الأسباب العملية لتقدم سلف الأمة الإسلامية// أحمد كمال

احمد ابوبكر
1436/03/15 - 2015/01/06 05:06AM
[align=justify]كلنا يعلم أن سلفنا تقدم بسبب اتباعه للكتاب والسنة، ولكن هل فكرنا كيف اتبعوه؟ وما هي التعاليم السامية التي اتبعوها فيهما حتى يصلوا إلى كل هذا المجد؟ قبل أن نخوض في موضوعنا لا بد لنا أن نعرف ما هو التقدم الحقيقي؟ هل التقدم بصنع التكنولوجيا، أم التقدم باستخدامها، أم التقدم بهما معاً؟! لا ليس هذا ولا ذاك هو التقدم..

التقدم هو وصول الإنسان للسبيل الذي يجعله سعيداً حقاً لأطول زمن ممكن..
والإسلام قدم لأتباعه سعادة الدنيا، ومد هذه السعادة إلى سعادة أعظم بكثير في الحياة الآخرة، بدرجة لا تقارن وهذا قد ميز الإسلام عن غيره من الحضارات المادية، حيث أن الإسلام جعل من سعادة أتباعه سعادة سامية في النوع، ممتدة في الزمان امتداد الدار الآخرة، وهو امتداد لا نهائي، بينما حصرت الحضارات المادية السعادة التي يوهم الإنسان نفسه بالوصول اليها في التقدم التكنولوجي في زمن محدود يتضاءل تضاءل الصفر بجانب السعادة التي يقدمها الإسلام لأتباعه..

الأسباب على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: وجود ووضوح الهدف النهائي (الرؤية).
وهو رضا الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار، وهذا لن يتأتى إلا بعقيدة راسخة
وقد دل الله تعالى على هذا الهدف بوضوح في القرآن الكريم إذ قال تعالى على سبيل المثال لا الحصر..

{وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصِّلْحَات أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَنَّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82].
{كُلّ نَفْس ذَائِقَة الْمَوْت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُوركُمْ يَوْم الْقِيَامَة فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّار وَأُدْخِلَ الْجَنَّة فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغُرُور} [آل عمران:185]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (الراوي: أبي بن كعب، خلاصة الدرجة: صحيح، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الجامع، الصفحة أو الرقم:6222)، وغيرها غير القليل من الآيات والأحاديث التي تضع الجنة هدفاً نهائياً واضحاً أمام كل المسلمين، وتوضح لهم أن الوصول إليها ليس باليسير، بل يحتاج إلى جهد جهيد.

ونجد هنا شيئاً جميلاً: نجد أن الإسلام جعل الهدف النهائي هدفاً سامياً يتسامى ويعلو عن مطالب الحيوان الغريزية، وبهذا جعله إنساناً حقاً، ميز بينه وبين الحضارات المادية التي تتخذ من حب البقاء هدفاً نهائياً لها، فلقد حول الإسلام هذه الغريزة الحيوانية إلى حب البقاء في دار أكمل من الدار التي يعيش فيها حب البقاء الحقيقي، البقاء لزمن لا نهائي في جنة عرضها السماوات والأرض فيا له من فرق في الأهداف يجعل المسلم فخوراً بدينه.

ثانياً: وضوح السبيل للهدف (اتباع المرجعية).
والمرجعية هي مرجعية شرعية إلهية، ومرجعية عملية تجريبية.
أما المرجعية الشرعية فهي اتباع ما جاء في القرآن والسنة من عقائد وعبادات، ومعاملات وغيرها من التعاليم، والمعلومات التي تستقيم حياة الإنسان بها في الدنيا ويفوز بالجنة في الآخرة، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].

وطاعة أولى الأمر واجبة فقط في عدم معصية الله تعالى، ونلاحظ أن {أُوْلِي الأَمْرِ} لم يأت قبلها كلمة أطيعوا، لأن طاعتهم غير مستقلة بذاتها، أما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي من طاعة الله تعالى، لأنه لا يشرع من نفسه ولا ينطق عن الهوى، إنما يبين للناس دينهم بأمر ووحي من الله، قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 2-4]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدًا ما أخذتم بهما أو عملتم بهما: كتاب الله وسنتي ولم يتفرقا حتى يردا علي الحوض» (الراوي: أبو هريرة، خلاصة الدرجة: صحيح، المحدث: ابن حزم، المصدر: أصول الأحكام، الصفحة أو الرقم:2/251).

وينبغي هنا بالطبع أن نقارن بين مرجعية المسلمين ومرجعية غيرهم، فمرجعية المسلمين هو كتاب من لدن مصمم الكون وخالقه العالم بمصلحته، هذا الكتاب محفوظ تفصيلاً يشهد على حفظه المنطق قبل التاريخ، وسنة نبوية محفوظة إجمالاً تم غربلتها بدقة من قبل علماء الحديث، وعلماء الجرح والتعديل، الذين أدوا عملاً عقلياً جباراً في استخراج الصحيح من السنة النبوية كي نتبعه، وهذين العنصرين ليسوا موجودين عند غير المسلمين، فليس مرجعهم مصدره مصمم الكون وخالقه وبالتالي فهو لم يأخذ في الاعتبار أشياء عديدة، ولا يوجد ضامن لحفظ مرجعهم من عبث ذوي المصلحة في تحريفه.

أما المرجعية التجريبية: فقد دلت عليه السنة بوضوح في موقف يستحق التأمل، واستخراج النفيس من الحكم لمن كان له نظر ثاقب، وها هي القصة روتها لنا السنة الصحيحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» ، قال فخرج شيصًا، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» (الراوي: أنس بن مالك، خلاصة الدرجة: صحيح، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الصفحة أو الرقم:2363)، وهذا يدل على نصحه لهم باتباع الخبرة التجريبية في أمور الدنيا، ولا يفوتنا تدبر الحكم المستخرجة من هذه القصة..

أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مقدساً لدى المسلمين تقديس الألوهية التي يقدسها غيرهم لغير الله من البشر. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد يصيب ويخطئ في أمور الدنيا لأنه بشر مثلنا، أنه ليس كل أفعال وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله ديناً يثاب المرء باتباعه ويعاقب بتركه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر من حقه التميز في صفات معينة، وحب أشياء وكره أشياء، كما يفعل كل البشر وذلك بالطبع بشرط أن تكون هذه الصفات على الأقل مباحة، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأتي بحرام أبداً، ولكن أفعاله وأقواله التي تتصل بالشريعة الإسلامية هي دين لأنه فيها لا يتصرف بهواه ولا ينطق بهواه، إنما يكون كل هذا بأمر من الله عز وجل..

وبالتالي فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مسلم، وظيفته تبليغ رسالة الله الخاتمة للناس أجمعين، وتطبيقها عملياً حتى يعلموا أنها قابلة للتطبيق، وأنها هي المثالية الواقعية والواقعية المثالية، وعليه فإنه معصوم من معصية ربه، غير معصوم من الخطأ البشري العادي أو النسيان، وذلك بالطبع باستثناء نسيان ما يوحى إليه لأن الله يحفظ ذاكرته من هذا، وذلك بحفظه القرآن الكريم، أن الخبرة البشرية في أمور الدنيا التي سكت عنها الإسلام والتجربة والخطأ فيها تشكل مرجعية يقرها الإسلام، بل ويشجع عليها ويأمر بها، وهذا يعطي حرية واسعة جداً للإبداع في أمور الدنيا.

ثالثاً: وضوح الرسالة أو المهمة أثناء السير نحو الهدف، ووضوح مقتضيات هذه الرسالة، إن عبادة الله تعالى هي مهمة الناس في هذه الحياة ورسالتهم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]، ومقتضيات هذه العبادة تشمل ما يلي..

أ- تأدية ما هو مطلوب من الإنسان نحو خالقه شكرًا له وعرفانًا بالجميل الذي أسداه إليه..
فنكران جميل الله والإشراك به هو أكبر الكبائر عند الله، وبالعكس فإن الشكر لله يثيب عليه الله في الدنيا والآخرة، وذلك من كرمه جل وعلا، لأن الشكر لله حق محض له، ومهما شكرناه فلن نوفي نعمة واحدة من نعمه أبدًا، فكيف بنا بشكر نعم لا تعد ولا تحصى؟ قال تعالى: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، ولم يتركنا ربنا دون أن يعلمنا كيف نشكره فقد أرسل إلينا رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم ليعلمنا الصلاة والصيام والزكاة، والحج والجهاد بكافة أنواعه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكافة العبادات لنشكر الله تعالى بها ونؤدي هذا الواجب العظيم.

ب- عدم حبس الخير على النفس وحب انتشاره بين الناس حتى يعم على الجميع.
وهنا ينزع الإسلام الأثرة من النفوس ويجعل حب الخير للناس (بأن يعتنقوا الإسلام) هو عمل عظيم يثاب عليه الإنسان ثواباً كبيرًا، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وبالطبع فإن الدعوة تكون بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدل الحسن، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].

ويجب أن تكون الدعوة باللين وليس بالغلظة، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، ويجب أن يكون من يدعو عالمًا بالدين فاهمًا له مقتنعًا به حتى لا يُضل الناس عن سبيل الله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].

ومن المناسب في هذا المقام أن نقارن الفتوحات الإسلامية قديماً بالاحتلال الحديث من دولة قوية لدولة ضعيفة، بحجة نشر مبادئ الدولة القوية، وعلى سبيل المثال (الديمقراطية)، -السبب الحقيقي بالطبع هو المال أو الاستعمار لأهداف صهيونية أو كلاهما- أقول عندما نتأمل في هذا نجد عجبًا: نجد أن الاحتلال الحديث باء بالفشل الذريع في نشر ثقافته في بضع سنين، بينما كان الإسلام يُتقبل من لدن الناس بسهولة ويسر كسهولة دخول الهواء النقي في الرئتين، وسريان الأكسجين الموجود فيه بعد ذلك في الدماء، بل ويصمد الإسلام في نفوس وعقول الأجيال المتعاقبة فوق الألف عام بزخم غريب يدل على أن الإسلام هو دين الفطرة فعلاً، وكأن له مستقبلات في الأرواح، ما أن تجده حتى تتمسك به ويصير جزءًا منها لا ينفصل عنها، ويدل أيضاً أن الاحتلال الحديث يأتي بقيم ليست على اتفاق مع النفس البشرية بل على تنافر معها.

ملحوظة هامة: لم يكن مبدأ الفتح الإسلامي هو احتلال الأرض والاستفادة من خيراتها بالنسبة للجنس العربي، ولكنه كان الدعوة للإسلام أولاً وأخيراً، والتخلية بين العباد ورب العباد، فلو أنه يوجد من أهل البلد المفتوح من يصلح للولاية عليه فليس للجنس العربي مصلحة في البقاء في هذا البلد، وهذا ما حدث بالفعل فقد كان الجيش العربي يفتح بلداً ثم يخرج بمعظمه لفتح بلد آخر وهكذا، وذلك لأن الإسلام نزل أول ما نزل على العرب، ولكنه ليس جنساً وإنما دين الناس أجمعين من عرب وعجم.

جـ- الأخلاق الحسنة.
وقد حث الإسلام وشدد على حسن الخلق، والرسول الله صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في حسن الخلق، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وإنه كان يقول: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا» (الراوي: عبد الله بن عمرو بن العاص، خلاصة الدرجة: صحيح، المحدث: البخاري، المصدر: الجامع الصحيح، الصفحة أو الرقم:6035)، وهذه الراوية تؤكد أن سوء الخلق يفسد العبادة ويجعلها غير كافية للوصول إلى الجنة..

ونجد غيرها من الروايات الصحيحة ما يؤدي لنفس المعنى، قال رجل: "يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في النار»، قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي في الجنة» (الراوي: أبو هريرة، خلاصة الدرجة: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما، المحدث: المنذري، المصدر: الترغيب والترهيب، الصفحة أو الرقم:3/321).

وكان حسن خلق المسلمين التجار الذين يتعاملون مع غيرهم في البلاد البعيدة عن الجزيرة سبباً عظيما في دخول أفواجًا من غير المسلمين في الإسلام لما أبهرهم الدرجة السامية التي عليها هؤلاء الرجال من حسن خلق وسماحة في البيع والشراء، فقد قال في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى» (الراوي: جابر بن عبد الله الأنصاري، خلاصة الدرجة: صحيح، المحدث: البيهقي، المصدر: الآداب، الصفحة أو الرقم:141).

د- العدل.
فالعدل من أهم مقومات الحضارة، وقد أمرنا الإسلام بالعدل وبالقسط بدون تحيز ولو لأقرب أقاربنا..
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]، وقال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:85]، وقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْل إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَن تَأْوِيلًا} [الإسراء:35].

والقسط ليس مع المسلمين وحدهم، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، وتشهد على ذلك قصة طعمة بن أبيرق، الذي سرق درعًا وأودعها عند رجل يهودي، فلما وجد صاحب الدرع درعه، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه ما حدث، أنكر طعمة السرقة، وادعى أن اليهودي هو الذي سرقها، وجاء أقارب طعمة ليدافعوا عنه، فأنزل الله تسع آيات من سورة النساء، بينت ما هو حق وما هو باطل في هذه القضية الملتبسة.

قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا . وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا . وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا . يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا . هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً . وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا . وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا . وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا . وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ. وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:105-113].

وقد دلت السنة أيضا في غير موضع على تحريم الظلم، ففي جزء من الحديث الذي رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» (الراوي: أبو ذر الغفاري، خلاصة الدرجة: صحيح، المحدث: مسلم، المصدر: المسند الصحيح، الصفحة أو الرقم: 2577)، هذا ولم يكتف الإسلام بتحريم الظلم والحث على العدل بل وضع نظاماً للقصاص من الظالم لحق المظلوم، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، وهكذا نجد المسلمين الأوائل -ليس كلهم بالطبع ولكن جلهم- قد تشربوا هذه التعاليم السامية وطبقوها بإخلاص امتثالاً لأمر الله عز وجل فرضى عنهم الله تعالى وكافأهم في الدنيا بتقدمهم على سائر الأمم آنذاك، وفي الآخرة بالجنة والرضوان كما وعدهم.

هـ- نشر الفضيلة والنهي عن الرذيلة.
وهذا سر خيرية الأمة، فقد قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]، وقد ذم غيرهم بعد النهي عن المنكر في سورة المائدة: {كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، واشترط الإسلام أن يكون الإنسان مصلحاً وليس صالحاً في نفسه فقط، حتى يكون من المُتقبلين لدى الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (الراوي: خلاصة الدرجة: قد اتفق الناس على صحته، المحدث: الشوكاني، المصدر: الفتح الرباني، الصفحة أو الرقم:12/6124).

و- العمل الجاد من أجل تأدية الرسالة، وتأدية الرسالة تحتاج لقوى تحميها: قوى فكرية ومعلوماتية ومادية،
إن الحق لا بد له من قوة تحميه، والقوى التي تحمي الحق تختلف حسب الزمان والمكان، ومن هذه القوى..

أولاً: قوة الفكر.
قد ورد الحث على الفكر والتفكر في مواضع عديدة من القرآن الكريم، حتى صار الفكر فريضة إسلامية في نظر المسلم النابه، ونورد هنا بعض الآيات على سبيل المثال لا الحصر، التي تحث على شحذ الفكر في علوم الكون العديدة، قال تعالى مادحاً من يتفكر في الكون والعلوم الكونية والفيزيائية التي تدفع الإنسان لإجلال خالقه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8]، ومن يدعي أن الإسلام ليس في وفاق مع الفكر والتفكر، فأقول له: إنك لم تفهم الإسلام حقاً فالإسلام أعطى حرية الفكر إلى أقصى الحدود، بل حث على التفكر كأساس للدين المتين الراسخ في العقول والقلوب.

ثانياً: قوة العلم.
فالله تعالى قد علمنا من علمه، وحثنا على التعلم ما حيينا، قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:3-5]، وذلك حتى نوقر ربنا ونخشاه، لأنه لا يعرف قدر خالق الكون حق المعرفة إلا من يبحث في تصميم هذا الكون المبهر، حينئذ يقف مندهشاً عاجزاً عن إعطاء الخالق حقه من الإجلال والتعظيم، إنه كلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد علماً بجهله، وازداد تقديراً لعلم الله الذي لا يحصى، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28]، وبهذه الآية العظيمة وضع الله تعالى العلم سبيل خشيته وبالتالي سبيل الجنة، ولفظة {إِنَّمَا} تدل على القصر، وبالتالي فإن تحصيل العلم الشرعي والمادي واجب على كل مسلم، لأنه سبيل خشية الله وبالتالي دخول الجنة..

فضلاً عن أمر الله تعالى للمسلمين بدعائه للاستزادة من العلم، عندما قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وهذا يدل على شيئين، أولهما أن طلب العلم والحرص عليه فرض أمر الله به، وبالطبع فإنه لا يتعارض السعي الجهيد وراء العلم مع الدعاء بالاستزادة من رزق الله من العلم، فهما متلازمان غير منفكين، ثانيهما أن مصدر العلم هو الله فلا يغترن الإنسان بعلمه ويظن أنه من لدن نفسه، والعلم لا يشمل العلم النظري فحسب، بل والعلم التطبيقي، فقد دل الله تعالى في كتابه الكريم أن استخدام المواد الخام التي خلقها لنا في الصناعات المدنية والحربية هي عبادة وجهاد، وبهذه العبادة يميز الله عز وجل بين من ينصر الله ممن لا ينصره..


قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25]، وقد أخبرنا القرآن أيضاً أن استخدام المواد الخام في الصناعة كانت مهنة الأنبياء والصالحين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10].

وقال تعالى مخبرًا عن قصة المهندس النابغة ذي القرنين: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ. فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:94-97]، وبهذا قد رأينا كيف احتل احترام العلم النظري والتطبيقي، بل الحث عليه موقعاً متميزياً في الثقافة الإسلامية التي أرساها القرآن الكريم والسنة المطهرة.

ثالثاً:القوة المادية.
وتشمل القوة المادية كل من المعدات الحربية والقوة الاقتصادية، وقد حث القرآن الكريم بشكل صريح على امتلاك أدوات الحرب كسلاح ردع لإرهاب عدو الله وعدو الإسلام، حتى لا توسوس لهم أنفسهم في محاربة الدولة الإسلامية، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]، وحث على الإنفاق في سبيل الله في مواضع أكثر من أن تحصى في هذا المقام، ولا يخفى على العاقل أن القوة المالية شرط أساسي في الإنفاق وما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، وعليه فإن امتلاك المال واجب في الإسلام حتى يستخدم في تقوية شوكة المسلمين، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16]، رأينا كيف أن امتلاك القوة بأنواعها واجب إسلامي لا يجوز للمسلمين أن يتقاعسوا عنه، وهذا من ضمن الأسباب الكثيرة التي أدت بسلف الأمة إلى التقدم والازدهار، وهكذا..

ز- حرية الفكر والاعتقاد.
لقد تميز الإسلام بأنه دين الاقتناع فلا يوجد فيه إرهاب فكري، ولا يوجد فيه قهر للناس على اتباع ما ليس لهم به اقتناع، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، فبعد أن تبين الرشد من الغي بالأدلة العقلية فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعليه أن يتحمل مسئولية كفره في الدار الآخرة قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].

وقد قرن الله تعالى افتقار البرهان على الشرك والضلال بالعقاب عليه، وبالطبع كان هذا على سبيل إرخاء العنان للمشركين، فالله تعالى يعلم أنهم لن يأتوا ببرهان على شركهم وضلالهم، قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء:24]، وقال: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، وقال: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75].

ضوابط حرية الفكر.
ولكن مع هذا يجب احترام الدولة الإسلامية التي يعيش في كنفها غير المسلم، بحيث لا يخل بالنظام الإسلامي العام ولا يؤذي الشعب المسلم بحريته، فحرية فكره لا ينبغي أن تتحول لفعل يخالف القوانين العامة للدولة الإسلامية، وهكذا نرى أن كل من يدعي أن الإسلام دين إرهاب فكري فإن ادعائه هذا محض افتراء وليس له أصل من الصحة.

ح- ترسيخ مبدأ التجريب واعتبار الكون كتاب الله المفتوح الذي نبحث فيه ونبدع باستخدام أدواته.
إن الإسلام لا ينظر للعلوم التجريبية على أنها غاية في ذاتها، ولكنه ينظر إليها في إطار أنها تجلب للمجتمع المسلم منافع شتى، فهي تزيد من إيمان المسلم ويقينه بالله فقد قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20]، وهي لازمة لجلب القوة المادية العسكرية للمسلمين، وأيضاً لجلب رخاء العيش للمجتمع الإسلامي، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25]، وكما ذكرنا من قبل في هذا البحث أن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم علم الناس بأن أمور الدنيا التي سكت عنها القرآن الكريم والسنة الشريفة هي أمور متروكة للناس حتى يجربوها، ويستنتجوا الأصلح لحياتهم، وذلك عندما قال لهم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».

ط- دراسة التاريخ.
وقد نبه الله تعالى على أهمية دراسة قصص الأولين وتاريخهم للاستفادة منها، وعليه فقد أورد القرآن الكريم جزءًا ليس بالقليل من آياته في وصف تاريخ الأمم السابقة حتى يستفيد المسلمون منها في حاضرهم ومستقبلهم، قالى تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

الاستنتاج:
إن الأمة الإسلامية لم تتقدم في نشأتها من فراغ ولا من سبيل المصادفات، وإنما تقدمت بإيمان قوي دفعهم إلى الاتباع المخلص الذكي لتعاليم القرآن والسنة، فجعل منهم الدولة العظمى في العالم أخلاقياً وعلمياً وعسكرياً، فإن عدنا لما كانوا عليه من إيمان حاث على التقدم الجالب لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، سنتبوأ مكانتنا من جديد ولن يستطيع كائنًا أياً من كان أن يقهر هذه الأمة التي سارت على تعاليم ربها الذي صمم الكون وما فيه، وخلق الناس الذين يقطنونه ويعلم سرهم وعلانيتهم وطبائعم، حينئذ سيكون معنا الخالق الخبير بخلقه وسيكون أعداؤنا ما زالوا متخبطين في نظمهم المادية التي تصيب وتخطئ، والعقل والتاريخ يجبرانا أن نعتقد بانتشار الإسلام ونصر المسلمين إذا عدنا إلى ديننا عوداً حسنًا، والله الموفق إلى سبيل الرشاد.
والله أعلم.
[/align]
المرفقات

630.doc

المشاهدات 1028 | التعليقات 0