الأخلاق المحمودة(1)الرفق واللين - تركي الميمان
تركي الميمان
1436/10/14 - 2015/07/30 06:45AM
الأخلاق المحمودة(1)الرفق واللين
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزوجل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]
عباد الله: تضافرت النصوص من كتاب الله عزوجل على الأمر بالتخلق بالأخلاق الحسنة، فمن ذلك قوله تعالى: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199]. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل أمر الله تعالى في كل شأنه قولاً وعملا، كان خلقه القرآن.
فالالتزام بالأخلاق الحسنة امتثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"[رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
وأنت أيها الإنسان جسد وروح،ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة، والتي محلها القلب؛فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق.
أيها المسلمون: ومن الأخلاق الحسنة التي ينبغي للمسلم الاتصاف بها: الرفق واللين، قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتناً عليه وعلى المؤمنين، فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي: أي شيء جعلك لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم.[المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير (ص202)]
وعن جرير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ"[رواه مسلم(2592)]. فالإنسان إذا صار يتعامل بالعنف والشدة، فإنه يحرم الخير ولا يناله، وإذا كان يتعامل بالرفق والحلم والأناة وسعة الصدر، حصل على خير كثير؛ فلنجعل الرفق واللين دائما في تعاملنا حتى ننال الخير.
أيها المؤمنون: وللرفق واللين صور كثيرة:
منها: الرفق بالنفس في أداء ما فرض عليه؛ فالمسلم لا يحمِّل نفسه من العبادة ما لا يطيقه، فالإسلام دين يسر وسهولة، فالمتبع له يوغل فيه برفق، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الدينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبَه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوَةِ والرَّوْحةِ وشيءٍ من الدُّلْجَةِ"[رواه البحاري(39)]
ومنها: الرفق مع الناس عامة؛ ويكون بلين الجانب وعدم الغلظة والجفاء، والتعامل مع الناس بالسماحة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟، قَالَ: قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ".[رواه البخاري(6927)]
وقال صلى الله عليه وسلم:"الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ، كَالْجَمَلِ الأنِفِ، الَّذِي إِنْ قِيدَ انْقَادَ، وَإِذَا أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ"[حسنه الألباني في صحيح الجامع(6669)]
ومن صوره: الرفق بالرعية؛ فالراعي سواء كان حاكماً، أو رئيساً، أو مسؤولاً، عليه أن يرفق برعيته، فيقضي حاجتهم ويؤدي مصالحهم برفق، قال صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"[رواه مسلم(1828)]
وقد يظن بعض الناس أن معنى الرفق أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون، وليس الأمر كذلك، بل الرفق أن تسير بالناس حسب أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن تسلك أقرب الطرق وأرفق الطرق بالناس، ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ"[رواه مسلم(1830)]، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلاً لكل راع عنيف، قاس شديد لا رحمة في قلبه على رعيته، سواء أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، فشر الرعاة من الناس على الناس هو الحطمة، الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تليِّن سياسته وقيادته.
ومن صور الرفق: الرفق بالخادم والمملوك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ" [رواه مسلم(1662)]. فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم.
ومن صوره: الرفق بالحيوان؛ فمن الرفق بالحيوان، أن تدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع والمرض، والحمل الثقيل. دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ،فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:"أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ"[رواه أبو داود وصححه الألباني].
فاتقوا الله رحمكم الله، وأجلُّوا أقرانكم، واحترموا زملاءكم، وارحموا إخوانكم وعمالكم، فالقلوب مجبولة على حبِّ من أحسن إليها. بارك الله لي ولكم في القرآن ...
لخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: ومن صور الرفق: الرفق بالمدعوين؛ فالداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على الناس ولا يشق عليهم، ولا ينفرهم من الدين بأسلوبه الغليظ العنيف. وأولى الناس بخلق الرفق واللين، الدعاة إلى الله والمعلِّمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم الناس لا يؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرفق الذي يملك القلوب بالمحبة.
وانظر إلى رفق إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا. يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)[مريم:42-45]. ثم خاطبه أبوه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه، ولم يقل يا بني في مقابلة قوله: يا أبت، وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان،(قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم:46]. ثم بين الله تعالى أن إبراهيم عليه السلام قابل أيضاً جواب أبيه العنيف بغاية الرفق واللين: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ
كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 47].
فينبغي للدعاة إلى الله التلطف والرفق بالمدعوين، وذلك من أجل هدايتهم واستقامتهم، فبالرفق واللين والتخلق بالأخلاق الحسنة نكون دعاة إلى الله. وينبغي للأبناء التلطف والرفق واللين بوالديهم، وعدم العنف والضجر والتأفف، كما تلطف إبراهيم عليه السلام مع أبيه، مع أن أباه على الكفر وهو على الحنيفية؛ فالله الله في الرفق واللين بالوالدين.
وقال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام عند دعوتهما لفرعون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:43-44]. قال السعدي رحمه الله في تفسيره:(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) أي سهلاً لطيفاً، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال(لَعَلَّهُ) بسبب القول اللين(يَتَذَكَّرُ) ما ينفعه فيأتيه،(أَوْ يَخْشَى) ما يضره فيتركه، فإن القول اللين داع لذلك، والقول الغليظ منفر عن صاحبه.[تيسير الكريم الرحمن(3/234)]. انظر إلى خطاب موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون، فكيف إذا كان ذلك من المسلمين، فينبغي للإنسان أن يحدد هدفه ابتداءً، إذا كان مقصوده أن يقبل قوله، وأن يكثر المعروف والخير، وأن يزول المنكر، فينبغي أن يتلطف غاية التلطف للوصول إلى هذا المعنى والمطلوب.
وقدوتنا صلى الله عليه وسلم له مواقف كثيرة تدل على لطفه ولينه، ورفقه في
دعوته؛ منها: رفقه صلى الله عليه وسلم بمن كانت يده تطيش في الصحفة؛ فعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ:كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"[رواه البخاري(5376)]، فما أرفق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في دعوته باليتيم. فلقد أثرت هذه الكلمات المقرونة بالرفق واللين، أثرت بهذا الغلام، الذي يقول: "فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"، أي صفة أكلي، أي لزمت ذلك وصار عادة لي.
ومنها: رفقه صلى الله عليه وسلم بالأعرابي الذي بال في المسجد؛فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ، مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ"، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ:"إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ، لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ،فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ"[رواه مسلم(285)] ، يقول الإمام النووي: وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً. ا.هـ
فاتقوا الله ربكم، وخذوا بأحسن الأخلاق، وأخلصوا في القول والعمل، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت
واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير ...
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المسلمون أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزوجل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]
عباد الله: تضافرت النصوص من كتاب الله عزوجل على الأمر بالتخلق بالأخلاق الحسنة، فمن ذلك قوله تعالى: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199]. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل أمر الله تعالى في كل شأنه قولاً وعملا، كان خلقه القرآن.
فالالتزام بالأخلاق الحسنة امتثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"[رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
وأنت أيها الإنسان جسد وروح،ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة، والتي محلها القلب؛فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق.
أيها المسلمون: ومن الأخلاق الحسنة التي ينبغي للمسلم الاتصاف بها: الرفق واللين، قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران:159]
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتناً عليه وعلى المؤمنين، فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) أي: أي شيء جعلك لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم.[المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير (ص202)]
وعن جرير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ"[رواه مسلم(2592)]. فالإنسان إذا صار يتعامل بالعنف والشدة، فإنه يحرم الخير ولا يناله، وإذا كان يتعامل بالرفق والحلم والأناة وسعة الصدر، حصل على خير كثير؛ فلنجعل الرفق واللين دائما في تعاملنا حتى ننال الخير.
أيها المؤمنون: وللرفق واللين صور كثيرة:
منها: الرفق بالنفس في أداء ما فرض عليه؛ فالمسلم لا يحمِّل نفسه من العبادة ما لا يطيقه، فالإسلام دين يسر وسهولة، فالمتبع له يوغل فيه برفق، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الدينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبَه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوَةِ والرَّوْحةِ وشيءٍ من الدُّلْجَةِ"[رواه البحاري(39)]
ومنها: الرفق مع الناس عامة؛ ويكون بلين الجانب وعدم الغلظة والجفاء، والتعامل مع الناس بالسماحة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟، قَالَ: قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ".[رواه البخاري(6927)]
وقال صلى الله عليه وسلم:"الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ، كَالْجَمَلِ الأنِفِ، الَّذِي إِنْ قِيدَ انْقَادَ، وَإِذَا أُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ"[حسنه الألباني في صحيح الجامع(6669)]
ومن صوره: الرفق بالرعية؛ فالراعي سواء كان حاكماً، أو رئيساً، أو مسؤولاً، عليه أن يرفق برعيته، فيقضي حاجتهم ويؤدي مصالحهم برفق، قال صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ"[رواه مسلم(1828)]
وقد يظن بعض الناس أن معنى الرفق أن تأتي للناس على ما يشتهون ويريدون، وليس الأمر كذلك، بل الرفق أن تسير بالناس حسب أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن تسلك أقرب الطرق وأرفق الطرق بالناس، ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ"[رواه مسلم(1830)]، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلاً لكل راع عنيف، قاس شديد لا رحمة في قلبه على رعيته، سواء أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، فشر الرعاة من الناس على الناس هو الحطمة، الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تليِّن سياسته وقيادته.
ومن صور الرفق: الرفق بالخادم والمملوك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ" [رواه مسلم(1662)]. فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم.
ومن صوره: الرفق بالحيوان؛ فمن الرفق بالحيوان، أن تدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع والمرض، والحمل الثقيل. دَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ،فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:"أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ"[رواه أبو داود وصححه الألباني].
فاتقوا الله رحمكم الله، وأجلُّوا أقرانكم، واحترموا زملاءكم، وارحموا إخوانكم وعمالكم، فالقلوب مجبولة على حبِّ من أحسن إليها. بارك الله لي ولكم في القرآن ...
لخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
عباد الله: ومن صور الرفق: الرفق بالمدعوين؛ فالداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على الناس ولا يشق عليهم، ولا ينفرهم من الدين بأسلوبه الغليظ العنيف. وأولى الناس بخلق الرفق واللين، الدعاة إلى الله والمعلِّمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم الناس لا يؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرفق الذي يملك القلوب بالمحبة.
وانظر إلى رفق إبراهيم عليه السلام في دعوته لأبيه: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا. يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)[مريم:42-45]. ثم خاطبه أبوه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه، ولم يقل يا بني في مقابلة قوله: يا أبت، وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان،(قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم:46]. ثم بين الله تعالى أن إبراهيم عليه السلام قابل أيضاً جواب أبيه العنيف بغاية الرفق واللين: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ
كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 47].
فينبغي للدعاة إلى الله التلطف والرفق بالمدعوين، وذلك من أجل هدايتهم واستقامتهم، فبالرفق واللين والتخلق بالأخلاق الحسنة نكون دعاة إلى الله. وينبغي للأبناء التلطف والرفق واللين بوالديهم، وعدم العنف والضجر والتأفف، كما تلطف إبراهيم عليه السلام مع أبيه، مع أن أباه على الكفر وهو على الحنيفية؛ فالله الله في الرفق واللين بالوالدين.
وقال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام عند دعوتهما لفرعون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:43-44]. قال السعدي رحمه الله في تفسيره:(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا) أي سهلاً لطيفاً، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال(لَعَلَّهُ) بسبب القول اللين(يَتَذَكَّرُ) ما ينفعه فيأتيه،(أَوْ يَخْشَى) ما يضره فيتركه، فإن القول اللين داع لذلك، والقول الغليظ منفر عن صاحبه.[تيسير الكريم الرحمن(3/234)]. انظر إلى خطاب موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون، فكيف إذا كان ذلك من المسلمين، فينبغي للإنسان أن يحدد هدفه ابتداءً، إذا كان مقصوده أن يقبل قوله، وأن يكثر المعروف والخير، وأن يزول المنكر، فينبغي أن يتلطف غاية التلطف للوصول إلى هذا المعنى والمطلوب.
وقدوتنا صلى الله عليه وسلم له مواقف كثيرة تدل على لطفه ولينه، ورفقه في
دعوته؛ منها: رفقه صلى الله عليه وسلم بمن كانت يده تطيش في الصحفة؛ فعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ:كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"[رواه البخاري(5376)]، فما أرفق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في دعوته باليتيم. فلقد أثرت هذه الكلمات المقرونة بالرفق واللين، أثرت بهذا الغلام، الذي يقول: "فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"، أي صفة أكلي، أي لزمت ذلك وصار عادة لي.
ومنها: رفقه صلى الله عليه وسلم بالأعرابي الذي بال في المسجد؛فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ، مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ"، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ:"إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ، لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ،فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنَّهُ عَلَيْهِ"[رواه مسلم(285)] ، يقول الإمام النووي: وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً. ا.هـ
فاتقوا الله ربكم، وخذوا بأحسن الأخلاق، وأخلصوا في القول والعمل، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت
واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ثم صلوا وسلموا على الهادي البشير ...