِ، فَقَد قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ)، وإذا لَم تَتَحقَّقْ مُقَوِّمَاتُ النَّجاحِ في الأُسرةِ، فَعِندَها تَحدثُ المَشَاكلُ الأُسريَّةُ، ويَقَعُ الطَّلاقُ عَلَى الزَّوجَةِ، والظُّلمُ عَلَى الأَولادِ، فَيُؤثرُ سَلبَاً على تَربيةِ الجِيلِ القَادمِ، فَلا يَعرِفُونَ للأُسرةِ تَقدِيراً ولا احتِرَاماً، ولا يَرونَ في الزَّواجِ سَكَناً ولا سَلامَاً، فَكَيفَ لِمِثلِ هَؤلاءِ أن يُنشئوا أُسَراً إسلاميَّةً نَاجِحةً؟.
وَبِالنَّظرِ إلى الوَاقِعِ، تَستَطيعُ الآنَ أن تُجيبَ: هَل استَطَاعَ الأعدَاءُ، بِكُلِّ ما أوتوا مِن مَكرٍ ودَهَاءٍ، أن يَهدِموا البِناءَ؟.
وَإذَا تَلَعثَمَتْ الحُروفُ فَعُذرُهَا *** أَنَّ الأَسَى فِيمَا تَراهُ كَبيرُ
كَمْ شَاعِرٍ فَذٍّ رَأَى مِنْ حَولِهِ *** عُمْقَ الجِرَاحِ فَخَانَهُ التَّعبَيرُ
اللهمَّ أَصلِحْ أَحوَالَنا، اللهمَّ اجعلنا بالإسلامِ قَائمينَ، وَلا تُشمِتْ بِنَا الأَعداءَ ولا الحَاسدينَ، اللهمَّ طَهرْ بُيوتَنا مِن المنكراتِ، اللهمَّ واجعل أُسَرَنا مُستقيمةً على شَرعِكَ يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ اغفر لَنا ولآبائنا ولأمهاتِنا، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ مَغفرةً لا تَدعُ لَنَا ذَنباً، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ أن تَجعلَنا ممنْ يَخَافُكَ وَيتقِيكَ، اللَّهُـــمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْـلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن، اَللَّهُمَّ اِحْفَظْ اَلْمَسْجِدَ اَلْأَقْصَى وَأَهْلَهُ اَلْمُرَابِطِينَ، اَللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ اَلْمُعْتَدِينَ، نَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ، اَللَّهُمَّ أَنْزَلَ بِهُمْ بَاسَكُ اَلَّذِي لَا يَرُدُّ عَنْ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ، اللَّهُمَّ فَـــرِّجْ هَمَّ المَهْمُـــوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين، اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفّـِقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَـــتِهِمَا لِلْــبِرِّ والتَّقْوَى، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار، عِبَادَ الله: اُذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين.
المرفقات
1727286764_الأسرة الناجحة.docx
1727286771_الأسرة الناجحة.pdf