الأخلاق المحمودة(2) الرحمة
تركي الميمان
1436/10/21 - 2015/08/06 03:19AM
الأخلاق المحمودة(2)الرحمة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف:56]؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي الرحمة القائل: "مَنْ لَا يَرْحَمْ، لَا يُرْحَمْ"، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله والصحابة أجمعين الذين وصفهم الله بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29] والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه،ولا تخالفوا أمره ولا تعصوه، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28].
عباد الله: إن الإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما يقاس بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ "[رواه مسلم(2564)]
أيها المسلمون: ومن الأخلاق التي ينبغي للمسلم الاتصاف بها، خلق الرحمة؛ التي هي رقة في النفس، تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه.
وقد ذكر الله هذه الصفة العظيمة في غير ما آية من كتابه الكريم، منها تسمِّيه جل وعلا باسم الرحمن والرحيم، واتصافه بصفة الرحمة كما في قوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة:2].
قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب:43]. وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر: أي أكثر رحمة.[المصباح المنير تهذيب تفسير ابن كثير ص17]
وجعل الله صفة الرحمة لصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)[آل عمران:159]، ومعناها: أي شيء جعلك لهم ليناً، لولا رحمة الله بك وبهم.
واستفاضت نصوص السنة الداعية إلى الرحمة، كيف لا، وصاحبها صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة.
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [رواه البخاري(6011) ومسلم(2586)].
قال النووي: وهذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم مع بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد، في غير إثم ولا مكروه. ا.هـ
ورحمة الولد الصغير، ومعانقته، وتقبيله، والرفق به، كان خلقاً له صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ " [رواه البخاري(5998)]
والراحمون يرحمهم الرحمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ "[رواه أبو داود(4941)والترمذي وقال: حديث حسن صحيح؛ وصححه الألباني]
فكن –يا عبد الله- رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورحمتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه.
وحقيقة الرحمة إرادة المنفعة للآخرين، وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه للغير، ذهب عنه الإيمان والإسلام،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ" [رواه أبو داود(4942)والترمذي وحسنه؛ وحسنه الألباني]
ورحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، كما ورد في الحديث: "لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ" [رواه البخاري(7376)]
فمن أراد أن يستبقيها ويستزيد منها فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]، وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله.
ومن كان بعيداً عن الإحسان بالخلق، ظلوماً غشوماً شقيا، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبس بظلم عباده.
فمن صور الرحمة-عباد الله-: البر بالوالدين وخفض جناح الذل لهما؛ كما قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:24]، أي تواضع لهما بفعلك؛ وذلك بأن تقول لهما قولاً ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم،ولا تسمعهما قولاً سيئاً، ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح.
والوصية بالمرأة خيراً والإحسان إليها من الرحمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ"[رواه مسلم(1218)].
والشفقة على الأبناء والعطف والحزن عليهم إذا أصابهم مكروه من الرحمة؛ ولا سيما الشفقة عليهم بتربيتهم وتوجيههم إلى طاعة الله، وذلك بترغيبهم لا بتنفيرهم، وبتخويفهم من الله ومراقبته لا بتخويفهم منك أنت أيها الولي، كما يفعل بعض الآباء بتأديب أبنائهم وزجرهم أمام الناس-ولا سيما في أمور ليست واجبة عليهم وإنما هي من المستحبات- مما يسبب الحرج للأبناء في تلك التربية الغليظة؛ وهذا تنفير لهم من الطاعة، مما يجعل هؤلاء الأبناء يكرهون أباهم، ويكرهون ما يأمرهم به حتى لو كان حقاً؛ فلسنا بأرحم بأبنائنا من نبينا بأمته، الذي قال الله فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، أي لو كنت سيء الكلام، قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم. [تفسير ابن كثير].
فالنبي صلى الله عليه وسلم من صفاته أنه : "ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواقِ ولا يدفعُ بالسيئةِ السيئةَ ولكن يعفو ويغفرُ" [صحيح الأدب المفرد للألباني]
فقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس وأرأفهم بهم؛ فرحمته صلى الله عليه وسلم شملت حتى الكفار، وذلك عندما أخرجه أهل مكة وذهب إلى الطائف ولم يستجب له أحد رجع مهموماً، فقال له ملك الجبال: "إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَينِ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد اللهَ وحده، لا يشركُ به شيئًا"[رواه البخاري(3231)].
ومن ذلك أيضاً: الرحمة بمن هم تحت سلطانه، من الخدم والعمال وغيرهم.
بل رحمته صلى الله عليه وسلم شملت الحيوان ؛ دَخَلَ-صلى الله عليه وسلم- حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ: "أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ "[رواه أبو داود(2549)، وصححه الألباني]
فيا من عنده من بهيمة الأنعام أو طيراً أو غير ذلك، اتق الله فيما ملكك الله إياه من هذه البهائم، فإما أن تطعمها أو لا تدخلها في ذمتك، وتذكر أنه، "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"[رواه البخاري(3318)، ومسلم(2242)].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة:128].
اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: جعل الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107].
ومما يعين على التخلق بخلق الرحمة، والحنان على الخلق؛ القراءة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتأسي به في مواقف الرحمة.
ومجالسة الرحماء ومخالطتهم، والابتعاد عن ذوي الغلظة والفظاظة؛ وتربية الأبناء على هذا الخلق العظيم-خلق الرحمة- ومتى نشأ على الرحمة نبتت في قلبه؛ ومعرفة جزاء الرحماء وثوابهم، وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم، ومعرفة عقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية؛ والاختلاط بالضعفاء والمساكين وذوي الحاجة، فإنه مما يرقق القلب ويدعو إلى الشفقة والرحمة.
فلو تراحم الناس-عباد الله-، لما كان بينهم جائع ولا مغبون ولا مهضوم.
فارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها.
ارحم الزوجة أم ولدك وقعيدة بيتك، ومرآة نفسك، وخادمة فراشك ؛ ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت من الظالمين.
ارحم الجاهل، لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم.
ارحم الحيوان، لأنه يحس كما تحس، ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع ويتوجع.
أيها السعداء: أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف:56]؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي الرحمة القائل: "مَنْ لَا يَرْحَمْ، لَا يُرْحَمْ"، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله والصحابة أجمعين الذين وصفهم الله بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29] والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيرا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه،ولا تخالفوا أمره ولا تعصوه، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28].
عباد الله: إن الإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما يقاس بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ "[رواه مسلم(2564)]
أيها المسلمون: ومن الأخلاق التي ينبغي للمسلم الاتصاف بها، خلق الرحمة؛ التي هي رقة في النفس، تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه.
وقد ذكر الله هذه الصفة العظيمة في غير ما آية من كتابه الكريم، منها تسمِّيه جل وعلا باسم الرحمن والرحيم، واتصافه بصفة الرحمة كما في قوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[الفاتحة:2].
قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب:43]. وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر: أي أكثر رحمة.[المصباح المنير تهذيب تفسير ابن كثير ص17]
وجعل الله صفة الرحمة لصفوة خلقه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)[آل عمران:159]، ومعناها: أي شيء جعلك لهم ليناً، لولا رحمة الله بك وبهم.
واستفاضت نصوص السنة الداعية إلى الرحمة، كيف لا، وصاحبها صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة.
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [رواه البخاري(6011) ومسلم(2586)].
قال النووي: وهذه الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم مع بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد، في غير إثم ولا مكروه. ا.هـ
ورحمة الولد الصغير، ومعانقته، وتقبيله، والرفق به، كان خلقاً له صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ، فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ " [رواه البخاري(5998)]
والراحمون يرحمهم الرحمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ "[رواه أبو داود(4941)والترمذي وقال: حديث حسن صحيح؛ وصححه الألباني]
فكن –يا عبد الله- رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورحمتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه.
وحقيقة الرحمة إرادة المنفعة للآخرين، وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه للغير، ذهب عنه الإيمان والإسلام،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ" [رواه أبو داود(4942)والترمذي وحسنه؛ وحسنه الألباني]
ورحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، كما ورد في الحديث: "لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ" [رواه البخاري(7376)]
فمن أراد أن يستبقيها ويستزيد منها فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56]، وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله.
ومن كان بعيداً عن الإحسان بالخلق، ظلوماً غشوماً شقيا، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبس بظلم عباده.
فمن صور الرحمة-عباد الله-: البر بالوالدين وخفض جناح الذل لهما؛ كما قال تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:24]، أي تواضع لهما بفعلك؛ وذلك بأن تقول لهما قولاً ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم،ولا تسمعهما قولاً سيئاً، ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح.
والوصية بالمرأة خيراً والإحسان إليها من الرحمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ"[رواه مسلم(1218)].
والشفقة على الأبناء والعطف والحزن عليهم إذا أصابهم مكروه من الرحمة؛ ولا سيما الشفقة عليهم بتربيتهم وتوجيههم إلى طاعة الله، وذلك بترغيبهم لا بتنفيرهم، وبتخويفهم من الله ومراقبته لا بتخويفهم منك أنت أيها الولي، كما يفعل بعض الآباء بتأديب أبنائهم وزجرهم أمام الناس-ولا سيما في أمور ليست واجبة عليهم وإنما هي من المستحبات- مما يسبب الحرج للأبناء في تلك التربية الغليظة؛ وهذا تنفير لهم من الطاعة، مما يجعل هؤلاء الأبناء يكرهون أباهم، ويكرهون ما يأمرهم به حتى لو كان حقاً؛ فلسنا بأرحم بأبنائنا من نبينا بأمته، الذي قال الله فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، أي لو كنت سيء الكلام، قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم. [تفسير ابن كثير].
فالنبي صلى الله عليه وسلم من صفاته أنه : "ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواقِ ولا يدفعُ بالسيئةِ السيئةَ ولكن يعفو ويغفرُ" [صحيح الأدب المفرد للألباني]
فقد كان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس وأرأفهم بهم؛ فرحمته صلى الله عليه وسلم شملت حتى الكفار، وذلك عندما أخرجه أهل مكة وذهب إلى الطائف ولم يستجب له أحد رجع مهموماً، فقال له ملك الجبال: "إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَينِ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابهم من يعبد اللهَ وحده، لا يشركُ به شيئًا"[رواه البخاري(3231)].
ومن ذلك أيضاً: الرحمة بمن هم تحت سلطانه، من الخدم والعمال وغيرهم.
بل رحمته صلى الله عليه وسلم شملت الحيوان ؛ دَخَلَ-صلى الله عليه وسلم- حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ: "أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ "[رواه أبو داود(2549)، وصححه الألباني]
فيا من عنده من بهيمة الأنعام أو طيراً أو غير ذلك، اتق الله فيما ملكك الله إياه من هذه البهائم، فإما أن تطعمها أو لا تدخلها في ذمتك، وتذكر أنه، "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"[رواه البخاري(3318)، ومسلم(2242)].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة:128].
اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: جعل الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107].
ومما يعين على التخلق بخلق الرحمة، والحنان على الخلق؛ القراءة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتأسي به في مواقف الرحمة.
ومجالسة الرحماء ومخالطتهم، والابتعاد عن ذوي الغلظة والفظاظة؛ وتربية الأبناء على هذا الخلق العظيم-خلق الرحمة- ومتى نشأ على الرحمة نبتت في قلبه؛ ومعرفة جزاء الرحماء وثوابهم، وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم، ومعرفة عقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية؛ والاختلاط بالضعفاء والمساكين وذوي الحاجة، فإنه مما يرقق القلب ويدعو إلى الشفقة والرحمة.
فلو تراحم الناس-عباد الله-، لما كان بينهم جائع ولا مغبون ولا مهضوم.
فارحم الأرملة التي مات عنها زوجها، ولم يترك لها غير صبية صغار، ارحمها قبل أن ينال اليأس منها.
ارحم الزوجة أم ولدك وقعيدة بيتك، ومرآة نفسك، وخادمة فراشك ؛ ارحم ولدك وأحسن القيام على جسمه ونفسه، فإنك إلا تفعل قتلته أو أشقيته فكنت من الظالمين.
ارحم الجاهل، لا تتحين فرصة عجزه عن الانتصاف لنفسه، فتجمع عليه بين الجهل والظلم.
ارحم الحيوان، لأنه يحس كما تحس، ويتألم كما تتألم، ويبكي بغير دموع ويتوجع.
أيها السعداء: أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
وصلوا وسلموا على نبيكم...