الأسباب الشرعية لسعة الأرزاق ـ2ـ التقوي
جابر السيد الحناوي
1431/04/20 - 2010/04/05 06:08AM
بسـم الله الرحمـن الرحـيم
الأســـباب الشــرعية لســـعة
و يســـر الأرزاق
2 ـ التقــــــــــوى
الأســـباب الشــرعية لســـعة
و يســـر الأرزاق
2 ـ التقــــــــــوى
عرفنا في الخطبة السابقة إن من الهموم التي تسيطر على كثير من الناس مسألة الانشغال بالرزق ،لدرجة أن هناك من يعتقد أن التمسك بالإسلام والالتزام بأوامره ، من الأمور التي تؤثر علي حصوله علي الرزق ، وهذا سوء ظن بالله عز وجل والعياذ بالله .
ولما كان الأصل في الإنسان أنه ما وجد علي ظهر الأرض إلا لعبادة الله سبحانه وتعالي وأن الله عز وجل قد تكفل برزقه منذ نشأته حتي مماته ؛ وقد بين الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ "( [1] )
كل ذلك ليربط القلب البشري بالسماء ؛ ويخلصه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله ، بل وأكثر من ذلك أقسم سبحانه وتعالي لتطمئن تلك القلوب علي أرزاقها فقال: " وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ"( [2] )
ومن سـعة رحمته عز وجل أن بين لنا في مواطن عديدة من كتابه العزيز ، وعلي لسان نبيه صلي الله عليه وسلمأن التمسك الحق بشرع الله من أعظم أسباب الرزق ، وقد تناولنا في الخطبة الماضية السبب الشرعي الأول من أسباب الرزق وهو الاستغفار ، واليوم ـ إن شاء الله تعالي ـ مع السبب الثاني من الأسباب الشرعية للرزق ، وهو " التقوى " .
فمن أسباب الرزق ، بل ومن أعظم أسباب الرزق الشرعية تقوى اللهعز وجل :
التقوى : اسم من الوقاية وهو أن يتخذ الإنسان ما يقيه من عذاب الله ، والذي يقيك من عذاب الله فعل أوامر الله واجتناب نواهيه ، بمعنى : الاحتراز بطاعة الله عن عقوبته ، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل ، أو ترك ، التقي : صاحب التقوي ، والجمع أتقياء. ( [3] )
فالمقصود بالتقوى إذا :الخوف من الله عز وجل وامتثال أمره واجتناب نهيه والبعد عن المعاصي في السر والعلن،وللتقوى آثار عظيمة في حياة الإنسان ، يقول ابن عباس : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا " أى ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، " وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ " ( [4] )
وفي تفسيرهلقولالله سبحانه وتعالي : " ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... " ( [5] ) يقول الإمام السعدي رحمه الله : " فكل من اتقى الله تعالى ، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله ، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة ، ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة ، ومن كل ما يضيق على الناس ، وكما أن من اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا ، فمن لم يتق الله ، وقع في الشدائد والآصار والأغلال ، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها ، وقوله : " وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ " أي : يسوق الله الرزق للمتقي ، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به ( [6] ) بمعني أن الله عز وجليسوق إليه الرزق من جهةٍ لا تخطر بباله ، ومن حيث لا يأمل ، ولا يرجو .
وعلي العكس من ذلك يبين رسول الله صلي الله عليه وسلمشـؤم المعصية ومغبة الذنب وعدم التقوي ، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ". ( [7] )
وكتب السيرة حافلة بالقصص الواقعية التي تترجم هذه المعاني علي أرض الواقع ، أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني؟ قال : " آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله " فقالت المرأة : نِعْمَ ما أمرك فجعلا يكثران منها ... ( [8] )
وفي رواية محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله". وكانوا قد شدوه بالقـد فسقط القـِد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها، وأقبل فإذا بسَرْح ( إبل ) القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه: عوف ورب الكعبة ، فقالت أمه : واسوأتاه ، وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القـد ، فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلمفأسأله عنها ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلمفأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعًا بمالك ". ونزل : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ " ( [9] )
صدقت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ نَزَلَ بِهِ حَاجَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ كَانَ قَمِنًا مِنْ أَنْ لَا تَسْهُلَ حَاجَتُهُ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ آتَاهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ" ( [10] )
يقول عبد الله بن مسعود : إن أكثر آية في القرآن فرجًا : " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا " ( [11] )
وقد كشف هذه المعاني قوله سبحانه وتعالي : " وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا "( [12] ) وقوله جـل جـلاله : " وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ... "( [13] )
ومع ذلك تجد كثيرا من المسلمين من أصحاب الأعمال والموظفين يمتهنون أعمالا محرمة ، وهم يعلمون أكثر من غيرهم أنهم يقعون في المحرمات الشرعية بغض النظر عما يتظاهرون به من طهارة مهنهم وأنها موافقة للشرع ، وفي الحقيقة أن عدم يقينهم بما عند الله يجعلهم يخشون الفقر ، ويتمسكون بالحرام ، متعللين في ذلك ببعض الفتاوي الصادرة من بعض أصحاب الذمم الخربة ممن يسميهم الناس علماء ، فإذا ضاق عليهم الخناق طالبوك بالبديل عما هم فيه من المحرمات.
إن القضية تحتاج من هؤلاء أن يعيدوا قراءة الآيات التي معنا ، ليدركوا حقيقتها ، فإنها تطالب الإنسان بالإيمان والتقوي والاستقامة علي دين الله وإقامة شرعه أولا ، ثم بعد ذلك يكون الفتح من الله ... يجب أن تترك المحرم الذي تقترفه وتزاوله ابتداءً من أجل الله ... يجب أن يصدق اعتمادك أولا علي الله ، وتكون علي يقين كامل بموعود الله أكثر من يقينك بما بين يديك ، وتبالغ في الدعاء والصبر ، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلمكَانَ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى "( [14] )والشاهد أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يسأل ربه التقي ، أي يوفقه إلي تقوي الله عز وجل ؛ فالله هو الذي بيده مقاليد الأمور فإذا وكل العبد إلي نفسه ضاع ، ولم يحصل علي شيء ، أما إذا رزقه التقي صار مستقيما علي تقوي الله عز وجل، والحديث يبين أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يسأل ربه : " الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى " ، وكلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بعضها ببعض وبالتقوى ، فهو صلي الله عليه وسلم يسأل الله سبحانه وتعالي الهدي أي العلم الذي يوصل للحق ، والعفاف عن كل ما حرم الله ، والاستغناء بالله عن الخلق .
فينبغي لك أن تقتدي بالرسول صلي الله عليه وسلم في هذا الدعاء خاصة ، وأن تسأل الله " الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى "، وأنت تعلم أن الحق جـل جـلاله وهو أعلم بالمصالح ، سيفتح لك أبواباً من الرزق لم تكن تخطر علي بالك في يوممن الأيام.
وقد كشف هذا المعني قوله سبحانه وتعالي : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " ( [15] )
لما ذكر عز وجل أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا ، وبالسراء استدراجا ومكرا ، ذكر أن أهل القرى ، لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال ، واستعملوا تقوى اللّه تعالى ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه ، لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض ( [16] ) ، وبركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه على عباده . ( [17] )
*** *** ***
أين نحن وهذه التقوي التي تفوح بها هذه النصوص العطرة ، أين منها الذين كبلتهم الوظائف في العمل في المحرمات كالربا والقمار ، والأفلام الهابطة والخمور ، والعقود المحرمة والتعاون على الإثم والعدوان ؟ بل أين منها هؤلاء الذين امتهنوا التعسس والوشاية بالناس بحجة المحافظة علي أمن البلاد ؟ أين منها هؤلاء الذين حرمتهم وظائفهم الأمن والأمان علي أرزاقهم إذا تركوا العمل المحرم ؟.
إن الأمر يحتاج منا إلى جُرأة ، وعزيمة إيمانية ، مع عقيدة راسخة بأن العاقبة هي حتما وعد الله المتمثل في قوله عز وجل : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... "( [18] ) وفي قراءة : " لَفَتَحْنَا " من المبالغة ، مما يدلل علي أنه ليس رزقا بسيطا تحصل به الكفاية ، بل فتح من الأرض وفتح من السماء ، من قبيل " فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا "( [19] ) ولكن مع الفارق ـ ولله المثل الأعلي ـ فهو فتح غير الفتح ، فهذا فتح عليهم ، وهذا فتح لهم ، فهذا فتح غضب من الله ، وهذا فتح رضا وامتنان ، ومن فتح الله له باب الرزق فمن ذا الذي يستطيع أن يمنعه أو حتى ينقص منه ؟؟
علي العبد أن يعاهد ربه على الإيمان والتقوى وترك المحرم ، وبعد ذلك ينتظر الفرج من رب كريم قادر ، لا تغيض خزائنه ولاينقطع خيره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين بمختلف الوسائل غير الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي )
[1] الذاريات 56 ، 58
[2] في ظلال القرآن 7 / 22
[3] القاموس الفقهي- الدكتور سعدي أبوحبيب 1 / 386
[4] تفسير ابن كثير 8 / 146
[5] الطلاق من الآيتين 2 ، 3
[6] تفسير السعدي 1 / 869
[7]تفسير ابن كثير 8 / 147مسند أحمد 45 / 417
[8] تفسير الألوسي 21 / 67
[9] تفسير السعدي 1 / 869
[10] و إمام أحمد مسند أحمد 8 / 48
[11] تفسير ابن كثير 8 / 146
[12] الجن : 16
[13] المائدة من الآية 66
[14]صحيح مسلم 13 / 250
[15] الأعراف : 96
[16] تفسير السعدي 1 / 298
[17] تفسير الخازن 3 / 69
[18] الأعراف من الآية 96
[19] القمر : 11 ، 12