الأدب والذوق الرفيع ..
عبدالله محمد الطوالة
1435/07/17 - 2014/05/16 15:55PM
هذه أحبتي في الله خطبة مميزة .. للمتألق دومًا ، إمام وخطيب المسجد الحرام ..
فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد مع تصرف يسير وزيادات طفيفة ..
أسأل الله أن ينفع بها ويجزيكم ويجزي الشيخ خير الجزاء ..
الحمد لله، الحمد لله بلُطفه تنكشِف الشدائد، وبالتوكُّل عليه يندفعُ كيدُ كل كائِد، أحمده سبحانه وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضلِه وكرمِه، فبفضلِه ولُطفِه تتواصَلُ النِّعمُ وتترادف العوائِد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل شيءٍ آيةٌ تدلُّ على أنه الواحد، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه ومصطفاه وخليله ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه الغُرِّ الميامين والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ..
أما بعد: فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله؛ فليس أطيبَ من العافية، ولا أغنى من القناعة، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) ..
الدنيا دارُ عملٍ لا دارُ كسل، ويوم تقومُ الساعةُ لا فوزَ إلا بالطاعة، ومن كان له من نفسِه واعِظ كان له من الله حافِظ ، ومن أصلحَ أمرَ آخرتِه صلُح له أمرُ دُنياه ، والناسُ لن يُعطُوك أو ينفعوك إلا بما قد قُدِّر لك ، ولن يضرُّوك أو يمنعُوك إلا بما قُضِيَ عليك ، قضي الأمر : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ..
أيها المسلمون: كان عمرو بن العاص رضي الله عنه من أدهى دُهاة العرب .. أسلم رضي الله وكان رأساً في قومه ، مقدماً في عشيرته .. فكان إذا لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريقٍ بشّ في وجهه ، وإذا دخل مجلساً فيه النبي عليه الصلاة و السلام رأى من الاحتفاء بمقدمه ما يُدخل السرور على نفسه .. وإذا ناداه النبي عليه الصلاة والسلام .. ناداه بأحب الأسماء إليه .. وظل عمرو رضي الله عنه يحظى بهذا التعامل الراقي .. حتى خُيل إليه أنه أحب الناس إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام .. فأراد أن يقطع الشك باليقين .. فأقبل يوماً إلى النبي صلى الله عليه و سلم وجلس إليه .. ثم قال : يا رسول الله .. أي الناس أحب إليك ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : عائشة قال عمرو : أعني من الرجال يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أبوها .. قال عمرو : ثم من ؟ قال : ثم عمر بن الخطاب قال : ثم أيّ .. فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يعدد رجالاً .. فلان ثم فلان .. بحسب سابقتهم إلى الإسلام ..
قال عمرو : فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخرهم ..
فانظروا يا عباد الله : كيف استطاع عليه الصلاة و السلام أن يملك قلب عمرو بأخلاقه الكريمة وذوقه الراقي ..
قِيل لبعض أهل الفضل: هل قرأتَ "أدبَ النفس" لأرسطو؟! فأجابَ بعزَّةٍ وثقةٍ: بل قرأتُ أدبَ النفس لمُحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ..
الله أكبر! كتابُ ربِّنا مليءٌ بالتوجيهات والآداب في كل شؤون الحياة والأحياء، أفراداً أو جماعات ، مُحادثة أو معاملة أو معاشرة .. كيف ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم إنما بُعِث ليُتمِّم مكارم الأخلاق ..
معاشر المسلمين: أدبُ النفس، ورفعةُ الذَّوق، وجمالُ التعامُل من أجلِّ ما وهبَ الله عبدَه من نعمٍ .. ومُراعاة المشاعر، وحُسن المُعاملة ! مقصدٌ شرعيٌّ من مقاصِد الدين عظيم ..
الذَّوقُ مسلكٌ لطيفٌ، وفعلٌ حميدٌ ، يجسد علو الأدب ، ورقي التعامل ، وحُسن المعشَر، وكمالَ التهذيب ، وروعة التصرُّف ، وتجنُّب كل ما يُحرِجُ أو يجرَح المشاعر ، من فعلٍ أو قولٍ أو إشارةٍ ..
والناسُ تُحبُّ ليِّنَ الجانِب، باسِط الوجه، تميل القلوبُ فطرة وطبعاً لمن تواضَعَ لها ، فالمقابلة بالوجه الجميل ، والمُصافحةُ بالكفِّ النبيل ، والتحدُّثُ باللسان المُهذَّب يفتحُ القلوب ، ويُمهِّدُ السبيل لقبولِ كل ما يُقدَّم من علمٍ ونُصحٍ ، ونقدٍ وتوجيه ..
إخواني في الله: إن من علامات الإيمان ومن دلائل السعادة والتوفيق: أن يُرزَق العبدُ ذوقًا راقِيًا، وأدباً عالياً ، وخلقاً مهذباً ، يحترِم المشاعر، ويقدر المواقف ، ويُدخِل السُّرورَ على نفسِه وعلى الآخرين من الأقرَبين والأبعَدين ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان .. وهذا والله هو شأن من يستمتِع حقاً بالحياة .. وهل رأيتُم أرفعَ ذوقًا ، أو أرقَى سلوكًا ، أو أهنأ حياةً من أُسوتنا وقُدوتنا صلى الله عليه وسلم ؟!
ألم تقرؤوا في سيرته أن الأَمَةَ المملوكة كانت تأخذُ بيده عليه الصلاة والسلام فتنطلق به حيث شاءَت؟! وكان يبدأ من لقِيَه بالسلام، ويبدأ أصحابَه بالمُصافحَة، ولا ينزِعُ يدَه حتى يكون الرجلُ هو الذي ينزِعُ ، ولا يصرِف وجهَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يصرِف وجهَه. "ولم يُرَ مُقدِّمًا رُكبتَه بين يدَي جليسِه" . ويقول أنس رضي الله عنه: ما التَقَمَ أحدٌ أُذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: يُناجِيه فيُنحِّي رأسَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يُنحِّي رأسَه، وكان ضحِكُه تبسُّمًا ..
معاشر الأحِبَّة: عسى أن لا يكون في كثرة الإمساس ما يذهب بالإحساس .. ففي تعليماتُ ديننا وتوجيهاتُه من الدقائق واللطائِف ما لا ينقضِي منه العجَب .. بِدأً من العبادات الكُبرى مروراً بكل التشريعات الأخرى .. حيث نلحظ ترابطُاً وثيقاً بين العباداتُ من جهة وبين الأخلاق والذوق الرفيع والسلوك المهذب من جهة أخرى .
عباداتٌ هي أركانُ الدين وقِوامُه، مُختلفةٌ في مظهَرها، مُتَّفقةٌ في جوهَرها، هي مدارِجُ الكمال، ومراقِي الطُّهر، وتجسيدُ للذوق واللباقة.
فالصلاةُ تنهَى عن الفحشاء والمُنكَر، وفيها من مظاهرُ الذَّوق ورفيع الأدب نماذج كثيرة ؛ كأخذ الزينة ، والتطِّيب بأحسن ما تجد ، والمشي بسكينةٍ ووقار ، وتسوية الصُّفوف وسدّ الفُرَج ، وتعهد ما يكره من الروائح والمناظر ، وتجنُّب أكل الثُّوم والبصَل، وكل ما له رائحةٌ كريهةٌ .. ولقد قال المُصطفى صلى الله عليه وسلم لمُتخطِّي الصفوف: "اجلِس فقد آذيتَ" .. فإذا كنتَ يا عبد الله تُريد تحصيلَ الفضيلة في عبادتك فإياك أن يترتَّب على ذلك إيذاءُ لإخوانك ..
أما الزكاة فقد قال فيها تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .. و{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وهو مما يُحافِظُ على رقي المعطي ويحفظ كرامة المعطى ولا يجرح مشاعره ..{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} .. بل إن مفهومَ الصدقة في ديننا أوسع من التصدُّق بالمال؛ فتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وإرشاد الضالّ صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة، وبصرُك للرجل رديء البصر صدقة .. وفي ذلك من الذوق واللباقة مالا يخفى ..
أما الصيام فهو بالدرجة الأولى صيامٌ عن الزُّور كلِّه قولاً وعملاً: "ومن لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه". وإنما الصيامُ عن اللَّغو والرَّفَث: "وإن سابَّه أحدٌ أو شاتَمَه فليقُل: إني صائِمٌ" ، والحجُّ زادُ التُّقَى ومدرسة الذوق والأخلاق {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وعليكم بالسكينة ، لا تؤذوا إخوانكم ..
معاشر الأحِبَّة: من أجمل أبيات الحكمة .. قول المتنبي :
ولم أر في عيوب الناس عيباً .. كعجز القادرين على التمام ..
نعم أحبتي .. يعجزُ البعضُ من أصحابِ الهمم العالية في العبادة .. يعجَزون أن يربِطوا بين حُسن التعبُّد وحُسن الخُلق وسُمُوّ الذَّوق، فترى هذا المُتعبِّد حفظَه الله ووفقه يحرِصُ على إتمام العبادة حرصاً رائعاً .. لكنَّه ربما تساهل كثيراً في ارتكِاب أعمالٍ يأباها الخُلُق الكريم والذوق السليم .. ومن لم تُزكِّهِ عبادتُه ، وتُهذِّبُه ديانتُه ، فما الذي حصَّلَه يا تُرَى ؟! وحديث المُفلِس ليس عن شريف علمكم ببعيد ، وهو من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، ويأتي وقد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضربَ هذا. وحين يأتي القِصاصُ؛ فماذا سيبقى من حسناته؟! .. وهل يبدو تقيًّا من بدا كالِحَ الوجه، بادِيَ الشرِّ، قريبَ العُدوان؟! كيف وقد أقسم المصطفى صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله ، قال: من لا يأمن جاره بوائقه.. ومن أجلِّ مقاصد العبادات : أن لا تختلِف القلوبُ، وأن لا تتكدَّر النفوسُ، فكسب القلوب مُقدمٌ على كسب المواقف، "سوُّوا صفوفَكم، ولِينُوا بأيدي إخوانِكم، ولا تختلِفوا فتختلِفَ قلوبُكم" ، "وإن المؤمنُ ليُدرِكُ بحُسن خُلُقه درجةَ الصائم القائم" ..
معاشر المُسلمين: ومما يتجلَّى فيه مظاهر الذَّوق والأدَب الرفيع في دينِنا: آدابُ تناول الطعام .. غسل اليدَين، والأكل مما يلِيه، وأن لا ينفُخ في الطعام، ولا يتنفَّس في الإناء، وأن لا يأتي ما يُستقذَرُ أو يُستنكَرُ أو يُستكرَه ، قولاً أو فعلاً أو إشارَة ، وما عاب طعاماً قط ، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه ..
وجاء في أدب الدعوة .. أنه صلى الله عليه وسلم دُعِيَ إلى ضِيافةٍ عند رجُلٍ، فقال عليه الصلاة والسلام للداعي : "لقد دعوتَنا خمسة، وإن هذا تبِعَنا، فإن شئتَ قبِلتَه وإن شئتَ أرجعتَه". فقال الرجلُ: قبِلناهُ من أجلِك يا رسول الله .. وهذا وربِّكم هو الأدبُ في أرقى مدارجه ، والذَّوق في أسمَى صُوره ومعانِيه ..
ومن دلائل الأدب العالِي والذَّوق الرَّفيع: آدابُ الزيارات والاستِئذان ، من طرقٍ للباب بلطف ، والاستئذان والسلام ثلاثاً ، وعدم الوقوف مُقابِل الباب؛ فإنما جُعِل الاستِئذان من أجل البصر، وتخيُّر أوقات الزيارة: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) ، والجلوسُ حيثُ ينتهِي به المجلِسُ أو حيث يُجلِسُه صاحِبُ البيت ، فالقومُ أعلمُ بعورات بيوتِهم، ولا يُقيمُ أحدًا من مجلسِه ليجلِسَ فيه، وافسَحوا يفسَحِ الله لكم: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) .. ولا يتناجَى اثنان دون الثالِث؛ فإن ذلك يُحزِنُه: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) .
ومن اللِّياقة واللباقة في آداب الجوار والجيران: أن لا يستطيل على دارِ جاره ، ولا يُتبِع نظرَه فيما يحمِلُه ، وأن يتعاهده بالهدية خصوصاً ما يظهر رائحته ويعلم به .. ففي الحديث "إذا طبخت مرقة ؛ فاكثر ماءها وتعاهد جيرانك" ، ومن آدب الجوار غُضّ الطرفَ وستُر ما ينكشِف من عورة الجار ..
ومن زارَ مريضًا فمن الكياسَة: أن يدخل الأمل إلى نفسه ويدعو له بالعافية.. ففي الحديث .. طهور لا بأس عليك .. ومن آداب الزيارة أن يُخفِّف الجلوسَ، فإن المريضَ يُعاد، والصحيحَ يُزار ..
ومما تتجلَّى فيه اللَّباقة واللَّياقة وحُسن الذَّوق: قيادةُ المركَبات، ومُراعاة إيقافِها في مواقفِها، والتِزامُ قواعِد المُرور، وضوابط السَّير، وحُسن الوقوف المُنظَّم ، وحُسن استِخدام المرافِق العامَّة والمُحافظةُ عليها ..
ناهِيكم بما أنعمَ الله به على أهل هذا الزمان من وسائل الاتصال وما يجبُ من مُراعاة الأدب في استِعمالِها مُحادثةً وإرسالاً واستِقبالاً ..
ومن أبرز علامات الذَّوق وأرفعها وأعلاها: الحياء ، حين يتحرَّجُ عن فعلِ ما لا ينبَغي، ويترفَّعُ عما لا يليق .. تأمَّلُوا هذه الصورةَ النبويةَ الرفيعةَ، يقول أبو سعيد الخُدري رضي الله عنه: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها، وكان إذا رأى شيئًا يكرهُه عرفناه في وجهِه". رواه مسلم.
أيها المسلمون: هذه بعضُ المعاملات التي يستَبينُ فيها حُسن تصرُّف الرجُل وكياسَته ولباقَتُه .. فالأدبُ وسيلةٌ إلى كل فضيلةٍ .. وقد قال أهلُ الحكمة: "الفضلُ بالعقل والأدب ، لا بالأصل والحسَب .. ومن قعَدَ به أدَبُه .. لم يرفعه حسَبُه " ..
وفي محكم التنزيل (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ..
بارك الله ..
الحمد لله وكفى ..
أيها المسلمون: العاجِزُ من عجزَ عن سياسة نفسِه، مسكينٌ من جفَّ ذوقُه، وغلُظَ طبعُه، فلا تسأل عما يُحدِثُه في نفسِه والناسِ من أذًى وشقاءٍ، لا يُراعِي مشاعِر، ولا يأنَفُ من مُواجَه، ظلومٌ جَهولٌ ، يُقلِّبُ المواجِع، وينشُرُ المعايِب ..
وابن القيم رحمه الله يصِفُ أمثالَ هذا فيقول: "فمُخالطتُه حُمَّى الرُّوح، ثقيلٌ، بغيضٌ لا يُحسِنُ أن يتكلَّم فيُفيدِك، ولا يُحسِنُ أن يُنصِتَ فيستفيدَ منك، ولا يعرِفُ نفسَه فيضعَها موضعَها" .. ويقول رحمه الله أيضا : ( إن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ ، ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب فليس الثقلاء بخواص الأولياء ، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك ، وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفا ، فترى الصادق فيها من أحبى الناس وألطفهم وقد زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع ).
ويقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كما في البخاري " ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي .. عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال " ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ( والبشاشة مصيدة المودة ، والبر شيء هين : وجه طليق وكلام لين )
وآفةُ ذي الحِلمِ: طيشُ الغضب، ومن ساءَ أدبُه ضاعَ نسَبُه، والغريبُ من لا أدبَ له، وشرُّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركَه الناسُ اتِّقاء فُحشِه.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله؛ فإن الرجُل النبيلَ لا يفقِدُ خُلُقه مع من لا خُلُق له، وهل تكونُ المُداراةُ إلا مع السُّفهاء وأصحاب الطِّباع الشَّرِسة والوجوه الصَّفيقة!! (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) ..
اللهم صل وسلم وبارك على ...
فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد مع تصرف يسير وزيادات طفيفة ..
أسأل الله أن ينفع بها ويجزيكم ويجزي الشيخ خير الجزاء ..
الحمد لله، الحمد لله بلُطفه تنكشِف الشدائد، وبالتوكُّل عليه يندفعُ كيدُ كل كائِد، أحمده سبحانه وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضلِه وكرمِه، فبفضلِه ولُطفِه تتواصَلُ النِّعمُ وتترادف العوائِد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل شيءٍ آيةٌ تدلُّ على أنه الواحد، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه ومصطفاه وخليله ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه الغُرِّ الميامين والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ..
أما بعد: فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله؛ فليس أطيبَ من العافية، ولا أغنى من القناعة، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) ..
الدنيا دارُ عملٍ لا دارُ كسل، ويوم تقومُ الساعةُ لا فوزَ إلا بالطاعة، ومن كان له من نفسِه واعِظ كان له من الله حافِظ ، ومن أصلحَ أمرَ آخرتِه صلُح له أمرُ دُنياه ، والناسُ لن يُعطُوك أو ينفعوك إلا بما قد قُدِّر لك ، ولن يضرُّوك أو يمنعُوك إلا بما قُضِيَ عليك ، قضي الأمر : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ..
أيها المسلمون: كان عمرو بن العاص رضي الله عنه من أدهى دُهاة العرب .. أسلم رضي الله وكان رأساً في قومه ، مقدماً في عشيرته .. فكان إذا لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريقٍ بشّ في وجهه ، وإذا دخل مجلساً فيه النبي عليه الصلاة و السلام رأى من الاحتفاء بمقدمه ما يُدخل السرور على نفسه .. وإذا ناداه النبي عليه الصلاة والسلام .. ناداه بأحب الأسماء إليه .. وظل عمرو رضي الله عنه يحظى بهذا التعامل الراقي .. حتى خُيل إليه أنه أحب الناس إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام .. فأراد أن يقطع الشك باليقين .. فأقبل يوماً إلى النبي صلى الله عليه و سلم وجلس إليه .. ثم قال : يا رسول الله .. أي الناس أحب إليك ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : عائشة قال عمرو : أعني من الرجال يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أبوها .. قال عمرو : ثم من ؟ قال : ثم عمر بن الخطاب قال : ثم أيّ .. فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يعدد رجالاً .. فلان ثم فلان .. بحسب سابقتهم إلى الإسلام ..
قال عمرو : فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخرهم ..
فانظروا يا عباد الله : كيف استطاع عليه الصلاة و السلام أن يملك قلب عمرو بأخلاقه الكريمة وذوقه الراقي ..
قِيل لبعض أهل الفضل: هل قرأتَ "أدبَ النفس" لأرسطو؟! فأجابَ بعزَّةٍ وثقةٍ: بل قرأتُ أدبَ النفس لمُحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ..
الله أكبر! كتابُ ربِّنا مليءٌ بالتوجيهات والآداب في كل شؤون الحياة والأحياء، أفراداً أو جماعات ، مُحادثة أو معاملة أو معاشرة .. كيف ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم إنما بُعِث ليُتمِّم مكارم الأخلاق ..
معاشر المسلمين: أدبُ النفس، ورفعةُ الذَّوق، وجمالُ التعامُل من أجلِّ ما وهبَ الله عبدَه من نعمٍ .. ومُراعاة المشاعر، وحُسن المُعاملة ! مقصدٌ شرعيٌّ من مقاصِد الدين عظيم ..
الذَّوقُ مسلكٌ لطيفٌ، وفعلٌ حميدٌ ، يجسد علو الأدب ، ورقي التعامل ، وحُسن المعشَر، وكمالَ التهذيب ، وروعة التصرُّف ، وتجنُّب كل ما يُحرِجُ أو يجرَح المشاعر ، من فعلٍ أو قولٍ أو إشارةٍ ..
والناسُ تُحبُّ ليِّنَ الجانِب، باسِط الوجه، تميل القلوبُ فطرة وطبعاً لمن تواضَعَ لها ، فالمقابلة بالوجه الجميل ، والمُصافحةُ بالكفِّ النبيل ، والتحدُّثُ باللسان المُهذَّب يفتحُ القلوب ، ويُمهِّدُ السبيل لقبولِ كل ما يُقدَّم من علمٍ ونُصحٍ ، ونقدٍ وتوجيه ..
إخواني في الله: إن من علامات الإيمان ومن دلائل السعادة والتوفيق: أن يُرزَق العبدُ ذوقًا راقِيًا، وأدباً عالياً ، وخلقاً مهذباً ، يحترِم المشاعر، ويقدر المواقف ، ويُدخِل السُّرورَ على نفسِه وعلى الآخرين من الأقرَبين والأبعَدين ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان .. وهذا والله هو شأن من يستمتِع حقاً بالحياة .. وهل رأيتُم أرفعَ ذوقًا ، أو أرقَى سلوكًا ، أو أهنأ حياةً من أُسوتنا وقُدوتنا صلى الله عليه وسلم ؟!
ألم تقرؤوا في سيرته أن الأَمَةَ المملوكة كانت تأخذُ بيده عليه الصلاة والسلام فتنطلق به حيث شاءَت؟! وكان يبدأ من لقِيَه بالسلام، ويبدأ أصحابَه بالمُصافحَة، ولا ينزِعُ يدَه حتى يكون الرجلُ هو الذي ينزِعُ ، ولا يصرِف وجهَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يصرِف وجهَه. "ولم يُرَ مُقدِّمًا رُكبتَه بين يدَي جليسِه" . ويقول أنس رضي الله عنه: ما التَقَمَ أحدٌ أُذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: يُناجِيه فيُنحِّي رأسَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يُنحِّي رأسَه، وكان ضحِكُه تبسُّمًا ..
معاشر الأحِبَّة: عسى أن لا يكون في كثرة الإمساس ما يذهب بالإحساس .. ففي تعليماتُ ديننا وتوجيهاتُه من الدقائق واللطائِف ما لا ينقضِي منه العجَب .. بِدأً من العبادات الكُبرى مروراً بكل التشريعات الأخرى .. حيث نلحظ ترابطُاً وثيقاً بين العباداتُ من جهة وبين الأخلاق والذوق الرفيع والسلوك المهذب من جهة أخرى .
عباداتٌ هي أركانُ الدين وقِوامُه، مُختلفةٌ في مظهَرها، مُتَّفقةٌ في جوهَرها، هي مدارِجُ الكمال، ومراقِي الطُّهر، وتجسيدُ للذوق واللباقة.
فالصلاةُ تنهَى عن الفحشاء والمُنكَر، وفيها من مظاهرُ الذَّوق ورفيع الأدب نماذج كثيرة ؛ كأخذ الزينة ، والتطِّيب بأحسن ما تجد ، والمشي بسكينةٍ ووقار ، وتسوية الصُّفوف وسدّ الفُرَج ، وتعهد ما يكره من الروائح والمناظر ، وتجنُّب أكل الثُّوم والبصَل، وكل ما له رائحةٌ كريهةٌ .. ولقد قال المُصطفى صلى الله عليه وسلم لمُتخطِّي الصفوف: "اجلِس فقد آذيتَ" .. فإذا كنتَ يا عبد الله تُريد تحصيلَ الفضيلة في عبادتك فإياك أن يترتَّب على ذلك إيذاءُ لإخوانك ..
أما الزكاة فقد قال فيها تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .. و{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وهو مما يُحافِظُ على رقي المعطي ويحفظ كرامة المعطى ولا يجرح مشاعره ..{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} .. بل إن مفهومَ الصدقة في ديننا أوسع من التصدُّق بالمال؛ فتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وإرشاد الضالّ صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة، وبصرُك للرجل رديء البصر صدقة .. وفي ذلك من الذوق واللباقة مالا يخفى ..
أما الصيام فهو بالدرجة الأولى صيامٌ عن الزُّور كلِّه قولاً وعملاً: "ومن لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه". وإنما الصيامُ عن اللَّغو والرَّفَث: "وإن سابَّه أحدٌ أو شاتَمَه فليقُل: إني صائِمٌ" ، والحجُّ زادُ التُّقَى ومدرسة الذوق والأخلاق {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وعليكم بالسكينة ، لا تؤذوا إخوانكم ..
معاشر الأحِبَّة: من أجمل أبيات الحكمة .. قول المتنبي :
ولم أر في عيوب الناس عيباً .. كعجز القادرين على التمام ..
نعم أحبتي .. يعجزُ البعضُ من أصحابِ الهمم العالية في العبادة .. يعجَزون أن يربِطوا بين حُسن التعبُّد وحُسن الخُلق وسُمُوّ الذَّوق، فترى هذا المُتعبِّد حفظَه الله ووفقه يحرِصُ على إتمام العبادة حرصاً رائعاً .. لكنَّه ربما تساهل كثيراً في ارتكِاب أعمالٍ يأباها الخُلُق الكريم والذوق السليم .. ومن لم تُزكِّهِ عبادتُه ، وتُهذِّبُه ديانتُه ، فما الذي حصَّلَه يا تُرَى ؟! وحديث المُفلِس ليس عن شريف علمكم ببعيد ، وهو من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، ويأتي وقد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضربَ هذا. وحين يأتي القِصاصُ؛ فماذا سيبقى من حسناته؟! .. وهل يبدو تقيًّا من بدا كالِحَ الوجه، بادِيَ الشرِّ، قريبَ العُدوان؟! كيف وقد أقسم المصطفى صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله ، قال: من لا يأمن جاره بوائقه.. ومن أجلِّ مقاصد العبادات : أن لا تختلِف القلوبُ، وأن لا تتكدَّر النفوسُ، فكسب القلوب مُقدمٌ على كسب المواقف، "سوُّوا صفوفَكم، ولِينُوا بأيدي إخوانِكم، ولا تختلِفوا فتختلِفَ قلوبُكم" ، "وإن المؤمنُ ليُدرِكُ بحُسن خُلُقه درجةَ الصائم القائم" ..
معاشر المُسلمين: ومما يتجلَّى فيه مظاهر الذَّوق والأدَب الرفيع في دينِنا: آدابُ تناول الطعام .. غسل اليدَين، والأكل مما يلِيه، وأن لا ينفُخ في الطعام، ولا يتنفَّس في الإناء، وأن لا يأتي ما يُستقذَرُ أو يُستنكَرُ أو يُستكرَه ، قولاً أو فعلاً أو إشارَة ، وما عاب طعاماً قط ، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه ..
وجاء في أدب الدعوة .. أنه صلى الله عليه وسلم دُعِيَ إلى ضِيافةٍ عند رجُلٍ، فقال عليه الصلاة والسلام للداعي : "لقد دعوتَنا خمسة، وإن هذا تبِعَنا، فإن شئتَ قبِلتَه وإن شئتَ أرجعتَه". فقال الرجلُ: قبِلناهُ من أجلِك يا رسول الله .. وهذا وربِّكم هو الأدبُ في أرقى مدارجه ، والذَّوق في أسمَى صُوره ومعانِيه ..
ومن دلائل الأدب العالِي والذَّوق الرَّفيع: آدابُ الزيارات والاستِئذان ، من طرقٍ للباب بلطف ، والاستئذان والسلام ثلاثاً ، وعدم الوقوف مُقابِل الباب؛ فإنما جُعِل الاستِئذان من أجل البصر، وتخيُّر أوقات الزيارة: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) ، والجلوسُ حيثُ ينتهِي به المجلِسُ أو حيث يُجلِسُه صاحِبُ البيت ، فالقومُ أعلمُ بعورات بيوتِهم، ولا يُقيمُ أحدًا من مجلسِه ليجلِسَ فيه، وافسَحوا يفسَحِ الله لكم: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) .. ولا يتناجَى اثنان دون الثالِث؛ فإن ذلك يُحزِنُه: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) .
ومن اللِّياقة واللباقة في آداب الجوار والجيران: أن لا يستطيل على دارِ جاره ، ولا يُتبِع نظرَه فيما يحمِلُه ، وأن يتعاهده بالهدية خصوصاً ما يظهر رائحته ويعلم به .. ففي الحديث "إذا طبخت مرقة ؛ فاكثر ماءها وتعاهد جيرانك" ، ومن آدب الجوار غُضّ الطرفَ وستُر ما ينكشِف من عورة الجار ..
ومن زارَ مريضًا فمن الكياسَة: أن يدخل الأمل إلى نفسه ويدعو له بالعافية.. ففي الحديث .. طهور لا بأس عليك .. ومن آداب الزيارة أن يُخفِّف الجلوسَ، فإن المريضَ يُعاد، والصحيحَ يُزار ..
ومما تتجلَّى فيه اللَّباقة واللَّياقة وحُسن الذَّوق: قيادةُ المركَبات، ومُراعاة إيقافِها في مواقفِها، والتِزامُ قواعِد المُرور، وضوابط السَّير، وحُسن الوقوف المُنظَّم ، وحُسن استِخدام المرافِق العامَّة والمُحافظةُ عليها ..
ناهِيكم بما أنعمَ الله به على أهل هذا الزمان من وسائل الاتصال وما يجبُ من مُراعاة الأدب في استِعمالِها مُحادثةً وإرسالاً واستِقبالاً ..
ومن أبرز علامات الذَّوق وأرفعها وأعلاها: الحياء ، حين يتحرَّجُ عن فعلِ ما لا ينبَغي، ويترفَّعُ عما لا يليق .. تأمَّلُوا هذه الصورةَ النبويةَ الرفيعةَ، يقول أبو سعيد الخُدري رضي الله عنه: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرها، وكان إذا رأى شيئًا يكرهُه عرفناه في وجهِه". رواه مسلم.
أيها المسلمون: هذه بعضُ المعاملات التي يستَبينُ فيها حُسن تصرُّف الرجُل وكياسَته ولباقَتُه .. فالأدبُ وسيلةٌ إلى كل فضيلةٍ .. وقد قال أهلُ الحكمة: "الفضلُ بالعقل والأدب ، لا بالأصل والحسَب .. ومن قعَدَ به أدَبُه .. لم يرفعه حسَبُه " ..
وفي محكم التنزيل (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ..
بارك الله ..
الحمد لله وكفى ..
أيها المسلمون: العاجِزُ من عجزَ عن سياسة نفسِه، مسكينٌ من جفَّ ذوقُه، وغلُظَ طبعُه، فلا تسأل عما يُحدِثُه في نفسِه والناسِ من أذًى وشقاءٍ، لا يُراعِي مشاعِر، ولا يأنَفُ من مُواجَه، ظلومٌ جَهولٌ ، يُقلِّبُ المواجِع، وينشُرُ المعايِب ..
وابن القيم رحمه الله يصِفُ أمثالَ هذا فيقول: "فمُخالطتُه حُمَّى الرُّوح، ثقيلٌ، بغيضٌ لا يُحسِنُ أن يتكلَّم فيُفيدِك، ولا يُحسِنُ أن يُنصِتَ فيستفيدَ منك، ولا يعرِفُ نفسَه فيضعَها موضعَها" .. ويقول رحمه الله أيضا : ( إن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ ، ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب فليس الثقلاء بخواص الأولياء ، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك ، وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفا ، فترى الصادق فيها من أحبى الناس وألطفهم وقد زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع ).
ويقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كما في البخاري " ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي .. عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال " ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ( والبشاشة مصيدة المودة ، والبر شيء هين : وجه طليق وكلام لين )
وآفةُ ذي الحِلمِ: طيشُ الغضب، ومن ساءَ أدبُه ضاعَ نسَبُه، والغريبُ من لا أدبَ له، وشرُّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركَه الناسُ اتِّقاء فُحشِه.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله؛ فإن الرجُل النبيلَ لا يفقِدُ خُلُقه مع من لا خُلُق له، وهل تكونُ المُداراةُ إلا مع السُّفهاء وأصحاب الطِّباع الشَّرِسة والوجوه الصَّفيقة!! (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) ..
اللهم صل وسلم وبارك على ...
المشاهدات 5951 | التعليقات 2
وإياك شيخ شبيب وجميع من يمر من الكرام ..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق