الأجور الباقية بعد الرحيل
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
الحمد لله عدد خلقه ، ورضى نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته، وأُصلي وأُسلم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى فهي سبب عظيم لتنفيس الكُروب، وتفريج الضوائق، وبسط الأرزاق، وحلول الأمن كما قال العزيز الرحيم: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)
أيها المسلمون: من فضل الله تعالى على عباده أن سخر لهم ملائكة كرام يحفظونهم ، ويستغفرون للصالح منهم ويدعون له، ومن عدله عز وجل أن هيأ هؤلاء الملائكة لكتابة أعمال العباد من طاعات أو معاصي ، ليُجازيهم بها يوم الدين، والآيات الدالة على ذلك في كتاب الله الكريم كثيرة ، منها قوله سبحانه: ( إنا نحن نُحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)
أخرج الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في سبب نزول هذه الآية: أن بنوا سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا قُرب المسجد ، فنزلت هذه الآية، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : بنوا سلمة ، دياركم تُكتب آثاركم) . أي: إلزموا مساكنكم ولا تنتقلوا قرب المسجد، فإن خطواتكم إلى المسجد وآثارها تُكتب لكم.
أيها المؤمنون: إن من أعظم النعم والهبات الربانية التي يمن الله تعالى بها على عبده أن يوفقه للسعي لترك أثراً أو آثاراً طيبة من أعمال صالحة تبقى شاهدة له في حياته وبعد موته وعند لقاء ربه ، ونيلاً لدعاء الصالحين من عباد الله تعالى في حياته وبعد رحيله من الدنيا، ولا شك أن النفع المتعدي للآخرين أعظم أجراً وأكثر ثواباً من النفع القاصر على العبد ، وفي كلٍ خير، وقد سطر التاريخ صوراً مشرقة وأسماءً براقة كان له آثاراً مباركةً طيبةً في نفع المسلمين بمختلف الأمور وشتى الصور والميادين بقيت شاهدة لهم في الدنيا بخير ، وفي الآخرة بإذن الله تعالى وكرمه فضلاً وإحساناً، فهنيئاً لهم ما قدموا ، وما أوفر حظ من لحق بهم وركب مركبهم
:وهذه عباد الله وقفات يسيرة أُشير فيها إلى شيء من الصور لصناعة الأثر الطيب تذكيراً بها وحث على الاهتمام والنزع منها لنكون في ذلك الركب المبارك
:فمن الآثار المباركة الطيبة التي تبقى شاهدة للعبد في حياته وبعد موته بخير
أولاً/ تعليم العلم النافع مما يُحتاج إليه لإقامة الدين من أركان الإسلام والإيمان على الوجه الذي يرضاه الله تعالى ، والصبر على ذلك ، وبذل الجهد ومجاهدة النفس بإخلاص النية لله تعالى وحده والدار الآخرة بهذا التعليم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، إن الله عز وجل وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) رواه الترمذي بسند صحيح، فهنيئاً لمن سخر جهده ووقته لتعليم الخير وتفقيه الناس في دينهم الأجور العظيمة ، والآثار الطيبة في حياته وبعد مماته، فليبادر المسلم باللحاق بركبهم ولو بتعليم العامة خاصةً العمال والخدم والسائقين ما يحتاجون من صفة الصلاة والوضوء وغير ذلك من العلم النافع الذي يبقى أثره في الحياة وبعد الممات، فإن للمعلم كأجر العمل الصالح الذي يعمله المتعلم من غير أن ينقص من أجره شيئاً
ثانياً/ تعليم كتاب الله تعالى وتدريسه ، فهو خير ما بُذلت فيه الجهود والأوقات، فلئن كان التالي للكتاب العزيز ينال بكل حرف يتلوه حسنه ، والحسنة بعشر أمثالها كما قال ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لمعلمه مثل أجره حين يقرأ من غير أن ينقص من أجره شيئاً، وإن رأس الخيرية والفضل تعليم كتاب تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري، فخير أثر يتركه العبد بعد موته تعليمه لكتاب الله تعالى ليستمر أجره حسنات مثل حسنات كل قرأ ممن علمه كتاب الله تعالى، فالله الله باغتنام هذا المورد العظيم للآثار المباركة في الحياة وبعد الممات، فكم من لديه أولاد صغار لم يستثمر فيهم تعليم كتاب الله تعالى منذ نعومة اظفارهم لينال من الأجور مثلهم كلما قرأوا كتاب الله تعالى وفرط في هذا الخير العظيم وتجاهله، وغنمه من علمهم ، ومن لديه خدم أو عمال يجهلون كثيراً من كتاب الله تعالى ويُخطئون في تلاوته ، ما أجمل أن يسعى من يريد الخير لنفسه والأثر الطيب في الحياة وبعد الممات بتعليمهم كتاب الله تعالى ولو قصار السور ، وأولها سورة الفاتحة لترك أثر طيب له في حياته وبعد مماته، كما أن المشاركة في دعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة بفضل الله في بلادنا المباركة بالمال وكفالة معلم القرآن له أثر في استمرار هذا الخير، وهو من الآثار المباركة التي يتركها المسلم قبل الرحيل، فهو بإذن الله تعالى شريك في هذا الخير العظيم
ثالثاً/ الدعوة إلى الله تعالى والسعي لهداية الناس بالموعظة الحسنة ، فالله تعالى يقول في كتابه العزيز: ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً) رواه مسلم، فهنيئاً لمن كان همه هداية الناس للخير وحثهم عليه أجوراً مثل أجورهم تترا عليه إذا عملوا بما دعاهم إليه من الخير ، وأعظم من ذلك السعي لهداية غير المسلمين للإسلام ، ففيها خير عظيم ومغنم كبير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) رواه مسلم، فالكتيبات الدعوية والمقاطع الصوتية والمرئية لتبليغ دين الإسلام منتشرة بفضل الله تعالى إلا أنه يوجد تقاعس من بعض الناس عن الاستفادة منها في الدعوة للإسلام خاصةً لمن تحت يده من خدم أو عمال أو سائقين على غير الإسلام أو من يلتقي بهم مرات عديدة في محل تجاري أو مطعم أو محطة وقود ونحو ذلك ،لم يفكر يوماً أن يكون سبباً لهداية أحد هؤلاء ، ولا شك أن هذا هو الحرمان الحقيقي
رابعاً/ الصدقات في أوجه البر المختلفة وسد حاجة المحتاجين وقضاء حوائجهم، وحفر الآبار ، وسقي الماء ، وبناء المساجد، وكفالة الأيتام والأرامل وبناء الدور لهم وغير ذلك مما يحقق النفع للمسلمين ، ولا شك أن الأوقاف التي يكون ريعها للأعمال الخيرية المختلفة سواءً أوقف الشخص لنفسه وقفاً كاملاً إن كان مقتدراً ، أو شارك في عدد من الأوقاف المعتمدة لعدد من الجهات الخيرية الرسمية فهي آثاراً طيبة وأجوراً دائمة تبقى له بعد الموت ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
خامساً/ التربية الطيبة والصالحة للأولاد ، وتنشئتهم على طاعة الله تعالى، وترغيبهم في الخير ، وحثهم على سلوك كل سبيل يحقق رضا الله عز وجل ، ويوجب مراقبته وخشيته ، فمن أحسن التربية ورُزق صلاح الذرية فهنيئاً له الأثر الطيب في حياته وبعد مماته ذكراً حسناً ودعوات تُرفع منهم لوالديهم ، وأعمال صالحةً يعملها الأبناء يكتب للوالدين مثلها ، ويا خيبة من ضيع هذا المغنم الكبير والخير العظيم بالتفريض والإضاعة والتهاون
أيها الفضلاء: الآثار الطيبة التي تبقى شاهدة للإنسان في حياته وبعد موته كثيرة، فاحتساب الخطوات إلى المساجد، والتحذير من البدع والمحدثات عبر وسائل التواصل المختلفة، وعدم احتقار شيء من الخير والمعروف والدعاء بالتوفيق لترك الآثار الطيبة عمل الموفقين من عباد الله ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحقرن من المعروف شيئاً )، وجماع الأثر الطيب بعد الموت ما ذكره المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره ، وولداً صالحاً تركه ، ومصحفاً ورثه ، أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته) رواه ابن ماجه
اللهم وفقنا للأعمال الصالحة والآثار المباركة الطيبة التي تكون أعمالاً صالحة يستمر بها أجرنا بعد الموت
أقول ما سمعتم ، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
:اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، أما بعد
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاء ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، ومُدهما بنصرك وإعانتك وتوفيقك وتسديدك ، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا على القوم الظالمين، وأحفظهم واشف مريضهم وداوي جريحهم وتقبل ميتهم في الشهداء، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا ، وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
عباد الله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون