الأجير المظلوم

صالح عبد الرحمن
1443/01/29 - 2021/09/06 05:10AM
الخطبة الأولى: 
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ  عليهِ وآلهِ  وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا
 
أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102] 
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي، فإن أقدامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا
حذركم. فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
 
عباد الله: استأجر كفيل من الكفلاء أجيراً من الأجراء, وعقدا عقداً لازماً, وميثاقاً جازمًا, فجد الأجير واجتهد, وقام وقعد, وهجر الأهل والجار, وفارق الوطن والدار, يبتغي مالاً ينفقه في بنيه, كسباً حلالاً كالماء, لا غش فيه
ولا خديعة, ولا مكر ولا عدوان, ولما أتم الأجير المهمة وجاء دور استلام المستحق, كان ما لم يدر في خلده فقد فاجأه رب المال بما لم يخطر له على بال .. تأخر في صرف الأجرة وزاد الطين بلة والأمر علة حين أنقصها عامداً, زاعماً أن العمل لم يصل للمستوى المطلوب رغم سابق الاتفاق وسابق الميثاق, فانكسر المغترب, وقدم وأخر؛ لعل قلب الكفيل يرحم فلم يفلح, بل إن رب المال رفع صوته ودعاه لرفع الشكوى إن أراد, فلم يجد بداً من الشكوى ولكنها من نوع آخر, وذات مقام عظيم, قوتها في يسرها, وبعدها في قربها, لم يركب لدائرة حكومية ولا لمؤسسة أهلية كلا, إنما توضأ ويمم نحو القبلة وجهه, وقرع الباب, يا حي يا قيوم إني مظلوم فانتصر؛ فوجد من الله النصير, وأسدل الستار على صورة تتكرر كثيراً في المجتمع.
 
 عباد الله: إن الأجراء ناس من الناس لهم حقوق وعليهم واجبات ومن قصر من أرباب الأموال في حقوقهم ألجأهم للتقصير في واجباتهم.. أما صاحب المال والعمل فله حقوق وعليه واجبات؛ فمن حقوقه على الأجير أن يلتزم له بالعمل وقد أَمَرَ اللهُ العاملَ ورَبّ العمل بالتزام العقد الذي بينهما، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالعقود). ومن حقه على أجيره أن يكون أميناً له, قوياً في أداء مهمته, والقوة والأمانة سمات العامل المسلم،
وفي خبر موسى -عليه السلام-: (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين). 
أما واجبات رب العمل فأولها الوضوح والجلاء في العقد وطبيعة العمل, ومقدار المال المستحق وموعد السداد, إنه حينما يتعاقد اثنان على عمل معيّن فلا بد من تحديد العمل, وتحديد الأجرة قبل البدء في العمل، وتلك خلة الأنبياء وسبيل العادلين
,
فهذا نبيّ الله موسى -عليه السلام- لما ذهب إلى الرجل الصالح قال له: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ) [القصص:27]، فحدّ له الأجرة قبل أن يبيّن له العمل, وبمثل هذا الجلاء يسود الصلح والصفاء ويصلح العمل والعطاء, ويرغم الشيطان.
 
 معاشر المسلمين: إن شيوع الظلم في الناس علامةُ شر وفساد, وأذانُ محق وعذاب؛ فكيف إذا مورس الظلم بصورة بشعة مع طبقة المستضعفين كالعمال؟! إن الأمة لتهون عند الله وتحرم كثيرًا من الخير إذا ظلم فيها الضعيف وتسلط القوي؛ إن هذا العامل المسكين الذي يكدح ليله ونهاره؛ ليُشبع بطوناً جائعة, ثم يأتي كفيله ويلتهم نصف ما جمع عدواناً وظلماً .. كيف يجيز هؤلاء لأنفسهم أكل تعب غيرهم وحصاد ثمار أعمارهم، بلا جهد ولا عمل؟‌! إن هذا لشيء عجاب!
وحري بمن ظلم وأكل ماله بلا حق أن يرفع الشكوى إلى السماء وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"،
وفي الحديث الآخر: "إن الله يرفعها فوق الغمام ويقول: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين".   
 
 الخطبة الثانية .. 
 الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: 
عباد الله: إن من صور سوء الخلق ورداءة الطبع أن يعمد المخدوم إلى خادمه بالضرب والإهانة والتجريح والخيانة،
يقول أبو مسعود رضي الله عنه: "كنت أضرب غلامًا لي فسمعت من خلفي صوتًا يقول: اعلم أبا مسعود، لله أقدر عليك منك عليه، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله ، قلت: يا رسول الله، فهو حرّ لوجه الله، فقال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار" رواه مسلم وغيره
عباد الله: عوداً بكم إلى المدينة النبوية في زمن النبوة الطاهر لنستمع سوياً إلى شهادة خادم في مخدومه: يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "قدم النبيّ المدينة وليس له خدم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي، حتى أدخلني على النبيّ فقال: يا نبي الله، إنّ أنسًا غلام كيس لبيب، فليخدمك، قال أنس: فخدمته في السفر والحضر عشر سنين من مقدمه المدينة حتى توفي، ما قال لي عن شيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟ وكان رسول الله من أحسن الناس خلقًا، ولا مسست خزًّا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كفّ رسول الله، ولا شممت مسكًا قطّ ولا عطرًا كان أطيبَ من عرق النبيّ". رواه البخاري ومسلم 
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ….. إن التشبه بالكرام فلاح
 
عباد الله: كما تحسن الإشارة إلى حق للخدم مهضوم وهو دعوتهم للإسلام إن كانوا من غير أهله فادعوهم بالحسنى, وكافؤوهم على الاستجابة, وأروهم من دينكم كماله ومن شرعكم سموه وجماله, أما إذا كان العامل مسلماً فأعينوه على الثبات وعلموه الأحكام والواجبات استجابة لنداء رب الأرض والسماوات (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
المشاهدات 706 | التعليقات 0