الأحلام والرؤى
ناصر محمد الأحمد
الأحلام والرؤى
20/12/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: الأحلام والرؤى: لقد فتح كثير من الناس على أنفسهم مؤخراً باب الأحلام والرؤى. يبحث ويريد أن يُعبّر كل حلم يراه، وغالب الناس يحلم كل ما نام. فكم معبر نحتاج في كل منطقة لتغطية حاجات الناس إذا فتحنا هذا الباب؟.
إن أحدنا قد يلاقي أخاً له أو صديقاً فيراه عبوساً متجهِّماً أو فرحاً مسروراً، فيزول عنه العجب حينما يعلم أن سببَ هذا الفرح أو الحزن رؤيا مؤنسة أو أخرى مقلقة. وهذا الأمر عباد الله ليس قاصراً على أفراد الناس وعامتهم فحسب، بل يشركهم فيه العظماء والكبراء، فكم أقضّت الرؤيا عظيماً من مضجعه، وكم بشَّرت الرؤيا أفراداً بمستقبلهم، وكم شغلت شعباً كبيراً برمته، وما رؤيا يوسف عليه السلام بغائبة عنا، ولا رؤيا ملك مصر بخافية علينا، فقد اجتمع فيها تبشير وتحذير من آن واحد، إذ بشارتها هي السَّعة عليهم في الرزق سبعَ سنين، ونذارتها هي في الجدب والقحط سبعًا مثلها.
الرؤى يا عباد الله لها أهميتُها الكبرى في واقع الناس قبل الإسلام وبعد الإسلام، وأما شريعة الإسلام فإن علماءَها وأئمتَها قد ساروا على منهاج النبوة ووقفوا من الرؤى بما نصَّ عليه الكتاب والسنة، فذهبوا إلى أن الرؤيا المنامية الصالحة الصادقة إنما هي حق من عند الله، فمنها المبشِّرة ومنها المنذرة، لما روى مالك في الموطأ وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات"، قيل: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرى له" وأصل هذا الحديث في البخاري. والتبشير هنا عباد الله يحتمل التبشير بالخير والتبشير بالشر كما قال الله تعالى عن الكفار: (فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). وهذه الرؤيا هي التي قال عنها الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون: لقد تعلَّقت نفوس كثير من الناس بالرؤى والمنامات تعلُّقًا خالفوا فيه من تقدَّمهم في الزمن الأول من السلف الصالح، ثم توسَّعوا فيها، وفي الحديث عنها والاعتماد عليها، إلى أن أصبحت شُغلَهم الشاغل عبر المجالس والمنتديات والمجامع بل والقنوات الفضائية، إلى أن طغت على الفتاوى الشرعية فأصبح السؤال عن الرؤى أكثر بأضعافٍ عن السؤال في أمور الدين وما يجب على العبد وما لا يجب، كل ذلك إبان غفلةٍ عما ينبغي أن يقِفه المؤمن تجاهَ هذه الرؤى، وأن هناك هدياً نبوياً للتعامل معها، ينبغي أن لا يتجاوزه المرء فيطغى ولا يتجاهله فيعيى، لأن النبي تركنا على المحجة البيضاء، فأغنانا في الحديث عنها عن إتعاب النفس في التعلق بها والسعي الدؤوب في معرفة تأويلها، ناهيك عن التعلق بها والاعتماد عليها، وما تهافتُ الناسِ في السؤال عنها بهذه الصورة المفرطة إلا لونٌ من ألوان الخروج عن الإطار المرسوم والتوازن المتكامل، فتجد أحدَنا يرى الرؤيا أياً كانت فتضطرب لها حواسُّه وترتعد منها فرائصُه وتُحبس أنفاسه، فلا يطفئ ذلك إلا البحث بنهمٍ عن عابر لها ليعبّرها، حتى يظهر له أشرّ هي أم خير، ولو وقف كل منّا عند الهدي النبوي مع الرؤى لما رأينا مثل هذه الجلبة ولا مثل هذا التعلّق الشاغل الذي استثمرته بعض المجامع والمنتديات فضلاً عن الفضائيات التي جعلته وسيلة جلبٍ واستقطابٍ لمشاهديها من خلال هذا الطُعم.
عباد الله: هناك جملة من الآداب المرعية تجاه هذه الظاهرة في المجتمع، فقد روى مسلم في صحيحه أن أبا سلمة قال: كنت أرى الرؤيا أُعرَى منها - أي: أمرض منها - غير أني لا أزَمَّل. حتى لقيتُ أبا قتادة فذكرت ذلك له فقال: سمعت رسول الله يقول: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً وليتعوّذ بالله من شرها، فإنها لن تضرّه" وفي رواية عند مسلم أيضاً قال أبو سلمة: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من جبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث، فما أباليها.
ومن هنا عباد الله فما كل ما يراه النائم يُعد من الرؤى التي لها معنى تُفسَّر به، إذ إن ما يراه النائم في منامه يتنوّع إلا ثلاثة أنواع لا رابع لها، كما عند ابن ماجه في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: "إن الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن بها ابن آدم، ومنها ما يهمّ به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". في هذا الحديث بيان أنه ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحاً ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها. ومثال هذه الأضغاث عباد الله ما رواه مسلم في صحيحه أن أعرابياً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج فاشتددتُ على أثره! فقال رسول الله للأعرابي: "لا تحدث الناس بتلعّب الشيطان بك في منامك".
وأما موقف المرء من هذا النوع من الرؤى وهو الغالب على حال الكثيرين فإنه قد جاء في السنة آداب خاصة به في أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما، وهي التعوذ بالله من شر هذه الرؤيا ومن شر الشيطان، وأن يتفل الرائي حين يهُبّ من نومه ثلاثاً عن يساره، وأن لا يذكرَها لأحد أصلاً، وأن يصلي ما كُتب له، وأن يتحوّل من جنبه الذي كان عليه. وزاد بعض أهل العلم قراءةَ آية الكرسي لما صح عن النبي أن من قرأها لا يقربهُ شيطان، وهذا النوع من الرؤى إنما هو من الشيطان.
وأما النوع الثاني من الرؤى: فهو ما يحدِّث به المرء نفسَه في يقظته، كمن يكون مشغولاً بسفر أو تجارة أو نحو ذلك، فينام فيرى في منامه ما كان يفكّر فيه في يقظته، وهذا من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها.
فلا يبقى إلا النوع الثالث: وهو الرؤيا الصادقة الصالحة التي تكون من الله، وهي التي تكون بشارة أو نذارة، وقد تكون واضحة ظاهرة لا تحتاج إلى تأويل كما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنَه في المنام، وقد تكون خافية برموز تحتاج فيها إلى عابر يعبُرها كرؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام. وهذا النوع هو الذي نهى رسول الله أن يُقصّ إلا على عالم أو ناصح، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: "لا تُقصّ الرؤيا إلا على عالم أو ناصح" رواه الترمذي. وما عدا ذلك من الرؤى التي تتعلق بإثبات شيء من أحكام الشريعة في حلال أو حرام أو فعل عبادة أو تحديد ليلة القدر مثلاً وهي التي أُرِيَها النبي ثم أُنسيَها أو تلك الرؤى التي ينبني عليها آثار متعدية تتعلق بحقوق الناس وحرماتهم وإساءة الظنون بهم من خلال بعض الرؤى مثلاً أو الحكم على عدالتهم ونواياهم من خلالها، فإن ذلك كلَّه من أضغاث الأحلام ومن الظنون التي لا يجوز الاعتماد عليها في قول جمهور أهل العلم. وقد ذكر الشاطبي رحمه الله في كتاب الاعتصام أن الخليفة المهدي أراد قتل شريك بن عبد الله القاضي فقال له شريك: ولِم ذلك يا أمير المؤمنين ودمي حرام عليك؟! قال: لأني رأيت في المنام كأني مقبل عليك أكلمُك وأنت تكلمني من قفاك، فأرسلت إلى من يعبِّر فسألته عنها فقال: هذا رجل يطأ بساطَك وهو يُسِرّ خلافَك، فقال شريك: يا أمير المؤمنين، إن رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب، وإن دماء المسلمين لا تُسفَك بالأحلام، فنكَّس المهدي رأسه وأشار إليه بيده أن اخرُج، فانصرف. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أن بعضهم رأى في المنام الشافعيَّ رحمه الله فقال له: كذبَ عليَّ يونس بن عبد الأعلى في حديث، ما هذا من حديثي ولا حدثتُ به، فقال الحافظ ابن كثير رحمه الله معلقاً على هذا الكلام: "يونس بن عبد الأعلى من الثقات لا يُطعن فيه بمجرد منام". وقد نقل الذهبي رحمه الله عن المروزي قال: أَدخلتُ إبراهيمَ الحصري على أبي عبد الله أحمد بن حنبل وكان رجلاً صالحاً فقال: إن أمي رأت لك مناماً هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء، وقال: الرؤيا تسرُّ المؤمن ولا تغرُّه.
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: إن من باب الإنصاف والمصارحة والنصح أن لا نلقي باللائمة كلها في موضوع الرؤى والإفراط فيها على آحاد الناس فحسب، بل لا بد من تعدية الأمر إلى المعبرين أنفسهم الذين يعبُرون الرؤى، إذ عليهم مسؤولية عظمى تجاه الرائين.
فلا بد للمعبر أن يكون عالماً بهذا العلم العظيم، وأن يدرك المصالح والمفاسد في هذا الميدان، وأن لا ينصِّب نفسه للفتيا في الرؤى ويتطلَّع إليها، لا سيما عبر الشاشات وفي المجامع الكبيرة. فتعبير الرؤى قرين الفتيا، يقول ابن القيم رحمه الله: "المفتي والمعبِّر والطبيب يطَّلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره".
ثم إن على المعبرين أن لا يتسارعوا في التعبير، وأن لا يجزموا بما يعبرون، وأن يعلموا خطورةَ هذا الجانب وما يوصله إليه من الافتتان والإعجاب بالنفس وتعظيم شأنه فوق شأن المفتين وأهل العلم، وقد نقل ابن عبد البر عن الإمام مالك أنه سئل: أيعبُر الرؤيا كلُّ أحد؟ فقال مالك: أبالنبوة يُلعب؟. وقد نقل ابن عبد البر أيضاً عن هشام بن حسان أنه قال: كان ابن سيرين يُسأل عن مائة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء، إلا أنه يقول: اتق الله وأحسن في اليقظة فإنه لا يضرك ما رأيت في النوم، وكان يجيب في خلال ذلك ويقول: إنما أجيب بالظن، والظن يخطئ ويصيب.
فإذا كان هذا هو قول إمام المعبرين في زمانه وما بعده من الأزمان فما الظن بمن جاء بعده، إننا لنسمع بالمعبِّر يُسأل عن ألف رؤيا لا تسمع مرةً يقول: لا أدري، أو يقول: هذه أضغاث أحلام، أو يقول: هذه حديث نفس، إلا من رحم ربك.
كما أن على المعبرين أن يدركوا خطورةَ تعبير الرؤى من خلال الشاشات التي يراها الملايين من الناس، وكذا المجامع الممتلئة بالحشود، وذلك لأمور:
أولها: أن الانفتاح المطلق بالتعبير نوع فتنة من أجل حديثه في أمور الغيب، لا سيما أن أحداً لا يستطيع أن يجزم بصحة ما يقول المعبّر من عدمه، إلا من رأى ذلك في واقعه، وهذا شبه متعسِّر عبر الشاشات.
وثانيها: تعذّر معرفة حال الرائي عبر الشاشات والمجامع من حيث الاستقامة من عدمها، وهذا له صلة وثيقة بتعبير الرؤيا، فابن سيرين سأله رجلان كل منهما رأى أنه يؤذِّن، فعبرها للصالح منهما بالحج لقوله تعالى: (وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ)، وعبرها للآخر بأنه يسرق لقوله تعالى: (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
وثالثها: عدم إدراك عقول الناس لطريقة بعض المعبرين للرؤيا لا سيما عبر الشاشات والمجامع بحيث يكون تعبيرهم بصورة تجعل المستمع الجاهل لأول وهلة يقول: هذا تكهّن أو تخمين أو عرافة، ونحن قد أُمرنا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، فقد أخرج البخاري في صحيحه قول علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟!" وعند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أنت محدث قوما حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
رابعها: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فالمفسدة من خلال التعبير عبر الشاشات أشد من مصلحته، لأمور لا تخفى على متتبِّعها، لا سيما أنها في أمور غيبية وأنها كالفتوى، ناهيكم عن بعض الفساد المتحقق من خلال ما يُشاهد ويُسمع من تعبير رؤيا لفتاة مثلاً بأنها ستفشل في نكاحها، أو لامرأة تُعبَّر لها بأن زوجها تزوج عليها سرًّا بامرأة أخرى. فما ظنكم بحال الأولى والأخرى، فهذه تترقب الفشل في كل حين مع ضيق نفسها وانشغال بالها، وتلك باهتزاز كيانها والشك في زوجها المرة تلو الأخرى، ناهيكم عمن يرينَ مثل هذه الرؤى، فيكتفين بما سمعنَه من تعبير لغيرهم فيقِسن عليه دون الرجوع إلى عابرٍ عالم اكتفاءً بما سمعنَه أو شاهدنَه، فتكون الطامة حينئذ، وقولوا مثل ذلك فيما يراه الرجال والشباب.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، والقصد القصد تفلحوا. هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ..
اللهم ..