الأخلاق ودورها في بناء الأمة (4) الذوق
الفريق العلمي
1434/07/03 - 2013/05/13 14:45PM
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (4) الذوق
الشيخ / عمر القزابري
معاشر الصالحين: الإسلام دين الجمال والكمال، دين الرقي والتحضر والجلال، فمن أي الجهات نظرت إليه أخذك جماله، وسحَرَك نظمه وبيانه.
فمَن غاص فيه وقف على العجائب من نَظمِه الرائق البديع، وخَاله المُزْري بزهر الربيع، مُوشَّحاً بغُرَرِ ألفاظه، التي لو أعِيرت حِلْيَتُها لعطَّلَت قلائد النحور، وأبكارِ معانيه التي لو قُسمت حَلاوتها لأعْذَبَتْ مَوَارِدَ البحور.
ومن سرح طرفه في رياضه أذهلته سحائبُ العلوم والْحِكم، وهبَّ عليها نسيمُ الفضل والكرَم، وابتسمَتْ عنها ثغورُ المعالي والهِمَم.
وإجمالا؛ فإن أخلاق الإسلام قد حوت رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع، فما من جَارِحةٍ إلا وهي تودُ لو كانت أذناً فتلتَقط دررَه وجواهره، أو عيناً تَجْتَلي مطالَعه ومناظره، أو لساناً يَدْرُس محاسنَه ومفاخره.
نعم؛ إنه ديننا الذي نعتز به ونفخر، ولكن الإشكال في تعاطينا نحن مع هذا الدين، وفي تشربنا لمعانيه، وتمثلنا لأخلاقه.
ولذلك؛ لما حصل الجفاء بيننا وبين ديننا، أو بعبارة أخرى: يوم أريد لنا أن ننفصل عن حقيقة ديننا؛ وقعنا في مستنقعات التناقض والتباين والانفصام، وهذا هو الجفاء المعبر عنه في قرآننا بالميل في قوله تعالى: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:27].
إذاً؛ فلا بد لنا إذا ما أردنا أن يظهر علينا جمال الإسلام ورقيه من عودة سريعة رشيدة إلى رياض الأخلاق الكريمة الفاضلة التي ما فتئ الإسلام يدعو إليها، ويرغب المنتسبين إليه في تمثلها.
وتكلمنا في الخطب الماضية عن بعض الأخلاق الحميدة التي تكسب صاحبها القبول، وتحقق له الوصول.
وسنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- عن جانب آخَر من جوانب الأخلاق الفاضلة، إنه خُلُقٌ مطلوب في كل جوانب حياتنا، خلق يعطي صاحبه جمالا وجلالا وقبولا، إنه "الذوق"، أو قل إن شئت: "جمال التعامل"، بأشكاله المتعددة: الحس الراقي، النفس المرهفة، الموقف الجميل، التناسق والانسجام، الفهم السريع من نظرة العين، واقتناص اللمحة الحائرة، والنظرة العابرة، وفهم الإشارة والإيماء، دون نطق ودون إنشاء.
فمن الناس -مع الأسف- من يفهم أن كلمة متدين تعني عدم اللباقة، وعدم النظافة، وعدم اللياقة، وعدم الابتسام؛ وهذا ظن قاصر.
إن الذي لا يدرك أن الذوق جزء أساسي من أخلاق المسلم لم يفهم الإسلام، ولم يتشرب معانيه، ولم يدرك حقيقته.
ولنبدأ بالذوق مع الوالدين، وسنكتفي في كل لون من ألوان الذوق بإشارتين فقط.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ) [النور:58]. آية في القرآن ترسخ قاعدة من قواعد الذوق.
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال الرجل: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ قال: "نعم"، قال للمرة الثالثة: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتحب أن تراها عارية؟"، قال: لا يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم- "فاستأذن على أمك" رواه البيهقي.
صورة راقية من صور الذوق في التعامل مع الأم، فلا يجمل بالمسلم أن يفتح باب غرفة أمه أو أخته دون استئذان ودون إعلان؛ لما قد يقع لأمه من الحرج والإيلام.
من الذوقيات المفقودة في شوارعنا مثلا تلك الأصوات المزعجة لأبواق السيارات بدون سبب
وبدون ضرورة، تجد صاحب السيارة يقف أسفل البيت وينادي ببوق سيارته مَن في الطابق العلوي بدلا من أن يصعد إليه أو أن يتصل عليه، دون مراعاة لحق الناس، فمنهم النائم، ومنهم الطالب الذي يدرس، ومنهم المريض، ومنهم الذي يصلي، ومنهم... ومنهم...، فليس الشارع ملكك وحدك.
ويأتي الإسلام ويرد للشارع ذوقياته المفقودة، يقول الله تعالى، وينبغي أن نفهم هذه الآية على نحو موسع: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:4-5].
نعم؛ إن الآية تتحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنها -في الوقت نفسه- تنظم وتهذب سلوكيات الناس.
من التصرفات الغريبة المنافية للذوق أنك تجد سائق السيارة في الطريق لا يسمح للسيارة التي خلفه أن تتجاوزه بدون سبب؛ فقط بسبب العناد ليس إلا، فيأتي الإسلام ويعلمنا الذوق في مثل هذه المواقف، يقول ربنا -وينبغي كذلك أن نفهم هذه الآية على نحو موسع-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) [المجادلة:11].
افسحوا، ليس في المجالس فقط، ولكن حتى في الطرقات، فمن قلة الذوق أن تضيق الطريق على إخوانك، يقول سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ثلاث يصفين لك ود أخيك"، ومنها: "أن تفسح له في المجلس".
وإليكم هذا الموقف الجميل: بينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا في المسجد إذ جاء رجل من الأعراب فتزحزح له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرغم من أن المسجد لم يكن ممتلئا، وقال هذا الأعرابي، وقد لفت نظره هذا التصرف: يا رسول الله، لما تزحزحت وإن في المسجد سعة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حَق على كل مسلم إذا جاء أخوه أن يتزحزح له"؛ فمن يقول بعد هذا: خذوا الذوق وتعلموه من الغرب؟!.
من المظاهر الغريبة المجافية للذوق أنك ترى صاحب السيارة يبحث عن مكان ما فيقف في وسط الطريق ليسأل ويطيل السؤال دون مراعاة لشعور الناس من خلفه، أو ترى صاحب سيارة أجرة يقف لبعض الركاب في وسط الطريق وفي إمكانه أن يقف جانبا ولا يؤذي إخوانه ولا يقطع طريقهم، ولكنها أمور لا تجد لها تفسيرا في الغالب، والمظاهر في شوارعنا أكثر من أن تحصر.
من المظاهر المجافية للذوق كذلك وهي في جانب المسؤولين: "كثرة الحفر وسوء الطريق"، فبغض النظر عن كونها مسؤولية أو مسألة تتعلق بالأمانة والمسؤولية؛ فإنها في جانبها الإنساني الجمالي تتعلق بالذوق.
وأنتم ترون -أيها الأحباب- مثلا هذه الحفر التي تنتشر في كل مكان ولا يسلم منها لا السائق ولا سيارته، فالمسؤولون الذين يملكون المقدرة على رفع هذه المعاناة ولا يفعلون يتحملون وزرا عظيما أمام الله، إضافة إلى قلة ذوقهم؛ لأن الذوق في أرقى معانيه هو الإحساس بالآخر، أما الاهتمام بالنفس والجيب والرصيد فقط فأمارة سوء ودليل غباء.
وأما من يكابد هذه الحفر من أمثالنا فما عليه إلا أن يذكر الله عند كل حفرة ليكون من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، مع الدعاء بأن يحسن الله الحال، يقول سيدنا عمر: "لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله: لِمَ لَمْ تُسَوِّ الطريق لها يا عمر؟".
من المظاهر الغريبة كذلك أنك ترى السيارة في الطريق وأصحابها يرمون القمامة من النوافذ في الطريق، وهذا أمر مشاهد ومعلوم؛ فهل من الأدب والذوق إلقاء القمامة في الشارع؟ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إماطة الأذى عن الطريق صدقة". فما بالنا بمَن يُلقي الأذى في الطريق؟!.
من المظاهر المؤلمة المنافية للذوق "مسألة التدخين"، تجلس في مكان عام أو تركب سيارة أجرة، فيخرج الذي بجانبك سيجارته ويدخن بجنبك دون مراعاة لشعورك ولا لتحملك، في صورة من صور قلة الذوق.
هذا إلى جانب كونه حراما بدليل قوله تعالى: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف:157]، اللهم إلا إذا وجد من يعتبره من الطيبات! فهذه مصيبة أخرى.
فالتدخين أمام الناس فيه مجاهرة بالمعصية، وفيه إيذاء للمسلم، فالمكان العمومي ليس ملكك وحدك، والهواء ليس ملكك وحدك، وإذا ابتليت فاستتر وانفرد بنفسك ولا تؤذِ معك الآخرين.
وحتى إن انفردت لوحدك فاعلم أنك تؤذي ملائكة الرحمن، قال -صلى الله عليه وسلم- "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم".
من مظاهر الذوق في شرعنا المطهر "مسألة الاستئذان"، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور:27].
ومعنى (تستأنسوا): تتأكدوا أنهم مستعدون لاستقبالكم، و(تستأنسوا) في عصرنا أن تتصل هاتفيا بأخيك وتعلمه بمجيئك إن كان مستعدا لذلك.
أما المباغتة والمفاجأة فمنافية للذوق، فلربما كان هذا الأخ في وضع لا يسمح له باستقبالك من مرض أو غضب أو خصام أو غير ذلك، ومن الذوق كذلك ألا تغضب إن اعتذر أخوك عن استقبالك، قال الله -عز وجل-: (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور:28].
من السلوكيات المنافية للأدب والذوق أن تجد مثلا من يدق الباب ثم يقف في وجه الباب، وانظر إلى أدب الإسلام في هذه المسألة: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقفوا أمام الباب، ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا" أخرجه الإمام أحمد.
إنها أدبيات رفيعة، وأخلاق راقية، تعطينا لمحة عن جمالية الإسلام ورقيه في بناء الجانب الذوقي في الإنسان، أخلاق تجعلنا مصادر للجمال أينما حللنا وارتحلنا؛ لنكون كالنسمة الباردة اللطيفة في اليوم الصائف الحار.
.........................
الخطبة كاملة على هذا الرابط : https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/177759
الشيخ / عمر القزابري
معاشر الصالحين: الإسلام دين الجمال والكمال، دين الرقي والتحضر والجلال، فمن أي الجهات نظرت إليه أخذك جماله، وسحَرَك نظمه وبيانه.
فمَن غاص فيه وقف على العجائب من نَظمِه الرائق البديع، وخَاله المُزْري بزهر الربيع، مُوشَّحاً بغُرَرِ ألفاظه، التي لو أعِيرت حِلْيَتُها لعطَّلَت قلائد النحور، وأبكارِ معانيه التي لو قُسمت حَلاوتها لأعْذَبَتْ مَوَارِدَ البحور.
ومن سرح طرفه في رياضه أذهلته سحائبُ العلوم والْحِكم، وهبَّ عليها نسيمُ الفضل والكرَم، وابتسمَتْ عنها ثغورُ المعالي والهِمَم.
وإجمالا؛ فإن أخلاق الإسلام قد حوت رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع، فما من جَارِحةٍ إلا وهي تودُ لو كانت أذناً فتلتَقط دررَه وجواهره، أو عيناً تَجْتَلي مطالَعه ومناظره، أو لساناً يَدْرُس محاسنَه ومفاخره.
نعم؛ إنه ديننا الذي نعتز به ونفخر، ولكن الإشكال في تعاطينا نحن مع هذا الدين، وفي تشربنا لمعانيه، وتمثلنا لأخلاقه.
ولذلك؛ لما حصل الجفاء بيننا وبين ديننا، أو بعبارة أخرى: يوم أريد لنا أن ننفصل عن حقيقة ديننا؛ وقعنا في مستنقعات التناقض والتباين والانفصام، وهذا هو الجفاء المعبر عنه في قرآننا بالميل في قوله تعالى: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:27].
إذاً؛ فلا بد لنا إذا ما أردنا أن يظهر علينا جمال الإسلام ورقيه من عودة سريعة رشيدة إلى رياض الأخلاق الكريمة الفاضلة التي ما فتئ الإسلام يدعو إليها، ويرغب المنتسبين إليه في تمثلها.
وتكلمنا في الخطب الماضية عن بعض الأخلاق الحميدة التي تكسب صاحبها القبول، وتحقق له الوصول.
وسنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- عن جانب آخَر من جوانب الأخلاق الفاضلة، إنه خُلُقٌ مطلوب في كل جوانب حياتنا، خلق يعطي صاحبه جمالا وجلالا وقبولا، إنه "الذوق"، أو قل إن شئت: "جمال التعامل"، بأشكاله المتعددة: الحس الراقي، النفس المرهفة، الموقف الجميل، التناسق والانسجام، الفهم السريع من نظرة العين، واقتناص اللمحة الحائرة، والنظرة العابرة، وفهم الإشارة والإيماء، دون نطق ودون إنشاء.
فمن الناس -مع الأسف- من يفهم أن كلمة متدين تعني عدم اللباقة، وعدم النظافة، وعدم اللياقة، وعدم الابتسام؛ وهذا ظن قاصر.
إن الذي لا يدرك أن الذوق جزء أساسي من أخلاق المسلم لم يفهم الإسلام، ولم يتشرب معانيه، ولم يدرك حقيقته.
ولنبدأ بالذوق مع الوالدين، وسنكتفي في كل لون من ألوان الذوق بإشارتين فقط.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ) [النور:58]. آية في القرآن ترسخ قاعدة من قواعد الذوق.
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال الرجل: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ قال: "نعم"، قال للمرة الثالثة: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتحب أن تراها عارية؟"، قال: لا يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم- "فاستأذن على أمك" رواه البيهقي.
صورة راقية من صور الذوق في التعامل مع الأم، فلا يجمل بالمسلم أن يفتح باب غرفة أمه أو أخته دون استئذان ودون إعلان؛ لما قد يقع لأمه من الحرج والإيلام.
من الذوقيات المفقودة في شوارعنا مثلا تلك الأصوات المزعجة لأبواق السيارات بدون سبب
وبدون ضرورة، تجد صاحب السيارة يقف أسفل البيت وينادي ببوق سيارته مَن في الطابق العلوي بدلا من أن يصعد إليه أو أن يتصل عليه، دون مراعاة لحق الناس، فمنهم النائم، ومنهم الطالب الذي يدرس، ومنهم المريض، ومنهم الذي يصلي، ومنهم... ومنهم...، فليس الشارع ملكك وحدك.
ويأتي الإسلام ويرد للشارع ذوقياته المفقودة، يقول الله تعالى، وينبغي أن نفهم هذه الآية على نحو موسع: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:4-5].
نعم؛ إن الآية تتحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنها -في الوقت نفسه- تنظم وتهذب سلوكيات الناس.
من التصرفات الغريبة المنافية للذوق أنك تجد سائق السيارة في الطريق لا يسمح للسيارة التي خلفه أن تتجاوزه بدون سبب؛ فقط بسبب العناد ليس إلا، فيأتي الإسلام ويعلمنا الذوق في مثل هذه المواقف، يقول ربنا -وينبغي كذلك أن نفهم هذه الآية على نحو موسع-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) [المجادلة:11].
افسحوا، ليس في المجالس فقط، ولكن حتى في الطرقات، فمن قلة الذوق أن تضيق الطريق على إخوانك، يقول سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ثلاث يصفين لك ود أخيك"، ومنها: "أن تفسح له في المجلس".
وإليكم هذا الموقف الجميل: بينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا في المسجد إذ جاء رجل من الأعراب فتزحزح له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرغم من أن المسجد لم يكن ممتلئا، وقال هذا الأعرابي، وقد لفت نظره هذا التصرف: يا رسول الله، لما تزحزحت وإن في المسجد سعة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حَق على كل مسلم إذا جاء أخوه أن يتزحزح له"؛ فمن يقول بعد هذا: خذوا الذوق وتعلموه من الغرب؟!.
من المظاهر الغريبة المجافية للذوق أنك ترى صاحب السيارة يبحث عن مكان ما فيقف في وسط الطريق ليسأل ويطيل السؤال دون مراعاة لشعور الناس من خلفه، أو ترى صاحب سيارة أجرة يقف لبعض الركاب في وسط الطريق وفي إمكانه أن يقف جانبا ولا يؤذي إخوانه ولا يقطع طريقهم، ولكنها أمور لا تجد لها تفسيرا في الغالب، والمظاهر في شوارعنا أكثر من أن تحصر.
من المظاهر المجافية للذوق كذلك وهي في جانب المسؤولين: "كثرة الحفر وسوء الطريق"، فبغض النظر عن كونها مسؤولية أو مسألة تتعلق بالأمانة والمسؤولية؛ فإنها في جانبها الإنساني الجمالي تتعلق بالذوق.
وأنتم ترون -أيها الأحباب- مثلا هذه الحفر التي تنتشر في كل مكان ولا يسلم منها لا السائق ولا سيارته، فالمسؤولون الذين يملكون المقدرة على رفع هذه المعاناة ولا يفعلون يتحملون وزرا عظيما أمام الله، إضافة إلى قلة ذوقهم؛ لأن الذوق في أرقى معانيه هو الإحساس بالآخر، أما الاهتمام بالنفس والجيب والرصيد فقط فأمارة سوء ودليل غباء.
وأما من يكابد هذه الحفر من أمثالنا فما عليه إلا أن يذكر الله عند كل حفرة ليكون من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، مع الدعاء بأن يحسن الله الحال، يقول سيدنا عمر: "لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله: لِمَ لَمْ تُسَوِّ الطريق لها يا عمر؟".
من المظاهر الغريبة كذلك أنك ترى السيارة في الطريق وأصحابها يرمون القمامة من النوافذ في الطريق، وهذا أمر مشاهد ومعلوم؛ فهل من الأدب والذوق إلقاء القمامة في الشارع؟ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إماطة الأذى عن الطريق صدقة". فما بالنا بمَن يُلقي الأذى في الطريق؟!.
من المظاهر المؤلمة المنافية للذوق "مسألة التدخين"، تجلس في مكان عام أو تركب سيارة أجرة، فيخرج الذي بجانبك سيجارته ويدخن بجنبك دون مراعاة لشعورك ولا لتحملك، في صورة من صور قلة الذوق.
هذا إلى جانب كونه حراما بدليل قوله تعالى: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف:157]، اللهم إلا إذا وجد من يعتبره من الطيبات! فهذه مصيبة أخرى.
فالتدخين أمام الناس فيه مجاهرة بالمعصية، وفيه إيذاء للمسلم، فالمكان العمومي ليس ملكك وحدك، والهواء ليس ملكك وحدك، وإذا ابتليت فاستتر وانفرد بنفسك ولا تؤذِ معك الآخرين.
وحتى إن انفردت لوحدك فاعلم أنك تؤذي ملائكة الرحمن، قال -صلى الله عليه وسلم- "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم".
من مظاهر الذوق في شرعنا المطهر "مسألة الاستئذان"، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور:27].
ومعنى (تستأنسوا): تتأكدوا أنهم مستعدون لاستقبالكم، و(تستأنسوا) في عصرنا أن تتصل هاتفيا بأخيك وتعلمه بمجيئك إن كان مستعدا لذلك.
أما المباغتة والمفاجأة فمنافية للذوق، فلربما كان هذا الأخ في وضع لا يسمح له باستقبالك من مرض أو غضب أو خصام أو غير ذلك، ومن الذوق كذلك ألا تغضب إن اعتذر أخوك عن استقبالك، قال الله -عز وجل-: (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور:28].
من السلوكيات المنافية للأدب والذوق أن تجد مثلا من يدق الباب ثم يقف في وجه الباب، وانظر إلى أدب الإسلام في هذه المسألة: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقفوا أمام الباب، ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا" أخرجه الإمام أحمد.
إنها أدبيات رفيعة، وأخلاق راقية، تعطينا لمحة عن جمالية الإسلام ورقيه في بناء الجانب الذوقي في الإنسان، أخلاق تجعلنا مصادر للجمال أينما حللنا وارتحلنا؛ لنكون كالنسمة الباردة اللطيفة في اليوم الصائف الحار.
.........................
الخطبة كاملة على هذا الرابط : https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/177759