الأخلاق المحمودة(3)سلامة الصدر

تركي الميمان
1436/11/12 - 2015/08/27 14:46PM
الأخلاق المحمودة(3)سلامة الصدر


الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل عن أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)[فاطر:34]؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أسلم الناس صدراً، وأطيبهم قلباً، وأصفاهم سريرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه،ولا تخالفوا أمره ولا تعصوه،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
عباد الله: خصلة حميدة، ذكرها الله تعالى في كتابه، وأشار إليها نبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، وجودها علامة على الإيمان، وانتفاؤها علامة على النفاق أو العصيان، ألا وهي سلامة الصدر.
وسلامة الصدر: هي عدم الحقد والغل والحسد والبغضاء.
فسليم القلب والصدر هو من سَلِم وعُوفيَ فؤاده من جميع أمراض القلوب وأدوائها، ومن كل آفة تبعده عن الله تبارك وتعالى.[موسوعة الأخلاق].
وسلامة القلوب من الضغينة والحقد والحسد أمر عزيز المنال، بعيد المرام إلا على من وفقه الله ورزقه قلباً سليماً، ولهذا امتنّ الله عز وجل على أهل الجنة بنزع الغلِّ من قلوبهم، كما قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ)[الأعراف:43].
فكم من مصلٍّ قائمٍ صائمٍ، قلبه يغلي حقداً وحسداً على كثير من إخوانه المسلمين؛ وكم من إنسان يستطيع صيام النهار، وقيام الليل، وبذل المال، لكنه لا يستطيع علاج قلبه من هذا المرض. [تنوير العقول والأذهان في تفسير مفصل القرآن(2/96)].
عباد الله: جاء الترغيب بسلامة الصدر في كتابه الكريم بهذه الآية: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10]
وقوله: ( وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا)أي: ولا تجعل في قلوبنا حقداً وبغضاً وحسداً للذين آمنوا ممن سبقونا، ولا ممن هم بين أيدينا ومعنا؛ أي لا تجعل في قلوبنا غلاً لأحد من أهل الإيمان.
قال ابن رجب: (أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها، وأفضلها السَّلَامة من شحناء أهل الأهواء والبدع، التي تقتضي الطَّعن على سلف الأمَّة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثمَّ يلي ذلك سَلَامة القلب من الشَّحْناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر:10].
وسَلَامة الصَّدر، ونقاء القلب من أمراضه -والتي منها الغِلُّ- صفة من صفات أهل الجنَّة، وميزة من ميزاتهم، ونعيم يتنعمون به يوم القيامة، كما قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف:43]
وقد ورد في السنة مما يدعو إلى سلامة الصدر كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ", قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ, فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ, قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ, لَا إِثْمَ فِيهِ, وَلَا بَغْيَ, وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ" [رواه ابن ماجه وصححه الألباني]
وهذا يدل على فضل القلب النظيف وهو معنى(المخموم): هو من خممتُ البيت إذا كنستَه. وهذا يتطلب مجاهدة قوية لتنظيفه من أهواء البغي والغِلّ والحسد، وما أكثر تلوُّثَ القلوبِ بها!
قال ابن العربي: لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا، وقد شرط النَّبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه.
وسئل ابن سيرين -رحمه الله تعالى- ما القلب السَّليم؟ فقال: النَّاصح لله في خلقه.
وقال الأكفاني وعبد الكريم: وأصل العبادة مكابدة اللَّيل، وأقصر طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر.
ومن صور سلامة الصدر: أن تكون مع عامة الناس، فلا يحمل لهم في قلبه غلًّا ولا حسداً، ولا غيرها من الأمراض القلبية، التي تقطع أواصر المحبة، وصلات المودة.
وسلامة الصدر تكون مع خاصة إخوانه ومقربيه.
وسلامة الصدر مع ولاة الأمر، فلا يحمل عليهم الحقد، ولا يثير عليهم العامة؛ وكذلك سلامة صدور الولاة للرعية.
وسلامة صدور العلماء وطلبة العلم بعضهم مع بعض.
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- فذكر له عن رجل شيئًا،فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك،فإن كنت كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية: (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6]، وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو، يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
وعن الفضل بن أبي عيَّاش، قال:كنت جالسًا مع وهب بن منبِّه، فأتاه رجل، فقال: إنِّي مررت بفلان وهو يشتُمك. فغضب، فقال: ما وجد الشَّيطان رسولًا غيرك؟ فما بَرِحْت من عنده حتَّى جاءه ذلك الرَّجل الشَّاتم، فسلَّم على وهب، فردَّ عليه، ومدَّ يده، وصافحه، وأجلسه إلى جنبه.
فهذا يدل على نقاء قلوبهم -عباد الله- ، وسلامة صدورهم؛ فسلامة الصدر سبيل لدخول الجنة؛ وسلامة الصدر تكسو صاحبها بحلة الخيرية، وتلبسه لباس الأفضلية؛ وسلامة الصدر تجمع القلب على الخير والبرِّ والطاعة والصلاح، فلا يجد القلب راحة إلا فيها، ولا يرتاح إلا بها؛ وسلامة الصدر تزيل العيوب، وتقطع أسباب الذنوب، فمن سلم صدره،وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة، والظنون السيئة، عفَّ لسانه وجوارحه عن كلِّ قبيح؛ وسلامة الصدر فيها اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو أسلم الناس صدراً، وأطيبهم قلباً، وأصفاهم سريرة.
فمن كان في قلبه غلٌّ وحقد وحسد وضغينة على إخوانه المسلمين فنصيبه من ثناء الله على أهل الجنة، يقل ويضعف بقدر ما عنده من هذا المرض العضال، نسأل الله السلامة والعافية.
ففتش نفسك أخي المسلم، فإنه قلَّ من يسلم من هذا الداء، فإن وجدت عندها شيئاً - من الضغينة والغل والحسد والبغضاء- فألزمها تقوى الله، وأعلمها بأن فضل الله واسع قد شمل البر والفاجر، وإن الجنة وعدت ملأها، وإن النار وعدت ملأها، وإن الناس لو كانوا كلهم في الجنة ما ضرك ذلك، ولو كانوا كلهم في النار ما نفعك ذلك، ولو كان الناس كلهم أغنياء ما ضرك ذلك، ولو كانوا كلهم فقراء ما نفعك ذلك،( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الروم:37]، أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله، فيوسع على قوم ويضيِّق على آخرين[تفسير ابن كثير]؛ فعالج قلبك وأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وادع لهم وأبشر بالخير إن شاء الله.
اللهم احفظ قلوبنا من الغل والحسد والبغضاء والكراهية، ونور قلوبنا بالتقوى والنقاء، وبنور الذكر والإنابة والتواضع والخشية يا ذا الجلال والإكرام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


الخطبة الثانية

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
عباد الله: مما يمنع من سلامة الصدور؛ نزغات الشيطان ووساوسه، فالشيطان حريص على إيغار الصدور، وإفساد القلوب، لذا حذر الله تبارك وتعالى منه، وأمر عباده بانتقاء القول الحسن، كما قال: ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[الإسراء:53]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" [رواه مسلم(2812)].
ومما يمنع من سلامة الصدور: التنافس على الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" [رواه البخاري(4015)، ومسلم(2961)] ؛ وكذلك حب الشهرة والرئاسة، وهي داء عضال ومرض خطير، وشرٌّ مستطير، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (ما من أحد أحبَّ الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير) ا.هـ.
والاتصاف ببعض الصفات، التي من شأنها أن تُوغر الصدور، وتؤثر في سلامتها، ككثرة المزاح، وكثرة المراء والجدال،والعجب وغيرها.
فلنتق الله -عباد الله- ولنرض بما قسم الله لنا؛ ولنقبل على كتاب الله تعالى قراءة وتعلماً وتعليماً، فهو شفاء لما في الصدور، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس:57].
ولنكثر من الدعاء، فهو الدواء النافع، فيدعو العبد مولاه أن يجعل قلبه سليماً من الضغائن والأحقاد على إخوانه المؤمنين.
ولنتخلق بالأخلاق التي تزيد من المحبة والألفة بين المؤمنين، كالبشاشة والتبسم، وإفشاء السلام، وإهداء الهدية وغيرها، فإن هذه الأخلاق كفيلة بانتزاع سخيمة القلوب وأعلاق الصدور، فتصبح نقية صافية.
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
المشاهدات 1965 | التعليقات 0