اقْبِضْ فإنَّها تُمطِرُ فِتناً ! ( الجمعة 1442/7/14هـ )
يوسف العوض
الخطبة الاولى
أيُّها المسلمون: جاء حديثٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : (( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ )) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصحَّحه الألبَانِي وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي خبرًا وإرشادًا ، أَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّه ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَقِلُّ الْخَيْرُ وَأَسْبَابُه ، وَيَكْثُرُ الشَّرُّ وَأَسْبَابُه ، وَأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْمُتَمَسِّكُ بِالدَّيْنِ مِنْ النَّاسِ أَقَلَّ الْقَلِيلِ ، وَهَذَا الْقَلِيلُ فِي حَالَةِ شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ ، كَحَالَةِ الْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ، مِنْ قُوَّةِ الْمُعَارِضِين ، وَكَثْرَةِ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ – فِتنِ الشُّبُهَاتِ والشكوكِ وَالْإِلْحَادِ ، وَفِتَنِ الشَّهَوَاتِ – وَانْصِرَافِ الْخَلْقِ إلَى الدُّنْيَا وانهماكِهِم فِيهَا ، ظاهرًا وباطنًا وَضَعفِ الْإِيمَانِ ، وَشِدَّةِ التَّفَرُّدِ لِقِلَّةِ الْمُعَينِ والمُساعدِ ، وَلَكِنَّ الْمُتَمَسِّكَ بِدَيْنِه ، الْقَائِمَ بِدَفْعِ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ وَالْعَوَائِقِ الَّتِي لَا يَصْمُدُ لَهَا إلَّا أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِين ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ الْمَتِينِ ، مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ ، وأرفعِهم عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً ، وَأَعْظَمِهِم عِنْدَه قدرًا. أيُّها المسلمون : وأَمَّا الْإِرْشَادُ فَإِنَّه إرْشَادٌ لِأَمَتِه ، أَنْ يُوطنوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَأَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَأَنَّ مَنْ اِقْتَحَم هَذِه العَقَبَاتِ ، وَصَبَرَ عَلَى دِينِهِ وَإِيمَانِه – مَعَ هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ – فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ، وسيعينُه مَوْلَاهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فَإِن الْمَعُونَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ .
أيُّها المسلمون: وَمَا أَشْبَهَ زَمَانَنَا هَذَا بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ ﷺ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا اسْمُهُ ، وَلَا مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا رَسْمُهُ ! إيمَانٌ ضَعِيفٌ ، وَقُلُوبٌ مُتَفَرِّقَةٌ ، وحكوماتٌ متشتتةٌ ، وعداواتٌ وبغضاءٌ بَاعَدْت بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَعْدَاءٌ ظَاهِرُون وباطنون ، يَعْمَلُون سِرًّا وعلنًا لِلْقَضَاءِ عَلَى الدِّينِ ، وَإلْحَادٌ ومادياتٌ جَرَفَت بخبيثِ تيارِها ، وأمواجِها المتلاطمةِ الشيوخَ وَالشُّبَّانَ ، ودعاياتٌ إلَى فَسَادِ الْأَخْلَاق ، وَالْقَضَاءِ عَلَى بَقِيَّةِ الرَّمَق ، ثُمّ إقْبَالُ النَّاسِ عَلَى زَخَارِفِ الدُّنْيَا ، وَبِحَيْث أَصْبَحْت هِي مَبْلَغُ عِلْمِهِم ، وَأَكْبَرُ هَمِّهِم وَلَهَا يَرْضَوْن وَيَغْضَبُون ، وَدعَايةٌ خَبِيثَةٌ للتزهيدِ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى تَعْمِيرِ الدُّنْيَا وتدميرِ الدِّين ، وَاحْتِقَارٌ وَاسْتِهْزَاءٌ بِالدَّيْن وَمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ، وَفَخْرٌ وفخفخةٌ ، واستكبارٌ بالمَدَنِياتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْإِلْحَادِ الَّتِي آثَارُهَا وَشَرَرُهَا وشرورها قَد شَاهدَه الْعِبَادُ ، فَمَع هَذِهِ الشُّرُورِ المتراكمةِ ، والأمواجِ المتلاطمةِ ، والمزعجاتِ الْمُلِمَّةِ ، وَالْفِتَنِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُسْتَقْبِلَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ – مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَغَيْرِهَا – تَجِد مِصْدَاقَ هَذَا الْحَدِيثِ.
الخطبة الثانية
أيُّها المسلمون : ومَعَ ذَلِكَ فَإِنْ الْمُؤْمِنَ لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَلَا يَيْأَسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَلَا يَكُونُ نَظَرُهُ مقصورًا عَلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ ، بَلْ يَكُونُ متلفتًا فِي قَلْبِهِ كُلَّ وَقْتٍ إلَى مُسَبَّبِ الْأَسْبَاب ، الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ وَيَكُونُ الْفَرْجُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَوَعَدُه الَّذِي لَا يَخْلُفُهُ ، بِأَنَّه سَيَجْعَل اللَّهُ بَعْدَ عَسُر يسرًا ، وَإِنَّ الْفَرْجَ مَعَ الْكَرْبِ وَإِنَّ تَفْرِيجَ الكُرْباتِ مَعَ شِدَّةِ الكُرْباتِ وَحُلُولِ المفظعاتِ ، فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ ، وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَأَنْت الْمُسْتَعَان ، وَبِك المستغاثُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . وَيَقُوم بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالنُّصْحِ وَالدَّعْوَةِ ، ويقنعُ بِالْيَسِير إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْكَثِير ، وَبِزَوَالِ بَعْضِ الشَّرِّ وَتَخْفِيفِه ، إذَا تَعَذَّرَ غَيْرُ ذَلِكَ : قال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ) وقال سبحانه (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) وقال جلَّ وعلا (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يسراً ).
المشاهدات 1828 | التعليقات 2
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
يوسف العوض
مستفادة من بهجة قلوب الأبرار للشيخ ابن سعدي رحمه الله
تعديل التعليق