الأرقام المميزة

عبدالله يعقوب
1433/03/15 - 2012/02/07 16:49PM
الأرقام المميزة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..

قبل سنوات.. يقولُ أحدُ الفضلاء (1): كنتُ في مستشفى الولادة, وكان بجانبي أحد الإخوة المواطنين, فحدثني بحرقة عما كان يعانيه هو وزوجته منذ يومين, متنقلاً من مستشفى إلى مستشفى.. دون أن يغمِضَ لهما جفن, ثم قال بصريح العبارة: "كل هذا بسبب زوجته.. التي أصرت أن تلد في يوم 9/9/2009م؛ من أجل هذا التاريخ المميز..!"، ثم وَلدتْ في نهاية اليوم التالي, وبعملية قيصرية..!
ثم قال الزوجُ عبارةً فحواها: يا ليتها رضيت بقضاء الله, ولم تتكلف البحث عن المظاهر في مثل هذا الظرف..!

يقول ناقل الخبر: ولقد فوجئت حقيقةً بهذا الموقف الذي ذكره لي الزوجُ نفسُه بسندٍ متصل, ولم أكن أظن أن الولَهَ في الرقم المميز يصل إلى هذا الحد, ولم أتصورْ يوماً أن تبحث المرأةُ عن المظاهرِ والمباهاةِ بأمورٍ تافهةٍ حتى في يوم ولادتها التي تُشرفُ فيها المرأةُ على الهلاك!

والمدهش والغريب والمؤسف أن ينساقَ الزوجُ وراءَ إلحاحِ الزوجةِ اللاهثةِ وراءَ عَبَثَيةِ الرقمِ المميز, وهو يملك بحكم فحولته مخزوناً من رجاحةِ العقل, فيختبئ هذا المخزونُ وراءَ عاطفة المرأة لكل ما هو مثير للأنظار..!

أيها الكرام.. كم هو مُحزنٌ أنْ تصلَ اهتماماتُ بعضِ بني أو بناتِ جلدتنا إلى هذه الدرجة من السُّخفِ والهَوَسِ وراء الأرقام المميزة والمتوافقة والمسلسلة والمكررة.. ولهذا لم يعدْ مستغرباً أن نسمعَ عن شراءِ لوحةِ سيارةٍ بآلاف الريالات, وفي بعض البلدان المجاورة بالملايين..! بل انتقل الهوس بالأرقام المميزة من أرقام السيارات والجوالات.. إلى الأرقام المطبوعة على العملات النقدية الورقية. فإذا كان الرقم على الورقة النقدية مميزاً باعها بسعر أعلى وهو ربا صريح... ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الكرام.. نحن لا ننكرُ أن بعضَ الأرقامِ المميزة فيها منفعة مباحة للمشتري, كالأرقام المميزة للهواتف الثابتة والنقالة, ولا سيما إذا كانت هذه الأرقام لشركة أو مؤسسة تجارية, تتخذ من هذا الرقم المميز أداةً سهلةً لاتصال العملاء بها...

ولكن ما ننكره, وتستهجنه الشريعةُ الإسلامية.. أن يكون الرقمُ المميزُ للمباهاةِ ولفتِ الأنظار, ويُدفع من أجل ذلك مبالغُ طائلة, وهو من إنفاق المال في غير موضعه، كما قال تعالى: (ولا تبذِّر تبذيراً..)، وقال تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وقال نبيُ الله صالحٌ عليه السلامُ لقومه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ).

الغريبُ - أيها الكرام - أن بعضَ الأرقام المميزة.. كان لها حضورٌ حتى في المشهد التاريخي والسياسي, حتى أن بعض الناس توقعَ نهايةَ العالمِ، أو حدوثَ أمورٍ غير طبيعية عام 2000م, وظهر كذب هذه الدعاوى.
وزعم البعضُ قبل أشهرٍ.. أن يوم 11/11/2011م، أن ذلك اليوم سيكون له شأن، حيث اجتمع الرقم (أحد عشر) ثلاث مرات، وهو رقم مقدس عند بعض الجماعات اليهودية، وأن ذلك اليوم هو موعد خروج المسيح الدجال. وأنه بدايةُ حكم اليهود للبشرية بأكملها لفترة زمنيةلا تقل عن ألفِ عام،،، وأثبتت الأيامُ أنَّ تلك التوقعات مجردَ خرافةٍ لا غير..

ولا تزالُ الخرافةُ قائمةً للأسف, حيث يسوّقُ بعضُ الخرافيين أن نهايةَ العالم ستكون بتاريخ 21/12/2012م، وكذبوا لعمر الله، والله تعالى يقول: (يسألك النَّاس عن الساعة.. قل إنما علمها عند الله..).

والسؤال الذي يطرح نفسَه هنا:
لماذا أيها الكرام... لماذا لا نبحث عن التميز في أنفسنا, بدل أن نبحث عنه في أرقامٍ لا تضيف شيئاً لحياتنا العملية..؟

لماذا لا نبحث عن الأرقام المميزة.. في ميزانيات بعضِ دوائرنا الحكومية, والتي لم تضفْ مع تميزها كأرقامٍ فلكية.. شيئاً يُذكر لنهضتنا الحضارية؟ فنطالب إثر ذلك بمحاسبة المسؤول, ومساءلة المباشر والمتسبب.

لماذا لا نبحث عن الأرقام الكثيرة والمتصاعدة لأعداد البطالة, ممن يتأهلُ بعضُهم للانحراف بفعل الحاجة والفراغ وضعف الإيمان؟ فنسعى لسد العوز والحاجة للعاطلين، عبر توظيف الأكفاء منهم, حتى نسهم في تخفيف البطالة إلى رقم مميز يبلغ الصفر, أو الحدِ منها لتبلغ الأرقامُ خانةَ العشرات والمئات, لا مئات الألوف.. كما هو الواقعُ الآن!

لماذا لا نبحثُ عن الأرقامِ المتصاعدةِ لأعدادِ الفتياتِ اللاتي يمارسُ ضِدَّهُنَّ الابتزازُ أو العنفُ الأسري؟ فنشارك بأموالنا وثقافتنا الإسلامية ببث برامجَ إعلاميةٍ راقية, ودوراتٍ تدريبيةٍ ناضجةٍ للأسر والمقدمين على الزواج, من أجل الوقاية أو المعالجة لهذه الممارسات البشعة, حتى نسهم في إنهاء هذه المعاناة بالرقم صفر, لا أكثر.

لماذا لا نبحثُ عن الأرقامِ المتناميةِ لأعدادِ السجناء؟ من أجلِ دراسةِ هذه الظاهرة, ووضعِ الحلولِ لها، عبر لجانٍ متخصصةٍ وأمينة, حتى نسهمَ في تخفيفِ هذه الأعدادِ إلى رقمٍ مميز, يلفتُ أنظارَ العالم, كما لفتَ نظرَهم تناقصُ أعدادِ الحوادثِ الإرهابيةِ في بلادنا, والتي يخبو أثرُها عاما بعد عام, بفضل الله تعالى، ثم بفضل الأسلوب الناجح للمناصحة في معالجة هذه الظاهرة.

لماذا لا نبحثُ عن الأرقام المهولة لأعدادِ الفقراء؟ فنُسهم بما نستطيعُ من أموالنا؛ لنمد يداً حانيةً إليهم بالدعم والمؤازرة, فنكفكفُ عبرةَ يتيم, ونسدُ جوعةَ فقير... دعونا نحدُ من الفقر في بلادنا أولاً.. وفي العالم ثانياً.. بأرقامٍ مميزةٍ, تتجاوز الحدَّ المألوف, وننشر بثقافةِ القدوةِ الحسنة.. أن الإسلامَ دينُ الرحمةِ والعطفِ والإحسان.

لماذا لا يغيّرُ المعادلةَ أربابُ البحثِ عن الرقم المميز؟ فيشاركون – مثلا - عبر جمعيةٍ خيريةٍ رسمية, بكفالة سنوية لـ: ثلاثة أيتام, وثلاث أرامل, وثلاثة فقراء, وثلاث دعاة يعلمون الناس الخير, وهذا الرقم المميز- أو غيره - هو الذي ينفع في الآخرة, ويبارك اللهُ به المالَ في الدنيا.

لماذا لا نسعى للتميز في أخلاقنا.. فنمتثلُ هديَ النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه في أمورنا كلها.

أين التميز في معاملة الوالدين.. والأزواج.. والأبناء.. والجيران.. وأصدقاء العمل؟

كن متميزاً في عبادتك.. فحافظ على صيامِ الاثنين والخميس، أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر...

تميز بالمحافظة على السنن الرواتب..

تميز بالبذل والعطاء والإيثار..

تميز بالتواصل الاجتماعي.. والزيارة وصلة الأرحام..

إذا أردت التميز في الآخرة.. فلا يكونُ لك مثيلٌ إلا القليلُ ممن يعملُ مثل عملك.. فعليك بما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ. لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ،، إِلاَّ أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ) أخرجه مسلم.

وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ قَالَ : لاََ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ) متفق عليه.

من أراد التميز فليكن من أهل الغرف في أعلى الجنان، الذين أخبر عنهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّىَّ الْغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ.. تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ: (بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.. رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ). متفق عليه.

فعليك بعمل أهل الغرف من الإيمان والعمل الصالح لتكون مميزاً مثلهم.
يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً الأعمالَ الصالحةَ الموصلةَ إلى الغرف: (إن في الجنة غُرفاً.. تُرى ظهورُها من بطونها، وبطونها من ظهورها)، فقام أعرابيٌ فقال: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: (لمن أطابَ الكلام، وأطعمَ الطعام، وأدامَ الصيام، وصلى لله بالليل والناسُ نيام) رواه الترمذي وحسنه الألباني.

من أراد رقماً مميزاً..
فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم عشر مرات في الصباح، ومثلهن في المساء...
وليصل السنن الرواتب، وهن عشرٌ أو اثنتا عشرة...
وليقرأ سورة الإخلاص عشر مرات.. في أي وقت يشاء.. فمن فعل ذلك بُني له بيت في الجنة...

والمقصود أيها المسلمون.. أن جوانب التميز في حياة المسلم كثيرة.. لا يجوز أبداً اختزالها في توافه الأمور وسفاسفها.. فالمسلم أعلى قدراً وتفكيراً وغاية ومقصداً من أمور كهذه لا تقدم ولا تؤخر شيئاً.

سدد الله الخطى.. وغفر التقصير والزلل.. وتقبل صالح العمل..

وأستغفر الله لي ولكم.. ولسائر المسلمين.. فتوبوا إليه واستغفروه..


(1) الدكتور يوسف القاسم في مقال له بعنوان:
(الرقم المميز حتى في الولادة)
جريدة الاقتصادية، يوم الخميس 5/10/1430هـ.
الموافق 24 سبتمبر 2009م
العدد 5827
المشاهدات 2101 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا